للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

الإمام ابن باز.. رجلٌ بأمَّة

للعلماء منزلة جليلة في دين الإسلام دونها بقية المنازل عدا الأنبياء؛ فقد

شرف الله تعالى العلماء ورفع أقدارهم وأعلى منازلهم. قال الله تعالى: [يَرْفَعِ اللَّهُ

الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] [المجادلة: ١١] .

وتتجلى مكانة العلماء في كونهم (ورثة الأنبياء) ، يسيرون على منهاجهم،

ويقتفون سننهم في رفع راية الإسلام، والدعوة إلى الله - تعالى -، والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، ورعاية حقوق الأمة.

ولا تزال الأمّة بخير ما دام فيها علماء ربانيون راسخون في العلم يسلكون

السبيل المستقيم، ويسيرون على المنهاج القويم، لا يضرهم من خذلهم ولا من

خالفهم.

ولذا كانت الرزية بفقد العلماء كبيرة، والخسارة بموتهم عظيمة. قال رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور

العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً

جهالاً فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) [١] .

ولقد رزئت الأمة الإسلامية في أواخر شهر الله المحرم بفقد إمامها وشيخها

(سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز) - رحمه الله رحمة واسعة -

وتزلزلت قلوب المؤمنين، واهتزت النفوس فرقاً عليه، وتصدعت قلوب الصالحين

حزناً وألماً، فوقْع المصيبة كان عظيماً، ولا غرو؛ فللإمام في النفوس مقامٌ سامٍ

وجليل.

تبكيه مكة والمشاعر كلها ... وحجيجها والنسك والإحرام

تبكيه طيبة والسهول ومن بها ... وعقيقها وجبالها الأعلام

تبكيه كل الأرض حزناً جامحاً ... غرباً وشرقاً أمة الإسلام

كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - مرآة صادقة لأئمة

السلف، وكان علماً شامخاً، ونجماً ساطعاً، وينبوعاً كريماً من ينابيع الخير

والحكمة، نذر نفسه لخدمة هذا الدين، وظلّ طيلة سنوات عمره مدافعاً عن الشريعة، ومنافحاً عن السنة، حريصاً على نصرة الحق، قائماً على العلم والتدريس ونشر

السنة وقمع البدعة والضلالة.

جمع سماحته الكثير من المزايا الكريمة والصفات الجليلة التي جعلته يتربع

على عرش العلم والدعوة ردحاً من الزمن، ولا يتسع هذا المقام لتتبع مناقبه ومآثره، ولكن حسبنا أن نشير هنا إشارات مختصرة إلى شيء يسير من خصائصه التي

تميز بها:

أولاً: من معالم منهجه العلمي:

جمع الله - تعالى - لإمامنا علماً عظيماً؛ فهو بحر من بحور العلم والفهم،

تميز - رحمه الله - بمنهج علمي غاية في القوة والأصالة، ومن خصاله في هذا

الباب:

١- عنايته القصوى بالدليل، وحرصه الكبير على تعظيم النص الشرعي،

والوقوف عند حدوده، وكان - رحمه الله - يُعنى عناية فائقة بمعرفة صحيح

الحديث من سقيمه، وبدراسة الأسانيد ومعرفة الرجال.

٢- كان - رحمه الله فقيهاً مجتهداً، وعالماً بصيراً، ومفتياً متيقظاً، ينأى

بنفسه عن التقليد الأعمى، ومع ذلك؛ فقد كان معظّماً لعلماء الأمة ومجتهديها من

المتقدمين والمتأخرين، يحرص على تتبع أقوالهم ودراسة اجتهاداتهم، ويُرجّح منها

ما يدلّ عليه الدليل الشرعي الصحيح، بكل تجرد وإنصاف، بعيداً عن التعصب

والمعاندة.

وكان من تورعه وإنصافه ينهى عن تقليده، ويحث أهل العلم القادرين على

الاجتهاد والنظر وضرورة الرجوع إلى الأدلة والنصوص الشرعية، والاهتداء

بهدي السلف الصالح - رضي الله عنهم.

لقد كان التقليد والالتزام بالمذهب صفة سائدة في عصره عند كثير من العلماء

وطلاب العلم، ولكنه - رحمه الله - استطاع بعلمه الراسخ وفهمه الثاقب أن يكسر

جمود التقليد، وينهل من معين الكتاب والسنة النبوية، ويحيي مدرسة فقهاء

المحدّثين - رحمهم الله تعالى -، ومع ذلك كان يوصي طلاب العلم بضرورة التأني

والتورع، والحذر من الجرأة في الفتوى قبل استيفاء أدواتها واستكمال ضوابطها

وقواعدها العلمية.

٣- مراعاته التيسير والرفق بالناس، وحرصه على التوسعة عليهم - قدر

الطاقة - بعلم وحكمة، وكان - رحمه الله تعالى - شفيقاً رفيقاً حريصاً حرصاً

شديداً على إزالة الحرج ورفع المشقة عنهم، وله نصيب وافر من قول الإمام سفيان

الثوري: (إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد) [٢] .

٤- تحريه وتثبته في جميع المسائل؛ فكثيراً ما تراه يطيل النظر والتأمل،

وكثيراً ما يعمد إلى البحث والمراجعة، ولا يتحرج على الإطلاق من استشارة غيره

من العلماء؛ بل قد يستشير بعض النابهين من تلاميذه وأصحابه. وكان من شدة

رسوخه في العلم، وشدة تورعه وتجرده يتحرى الحق ولا يتردد في الرجوع عن

بعض أقواله إذا تبيّن له الحق في قول آخر.

٥- مراعاته للمصالح الشرعية للناس، وحرصه على درء المفاسد عنهم قدر

الإمكان، مع حرصه الشديد على سد أبواب الذرائع التي قد توصلهم إلى المفاسد.

ثانياً: من معالم منهجه الدعوي:

كان الشيخ علماً من أعلام الدعوة، ورأساً من رؤوس الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر، ومن معالم منهاجه الدعوي:

١- إلمامه بأحوال العصر ومتغيراته، وحرصه على تتبع أحوال المسلمين

وأخبارهم، وإدراكه لكثير من المكائد والدسائس التي يكيدها أعداء الله - تعالى -

على الأمة الإسلامية. ولقد كان سماحة الشيخ واسع الأفق، كثير الاطلاع، بصيراً

بأحوال المسلمين، وكان الدعاة والمصلحون من المشرق والمغرب يلجؤون إليه

لإطلاعه على أحوالهم، والاستئناس برأيه، وأخذ مشورته، فكان - رحمه الله -

يفتح قلبه لهم، ويصغي إليهم بعناية، ويُقبِل عليهم بحرص، ويُخلص لهم النصيحة، ويشدّ على أيديهم ويرفع من عزائمهم.

لقد كان الشيخ في وسط الأحداث التي تمر بها الأمة الإسلامية، ولم يكن في

يوم من الأيام بمعزل عن آلامها وآمالها، بل كان في مقدمة السائرين، يحدوهم

بعلمه ودعوته، ويضرب لهم المثل السامي بحرصه وعنايته.

٢- من الصفات الجليلة التي لا تخفى عن الشيخ - رحمه الله - أنّه كان

صلباً قوياً، قوّالاً بالحق، يصدع بما يؤمن به دون تردد، آمراً بالمعروف، ناهياً

عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم. لقد كان الشيخ غيوراً على دين الله -

تعالى - يتمعر وجهه غضباً لله - عز وجل - إذا علم بمنكر من المنكرات، ومن

عرفه عن قرب عرف كيف أنه لا يزال منقبض الصدر مهموماً جاداً في إزالته،

ولهذا كان له القِدْح المعلّى في صد كثير من الفتن والمنكرات والأهواء، وظلّ ملاذاً

آمناً وركناً صلباً يلجأ إليه العلماء والدعاة والمصلحون في ردّ كثير من الشرور

والمفاسد.

٣- تميّز سماحة الشيخ بالهمّة العالية، والعزيمة الصادقة فعمر أيامه بالدعوة

والبلاغ وإظهار الحق، لا تفتر له عزيمة، ولا تضعف له قناة، ساعاته كلها

يقضيها في العلم والتعليم والعمل، وأيامه حافلة بالطاعات والخيرات؛ فقد كان -

رحمه الله تعالى - مباركاً أينما كان، مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر.

ولمّا كبرت سنه، ورقّ عظمه، وأنهكه المرض، لم يزده ذلك إلا قوة وثباتاً

وحرصاً على أداء المعروف وبذل أسباب الخير، ولم يسترخِ أو يركن للراحة أو

الدعة، وكان أصحابه وجلساؤه من الشيب والشباب يتعبون ويملون؛ أما هو فإنه

كان يملك الجلد والمثابرة والصبر على الطاعة بهمّة عالية.

٤- كان همّ الدعوة يملأ عليه قلبه، ويشغل فكره، وكثيراً ما يوصي العلماء

والقضاة والدعاة بضرورة الحرص على تبليغ الشرع، وتعليم العلم، والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، وتراه يسأل أصحابه وطلابه دائماً عن دروسهم

وأنشطتهم، ويشجعهم على المواصلة والاستمرار، ويحذرهم من القعود أو الضعف

أو العجز، ويزوّدهم بتوصياته ونصائحه.

ثالثاً: من أخلاق الشيخ وآدابه:

تميز الإمام ابن باز - رحمه الله - بالأخلاق العالية والسجايا الكريمة والآداب

الرفيعة، وكان قدوة كريمة في سمته وأدبه ووقاره، أحيا للناس ما كانوا يسمعونه

عن آداب السلف الأُوَل - رضي الله عنهم -، ولهذا أحبه الناس حباً عظيماً،

وتعلقت قلوبهم بإجلاله وتقديره. ومن صفاته الأخلاقية - رحمه الله:

١- كان الشيخ زاهداً ورعاً، تعلّق قلبه بأعمال الآخرة، وما كان يشتغل فيما

يشتغل فيه غيره من الخاصة أو العامة من أمر الدنيا وشأنها، بل كان يتنزه

ويُعرض عنها، أقبلت عليه بزخارفها وأهوائها وجاهها، ولكنه أعرض عنها، ولم

يلتفت إليها، ولم تشغله عن آخرته.

وهذه الخلة الكريمة، والصفة العالية الرفيعة، رفعت قدره، وأعلت منزلته

عند جميع الناس.

٢- من الصفات المشهودة المتواترة عنه: تقديره لمخالفيه وأعذارهم،

وتحريه في انتقاء العبارات اللطيفة التي يبين فيها الحق، وكان يترفع عن الفحش

في القول، ولا يُعنّف، ولا يُشهّر، ولا ينتقص مخالفيه، وعلى الرغم من جفوة

بعضهم في الرد عليه، والقسوة في أساليبهم، بل وتجريحه والحط من قدره أحياناً؛

إلا أنه كان حليماً، كاظماً للغيظ، واسع الصدر، يقابل إساءتهم بالإحسان، ويدفع

شدتهم وغلظتهم باللين والرحمة، ويدعو لهم بالهداية والصلاح، وهذه الصفات

الجليلة أكسبته تقدير الناس، واعترافهم بفضله.

٣- عُرف عن الشيخ - رحمه الله - تواضعه ولين جانبه مع اللطف

والبشاشة وحسن الخلق، وكان يبادر الناس بالسؤال عن أحوالهم وأهليهم، وفتح

أبوابه لاستقبال الناس كبيرهم وصغيرهم، أميرهم ومأمورهم، غنيهم وفقيرهم،

وكانت مجالسه من المجالس النادرة في هذا الزمان، تراها عامرة بأصناف الناس

وألوانهم، ومع ذلك كله تراه يُقبل على محدثه بإصغاء، ويكرمه بلطيف اهتمامه

وتقديره، ولا يتردد في مساعدته وقضاء حاجته على قدر طاقته.

وأخيراً:

لقد رحل الشيخ الإمام (عبد العزيز بن باز) وترك موقعاً شاغراً

وثغراً عظيماً، بعد أن أحيا منهج سلف الأمة، وقدّم أنموذجاً متميزاً للعالم العامل.

لم يكن الشيخ محدثاً فقيهاً فحسب، ولم يكن داعية مجاهداً فحسب، ولم يكن

مفتياً فطناً فحسب، ولم يكن عابداً زاهداً فحسب؛ بل كان مدرسة متكاملة جمعت

أصنافاً من الخير؛ فهو عالم العلماء، وإمام الفقهاء، وشيخ المصلحين، وقائد

الدعاة في هذا العصر.

رحل الشيخ وترك وراءه أمانة عظيمة ينوء بحملها أولو القوة؛ فقد كان رجلاً

بأمّة. وعلى العلماء من بعده مسؤولية كبيرة، والواجب عليهم أن يتعاونوا ويأتلفوا

ويقوّي بعضهم بعضاً.

نسأل الله - تعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لشيخنا وإمامنا،

ويرفع درجته ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويرزقه الفردوس الأعلى من

الجنة، وأن يأجرنا في مصيبتنا، ويخلفنا خيراً منها. وصلى الله على محمد وآله

وسلم.


(١) البخاري، ح /١٠٠، ومسلم، ح /٢٦٧٣.
(٢) جامع بيان العلم (١/٧٨٤) .