للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

[أخرجوهم ... فإنهم مسلمون]

جعفر شيخ إدريس

كان هدف الطائفة الحاقدة من الصرب ممثلة في رئيسها الدكتاتور المغرور

المستكبر الكذاب ميلوسيفتش ومن معه هو إخراج المسلمين جميعاً من كوسوفا، بل

ومن أوروبا كلها إن أمكن، بل ومحوهم من على ظهر الأرض إن استطاعوا إلى

ذلك سبيلاً.

وكان السبب - المعلن على الأقل - لدول الناتو في قصفها ليوغسلافيا هو رد

هذا البغي الصربي عن المسلمين (أو الكوسوفيين من أصل ألباني كما يسمونهم) وأن

يضمنوا لهم شيئاً من الحكم الذاتي الذي يحقق لهم شيئاً من الاستقلال والمحافظة

على هويتهم.

وربما كان المتوقع أن يستجيب ميلوسيفتش لمطالب الناتو بمجرد أن يرى

الصواريخ تمطر على بلاده ناراً تحطم الجسور وبعض المباني، وتلحق بالبلاد

بعض الأضرار الاقتصادية، لكن هذا لم يحدث، بل الذي حدث أنه بينما كان الناتو

يقصف بلاده كان هو يزيد من نشاطه ضد المسلمين، فيرسل مزيداً من قواته

المعتدية على المسلمين في كوسوفا لتواصل مهمتها الإجرامية في قتل الشباب،

واغتصاب النساء، وتجويع الشيوخ والأطفال، وإجلاء الجميع عن بلادهم،

ليتفرقوا أيدي سبأ في أوروبا وأمريكا، وكان الناتو يعزو عدم قصفه للقوات

الصربية في كوسوفا إلى سوء الأحوال الجوية تارة، وبأنهم مستخفون لا تعرف

أماكنهم تارة، وبأن الأمر يحتاج إلى تدخل قوات برية تارة ثالثة، وأنهم حريصون

حتى الآن على عدم زج قواتهم البرية في هذه الحرب خوفاً من كثرة الضحايا التي

ربما إذا رأتها الشعوب الأوروبية والأمريكية صارت معارضة للحرب كما حدث في

الصومال.

فماذا بعد هذا [١] ؟

قد يوافق الدكتاتور الصربي على مطالب الناتو بعد أن يضمن أن كوسوفا قد

خلت من المسلمين أو كادت، فهل ترضى دول الناتو بهذا، فتوقف قصفها وتنهي

حربها؟ لئن فعلت لتظهرن أمام شعوبها بأنها قد خابت في مهمتها الأساسية التي

كانت قد سوغت لهم بها قصفها، وما أظن أن هذه نتيجة تقبل بها هذه الدول؟ لأنها

تعلم أن لها آثاراً بالغة في نفوس شعوبها، إنها ستقلل - لا محالة - من إيمان

شعوبها بإنسانية حضارتها، وتضعف من ثقتها بحكوماتها كما حدث حين إخفاقها في

إنصاف المسلمين في البوسنة والهرسك.

ستحاول هذه الدول - إذن - أن تعيد الكوسوفيين المشرَّدين إلى بلادهم،

ولكن هل سيرجعون طائعين؟

إذا كان الرجوع إلى بلد لا يزال تحت سلطان الصرب بأي شكل كان، فما

أراهم فاعلين بعد أن ذاقوا ما ذاقوا على أيديهم من الظلم والإذلال والهوان، وإذا لم

يرجعوا فإن الناتو يكون قد أخفق مهما حاول بإلقاء اللوم عليهم؛ لأن دوافعهم في

عدم الرجوع ستكون بادية لكل عاقل. نعم، إن وجود القوات الدولية ربما يطمئنهم

بعض الشيء، وربما أغرى بعضهم بالرجوع، لكن الكثيرين سيتساءلون وهم

محقون: إلى متى ستبقى هذه القوات؟ إنه مهما طال أمد بقائها فإنه لا فائدة فيه في

نهاية الأمر إذا كانت كوسوفا ستعود جزءاً من يوغسلافيا. قد يقال: إنها ستبقى

حتى يزول الطاغية الكذاب، لكن هذا - أيضاً - لن يجدي كثيرا؛ لأن الطاغية

وراءه أناس من نوعه هم الذين يؤيدونه الآن، وهم الذين ازداد تأييدهم له بعد

حرب الناتو له، فما أظن إلا أنهم سيستمرون في سياسته بشاكلة من الأشكال.

وعليه، فإن الضمان الوحيد لرجوع الكوسوفيين واستقرارهم في بلادهم هو

الانفصال الكامل عن يوغسلافيا ليختاروا بعد ذلك أن يكونوا دولة مستقلة أو أن

ينضموا إلى ألبانيا، فهل توافق دول الناتو على ذلك؟

إن لم تفعل ولم يرجع المسلمون إلى ديارهم فإن المتعصبين الصرب يكونون

قد حققوا هدفاً ثانياً من أهدافهم هو انسلاخ الكوسوفيين بعضهم أو أكثرهم عما تبقى

لهم من هوية إسلامية، لأن هذا هو الذي سيحدث لا محالة إذا ما تمزقوا شذر مذر

في بلاد غير إسلامية.

إن إخراج الكفرة المستكبرين للمسلمين المستضعفين من أرضهم ليس بالأمر

الجديد، بل هو سنة متبعة كما يبين القرآن الكريم. ربما ظن كثير من المسلمين أن

هذا إنما يحدث للمسلمين شديدي التمسك بدينهم، وأنهم إن أظهروا عدم الالتزام

بشرائع دينهم، فإن الكفرة المستكبرين سيتسامحون معهم. لكن هذا وهم كبير،

فهاهي ذي تجارب عصرنا تثبت لنا أن المستكبرين من الكفار لا يقبلون من المسلمين

حتى مجرد الانتساب للإسلام. لقد كان الشيوعيون أيام الاتحاد السوفييتي يضيقون

حتى بمجرد الأسماء الإسلامية، ودعك عما فوقها. إن الكفرة المستكبرين لا

يرضون عن المسلمين إلا إذا كانوا أمثالهم، فانسلخوا انسلاخاً كاملاً عن دينهم:

[قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا

أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ] [الأعراف: ٨٨] فشرط العودة إلى

الأرض هو العودة إلى الكفر.

وإذا كان هذا قد حدث لمسلمي كوسوفا، فهل يحدث مثله لأقليات مسلمة أو

لمسلمين مستضعفين في أماكن أخرى من العالم؟ هذا أمر ينبغي أن تتدبره تلك

الأقليات، وأن تفكر منذ الآن في كيفية الحفاظ على دينها وشرفها.

إنه لا مناص من مثل هذا المصير لمسلمين يختارون العيش بين ظهراني هذا

النوع من الكافرين إلا أن تكون لهم قوة ذاتية أو قوة خارجية يرهبون بها عدو الله

وعدوهم.

إن أمثال هؤلاء الأعداء لا يجدي معهم منطق ولا حوار، لأنهم مدفوعون -

والإعاذة بالله - بكراهية شديدة للحق والطهر:

[وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى] [فصلت: ١٧] .

[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] [محمد: ٩] .

إن هؤلاء الكارهين للحق والطهر مستعدون - بتسويل الشيطان لهم - أن

يضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الباطل والفساد. لكن عقاب الله لهم بالمرصاد في

هذه الدنيا قبل الآخرة.

[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ واللَّهُ

يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ]

[محمد ٢٦، ٢٧] .


(١) كتب هذا في ٢١ محرم ١٤٢٠ هـ الموافق ٦ إبريل ١٩٩٩ م.