للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قراءة في كتاب

مصر والحرب القادمة [*]

قراءة في فكر علماء الاستراتيجية

عرض: وائل عبد الغني

المؤلف: أ. د. حامد ربيع.

الناشر: دار الوفاء مصر.

أعدها للنشر: جمال عبد الهادي- الشيخ عبد الراضي أمين.

بين آونة وأخرى يثور تساؤل في الأوساط المصرية: هل ستقوم حرب بين

مصر وإسرائيل، أم لا؟ ومع أن الأسس الموضوعية للبحث في القضية تؤكد أن

الحرب قادمة؛ إلا أن التوقيت يثير جدلاً واسعاً:

فهناك رأي بأن الحرب قاب قوسين أو أدنى، ويدل أصحابه على ذلك

بالتطورات المتسارعة التي تجري على الساحة [١] ، ويبرزون من أجل ذلك

عناصر القوة الإسرائيلية والصهيونية، كما يبرزون عناصر الضعف العربي.

وهناك رأي مغاير يستبعد حدوث الحرب في الأمد القريب، ويعتبر أصحابُ

هذا الرأي أن الأمر من قبيل الحرب النفسية التي تُشنّ على العقول العربية،

ويدلون على هذا بأن كثيراً من الأمور المؤثرة في نتيجة الحرب لم تزل ظنية ولم

تحسم بعد، ويبرزون من عوامل الضعف في الجسد الصهيوني ما يرجح رأيهم،

ويفسرون ما يحدث بأنه نوع من التلويح بالقوة من أجل الردع لدفع الخصم نحو

مزيد من التنازلات.

ويبقى موعد الحرب رهن التطورات والمتغيرات.

لكن كلا الرأيين يعكس ما ذكره الكاتب من حقيقةٍ استخلصها من جميع صور

الصراع التي دارت بين العرب وإسرائيل وفصوله؛ وهي أنه لم يكن لدينا فكر

استراتيجي يفصل بين الثوابت والمتغيرات ويحسم قدر التنازلات، ويحدد مهام

ووظائف كل مرحلة.

وبين يدينا في هذا الكتاب قراءة في فكر د. حامد ربيع - رحمه الله - وهو

من المتخصصين في هذا الجانب مع ما تتميز به كتاباته من دقة وغيرة وإخلاص

وصراحة ووضوح، في سلسلة مقالاته التي حواها الكتاب. وهو يعرض نظرته

المستقبلية لاحتمال الحرب، ويستهل قائلاً:

في تاريخ كل أمة تمر لحظة معينة فإذا بها تصاب بنوع من الغشاوة الحقيقية،

تضطرب مفاهيمها، ويصيب مدركاتها عدم الوضوح، ويسيطر على عقلها عدم

الصلاحية! أما قياداتها بجميع مستوياتها فهي مهلهلة، لا تدري أين الطريق

الصحيح؛ قيادات سياسية فقدت الوعي، وقيادات عسكرية يصيبها الترهل! أما

عن القيادات الثقافية، فهي لم تعد سوى أبواق تهلل وترقص وتطبل!

والمؤرخ يقف إزاء تلك الظاهرة في حالة ذهول: كيف حدث ذلك، ولماذا

حدث؟

هذه أمة تملك تقاليدها الواضحة الصريحة المقننة فإذا بها قد أصاب الاختلال

كل مفاهيم (الأمن القومي) لها!

لقد حدث هذا في التاريخ البشري مراراً؛ في فرنسا قبيل الحرب العالمية

الثانية، وفي ألمانيا أوائل القرن الماضي.

فهل سوف يقدر لنا أن نعاصر نموذجاً آخر في الأعوام القادمة في منطقة

الشرق الأوسط - يعني حرباً إسرائيلية عربية وبالذات مع مصر -؟

ويتساءل عن خصائص السياسة الإسرائيلية خلال فترة ما بعد اتفاقيات السلام: هل هذه السياسة تعبير عن قناعة بالسلام؟ !

ثم يستخلص بإيجاز المبادئ التي سيطرت على سياسة تل أبيب منذ عملية

السلام وحتى اليوم؛ وقد ميز فيها بين ثلاث دوائر متداخلة:

- دائرة العلاقات المصرية الإسرائيلية.

- دائرة العلاقات الإسرائيلية مع منطقة الشرق الأوسط.

- دائرة العلاقات المصرية الأمريكية.

وحول الدائرة الأولى رصد ثلاثة أدوار قامت عليها سياسة العدو تجاه مصر

منذ كامب ديفيد.

أولاً: تخريب مصر من الداخل؛ لأن في ذلك تقييداً لفاعليتها:

وهذا مبدأ قديم أعاد توظيفه كيسنجر من خلال: (النظر إلى السياسة الخارجية

على أنها أداة لتنفيذ السياسة الداخلية) ؛ والذي طورته السياسة الإسرائيلية إلى خطة

كاملة للتعامل مع مصر من خلال:

١- البحث عن نقاط الضعف في الداخل ومحاولة تضخيمها، وأخطرها:

الأزمة الاقتصادية - وأزمة القيم السياسية.

٢- التعامل مع عناصر التغيير التي تتمثل في: الشباب - العقول - القيادات.

ثانياً: عزل مصر عن المحيط العربي:

وكانت بداية هذا الدور عقب اتفاقية كامب ديفيد، وحاولت إسرائيل بعدها

تعميق هذا العزل لتجني من ورائه حرية الحركة في المنطقة وما يُبنى على ذلك من

آثار. وقد أعلنت إسرائيل أن روح اتفاقية كامب ديفيد تعني التخلي عن ميثاق

التعاون العسكري والدفاع المشترك بين مصر والدول العربية.

ثالثاً: إصابة وظيفة مصر الإقليمية بالشلل:

من خلال المبدأ الذي أقرته القيادة العمالية الإسرائيلية: (شد الأطراف) عن

طريق بناء روابط وثيقة ومتجانسة أساسها التحالف مع عواصم الجوار غير العربية

في المنطقة: (طهران - أنقرة - أديس أبابا) .

هذا التحالف يبدأ بعلاقات ثنائية - ثم إيجاد تجانس في المصالح، ومن ثم

التكتل ضد المنطقة لفرض إطار يحصرها، وهو ما يهدد دور مصر الإقليمي

والدولي.

ولما تمثله مصر من مركز ثقل في المنطقة بكثافتها السكانية - وقدراتها

العلمية، وموقعها الاستراتيجي، فإن تفريغ مصر من جميع عناصر القوة، وعزلها

عن محيطها العربي يعني أن حصارها في كل موضع تعودت أن تمارس فيه

وظيفتها القيادية منطلق طبيعي لإكمال عملية التخريب، وإذا لم تنجح إسرائيل في

تطويع الإرادة الشعبية فلا أقل من تلويث عقول الطبقة المثقفة الفاعلة إلى حين.

أما عن (الدائرة الثانية) وهي: عناصر السياسة الإسرائيلية في المنطقة

فأبرزها:

١- توريط دول المنطقة القوية: كما ورطت السادات في كامب ديفيد، وكما

أوقعت الأسد في مستنقع لبنان.

٢- تدعيم تجزئة دول العالم العربي: كما اتضح في لبنان، وكما هو واضح

في العراق والسودان اليوم.

٣- البدء بإنشاء إسرائيل الكبرى: وهذا يعكس صعود فلسفة جديدة في

إسرائيل، سنعرض لها بعد قليل.

وأما عن (الدائرة الثالثة) العلاقة الأمريكية المصرية: فتبلورت في سياساتٍ

أشعرت القيادات المصرية بنوع بالغ من الحرج والقلق وأهم مبادئها:

١- سيادة مفهوم التوتر والاضطراب في مصر بما لا يصل إلى حد الثورة

(الاضطراب المنضبط) .

٢- استخدام إسرائيل أداة أساسية في المنطقة؛ إذ أصبحت تمثل مقدمة

الحربة الأمريكية.

٣- معاملة مصر على أنها ثكنة لعملاء الحراسة.

٤- التعامل الاقتصادي القائم على فرض الوصاية على السياسات، والسيطرة

على الموارد واستنفاد الثروات.

وإذا تحددت السياسة الإسرائيلية على هذا النحو فلا بد أن نسلط الضوء على

مفردة أخرى في تحليلنا ذات أثر بالغ وهي:

* الفلسفة السياسية التي تسيطر على الإدراك الإسرائيلي الحاكم: فحينما زار

بيجن القاهرة، وقف أمام الأهرامات وقال: (هؤلاء أجدادنا بناة الأهرام) ! هذه

الجملة تعبير عن فلسفة بدأت تسود الطبقة الحاكمة في إسرائيل منذ عام ١٩٧٧م،

وأساسها: أن إسرائيل دولة شرق أوسطية بحكم وجودها أولاً، والتاريخ ثانياً،

وليست كما قيل من قبلُ عنها: إنها امتداد للحضارة الغربية الأوروبية. ويترتب

على هذه الفلسفة أنه من حق إسرائيل التحكم في هذه المنطقة وقيادتها تعبيراً عن

الوظيفة التاريخية للمجتمع اليهودي. وهذا التوجه الجديد ترتبت عليه نتائج بالغة

الخطورة، سواء على مستوى التخطيط أو من جهة الممارسة السياسية والنشاط

العسكري.

وكي تتضح الأمور أكثر فلا بد من تجلية الفلسفات الصهيونية التي تشكل

أرضية تحريك الأمور ووضع الخطط داخل إسرائيل؛ فنحن نجد تيارين فاعلين

داخل إسرائيل:

الأول: يعكس أفكار (بن جوريون) ويستمد أفكاره من التطور اليهودي في

شرق أوروبا ووسطها، والذي يرى أن إسرائيل هي دولة غربية وامتداد لحضارة

أوروبا؛ وهي الفلسفة التي يتبناها العماليون داخل إسرائيل.

الثاني: يستمد تقاليده الحقيقية من الدولة العلمانية من جانب، ومن إيطاليا

الفاشية من جانب آخر، ويعرف بـ (الاتجاه التصحيحي) الذي وضع أسسه

(جابوتنسكي) .

ويمكن أن نحلل الاختلاف بين التيارين كما يلي:

١- جابوتنسكي في تصوره للصهيونية جَعَلَ الدين اليهودي المحور الحقيقي

للصهيونية التي هي اليهودية في هذا القرن؛ أي أنهما حقيقة واحدة.

بينما يرى التوجه الاشتراكي (مدرسة بن جوريون) أن الصهيونية حصيلة

تطورٍ اندمجت فيه أربعة عناصر هي: (قيم اشتراكية - عنصرية - قومية - تعاليم

وتقاليد يهودية) ، وعلى هذا فالدين اليهودي هو أحد عناصر تكوين الصهيونية.

٢- إسرائيل في نظر (جابوتنسكي) تعني إعادة بناء مملكة إسرائيل وليس

مجرد قيام الدولة.

٣- الحركة التصحيحية تعلن عن أهدافها الحقيقية منذ البداية؛ وهي إقامة

مملكة إسرائيل الكبرى، أما فكرة التدرج التي يريدها التقليديون فلا موضع لها.

٤- السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف هو استخدام القوة بجميع تطبيقاتها؛ لأن

الصراع العسكري مرحلة أساسية في البناء القومي كي ينتقل الشعب من السلبية إلى

الإيجابية، ويكسبه ذلك احترام الذات.

٥- بالنسبة للسياسة الخارجية: فيرى فكر (بن جوريون) أن السياسة

الخارجية تُبنى على الأدوات المتاحة؛ فالإمكانيات المتاحة هي التي تحدد الأهداف،

بينما (الاتجاه التصحيحي) لا يؤمن إلا بتحقيق الأهداف؛ لذلك يسعى إلى تغيير

الإطار الدولي تحقيقاً لما يصبو إليه.

٦- (جابوتنسكي) كان مقتنعاً أن العالم العربي أكذوبة، وأنه لا يوجد سوى

عالم إسلامي في المنطقة.

٧- تطرف (جابوتنسكي) في نظرته إلى الحضارة الإسلامية؛ إذ كان يضعها

في ذيل الحضارات. وهذا التطرف ولّد فكرتين هما:

أ - أن الصراع في المنطقة بين إسلام متخلف ويهودية متقدمة!

ب - أن هذا الصراع لا يمكن التهرب منه.

٨- لا يمكن اعتبار إسرائيل امتداداً للحضارة الغربية؛ لأن جوهر التاريخ

الأوروبي هو استئصال اليهود.

وهكذا ظل فكر (جابوتنسكي) بعيداً عن السلطة حتى حمله بيجين معه إلى

السلطة، ليفرض نفسه على مقاليد الأمور.

وهنا نلفت النظر إلى حقائق لا يمكن تجاهلها:

١- أن التوليفة الحاكمة في إسرائيل تعكس انقلاباً حقيقياً يعبر عن وصول

القوى المحافظة إلى السلطة، وهي عبارة عن توليفة من اليمين التقليدي والقوى

الدينية تتوسطها المؤسسة الحاكمة.

٢- أن من يصنع القرار حتى في الكنيست ولجنة الأمن القومي هو من يمثل

القوى السياسية (الليكود - العمل - الحزب الديني (المقدال (.

٣- إسرائيل تلجأ في تنفيذ سياستها إلى مبدأ توزيع الأدوار؛ لهذا فلا يجوز

أن ننخدع ببعض التصريحات أو التعبيرات المتعاطفة؛ بل يجب أن نسأل: ممن

تصدر؟ ما وزنها الحقيقي على خريطة القوى السياسية المتحكمة في إسرائيل؟

٤- أن إسرائيل تعاصر حالياً مرحلة من التمركز في السلطة لم تعرفها في

تاريخها فالمؤسسة العسكرية هي التي تحرك الأمور في إسرائيل، والقائمون عليها

من المهنيين المتخصصين في المجال العسكري، مع ضعفهم في الإلمام بالمجالات

السياسية.

٥- الدولة بمفهومها الحقيقي اكتملت؛ حيث أضحت المؤسسات الثلاث:

(الجامعة، والجيش، والأداة الدبلوماسية) تعكس الوظيفة القومية ولا تشترك في

المهاترات الحزبية؛ فهي تعتبر المحور الحقيقي للتطور الذي تعيشه إسرائيل، ومع

صعود ليكود إلى السلطة حدث تطور خطير في القناعة القيادية وفي مفهوم ممارسة

السلطة في ثلاثة أبعاد:

١- تهذيب المفاهيم التي سادت في إسرائيل آنفاً.

٢- هذا التهذيب أقرب إلى الواقع الاجتماعي من كونه فلسفة؛ بحيث تعبر

بصدق عن حقيقة تلك القوى التي تسود الواقع الإسرائيلي.

٣- أن محور هذا التطور الحقيقي هو النظرة إلى إسرائيل على أنها دولة

شرق أوسطية، وهكذا أثرت المعطيات السابقة في تشكيل عناصر السياسة

الخارجية الجديدة كما يلي:

١- أن القيم الجديدة هي التي أصبحت تحكم التحركات الإسرائيلية.

٢- تسريب هذه المفاهيم إلى الإدراك العربي، حتى يسهل التعامل معه من

خلالها.

٣- التعامل مع المنطقة العربية يجب أن ينبع من مفهوم القوة والعنف.

٤- الزعم بأن إيران ضد إسرائيل غير صحيح؛ لأن هناك صداقة قديمة بين

الشعبين، وهناك ترابط حضاري بين الشعبين الفارسي واليهودي يجب أن يعود

للحياة ولو من منطلقات جديدة؛ وهذا التصور ينبغي أن يسري على تركيا لفرض

حصار عبر هذا المثلث على دول المنطقة لصالح إسرائيل.

٥- انقلاب محور العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؛ لتصبح على شكل

تحالف قائم على الندية التي يفسرها حاجة الولايات المتحدة لإسرائيل، وليس

العكس.

وعلى ما سبق لا يمكن تحاشي الاصطدام بمصر بل هو مقصود لذاته، وبهذا

تجد إسرائيل نفسها مع أعداء مصر في خندق واحد.

ولكن لماذا مصر بالذات دون دول المنطقة؟

والجواب يعكسه دور مصر الأساس الذي يتمثل في ثلاث وظائف هي:

- الوظيفة الحضارية.

- الوظيفة الإقليمية.

- الوظيفة العالمية.

وإسرائيل تفرق بين هذه الوظائف بدقة، وتدرك أنه لا دور لها في المنطقة

إلا على حساب مصر، إذن لا بد من الاصطدام في فرقعة للسلاح تضع حداً لوجود

إحداهما باعتباره مركزاً للثقل الدولي والإقليمي في المنطقة، ومع العوامل التي

ترجح كفة مصر - مثل كون إسرائيل دخيلة، وكونها تخدم مصالح دولة كبرى

وليس مصالح المنطقة - وكونها لا تملك المقومات الذاتية للدولة الرائدة - فلا بد من

التحرك للقضاء على دور مصر لتدعم وظيفتها، وهذا الدور لا يتحقق إلا بخدمة

مصالح وأهداف القوى العظمى، والثمن سلسلة من الأرقام الضخمة من المساعدات

والتسهيلات، وجعل إسرائيل مخزناً ضخماً للأسلحة من كل نوع لحمايتها.

وكون الترسانة العسكرية تضم هذا الكم والكيف من الأسلحة المتطورة

والاستراتيجية، فإن هذا لا يعني سوى الاستعداد لقتال يخرج عن صورة القتال

التقليدي لتحقيق التوسع ولحماية المصالح الأمريكية.

وهنا يجد الباحث صعوبة في تحليل ما يثار حول الترسانة العسكرية

الإسرائيلية وخصائصها الجديدة، وما يسرب من قبل المخابرات من معلومات غير

دقيقة أو خاطئة فهي تارة تأتي مبالغاً فيها لإحداث الخوف والرهبة، وتارة تأتي

بعيدة عن الموضوع لجذب الأنظار بعيداً عن حقيقة ما يجري.

لهذا كان على من يتعامل مع مثل هذه المعلومات أن يطبق قاعدتين:

الأولى: أن أي احتمال مهما ضعفت نسبة ترجيحه لا بد أن يؤخذ في الاعتبار

وأن تعدّ له العدة؛ مثال ذلك: ما طبقه الأمريكيون على نسبة احتمال نشوب حرب

نووية مع الاتحاد السوفييتي - عندما كان قائماً - فوجدوا أنه لا يتعدى ٢%، وأن

نصف هذه النسبة أساسه احتمالات حدوث اضطراب ذهني لمن يملك مفاتيح اتخاذ

القرار؛ وهذا يعني أن الاحتمال الحقيقي هو ١%، وهذا الاحتمال أساس مطلق

يفرض نفسه على التخطيط الاستراتيجي الأمريكي رغم ضآلته.

الثانية: أن تخطيط التعامل يجب أن يكون أساسه ما اتفق على تسميته (أسوأ

موقف للتعامل) .

من هنا يجب أن تبرز حسابات الحرب القادمة؛ وعلينا إزاء ذلك أن نجعل

من احتمال القتال مع إسرائيل ولو بنسبة ١% أساساً للتقدير، وأن ندخله في حسابنا

بخطة كاملة، وأن نملك استراتيجية مستقلة أساسها أسوأ موقف متصور.

ولا يعني تحليلنا للواقع الإسرائيلي إغفالنا عناصر الضعف الداخلي والإقليمي

والدولي للعدو؛ فهو لم يعد يملك القيادة الرائدة - وافتقدت الدولة التماسك

الأيديولوجي الذي اختفى منذ حرب لبنان؛ ولهذا فإن المشروع الصهيوني قد دخل

مرحلة التهلهل، ولكن علينا أن نتذكر أن الأعور وسط العميان ملك، فالضعف

العربي، والتموين الخارجي، والقدرة الصهيونية تصب كلها في صالح إسرائيل.

وإذا كانت تملك من عناصر الضعف الكثير، فهي تملك أيضاً من عناصر

القوة الكثير؛ وواجب القيادات نحو ذلك هو تحليل عناصر القوة لشلها، وعناصر

الضعف لتضخيمها.

ويضاف أيضاً إلى مرجحات الحرب أمر ذكرناه، وينبغي أن نؤكد عليه وهو: أن مقاليد الأمور اليوم في يد القيادة العسكرية المهيأة التي أفرزتها وعلّمتها حرب

لبنان. ومع امتلاكها للقنبلة النووية التكتيكية، بدأت هواجس الاستخدام النووي

تتزايد، ولم يعد أمام إسرائيل إلا الإجابة عن سؤالين يحسمان مسألة الحرب:

الأول: متى يجب أن تحارب إسرائيل؟ ويعني ذلك تحديد اللحظة التي

تكتمل فيها عناصر التطور، وهو أمر يرجع تحديده إلى القيادة القومية.

الثاني: كيف تحارب إسرائيل؟ بمعنى ما هو الأسلوب الأمثل للقتال؟ وما

هو خير أسلوب للقضاء على الخصم؟ وهو لا يعني فقط السلاح المستخدم؛ بل

يعني الأرض التي يجب أن تحتضنها الأداة المقاتلة أيضاً، فضلاً عن أسلوب إدارة

القتال.

وهذا السؤال ليس من حق أي أحد الإجابة عنه سوى المؤسسة العسكرية التي

أخذت في تطوير فلسفتها وأسلحتها في آن واحد، وقد بدأت الفلسفة في شكل انتزاع

الشرعية الإقليمية بقوة السلاح كما كان في عام ١٩٥٦م، أو تأديب القيادات التي

جرؤت على رفع راية العصيان ضد أمريكا كما في عام ١٩٦٧م. أما اليوم

فإسرائيل تريد الخروج من دورانها في فلك الإرادة العربية، وتملك هي الزمام،

وإذا كانت قد هزمت ٣ دول عربية في عام ١٩٦٧م، وهزمت أيضاً أكبر دولة

عربية على طاولة المفاوضات، وكان غايتها في الأمرين استئصال الإرادة المقاتلة

سواء عبر الحرب أو السلام، ولكنها أخفقت في عملية الاستئصال على مستوى

القيادات والشعوب في ١٩٧٣م، وعلى مستوى الشعوب من خلال اتفاقية كامب

ديفيد، ولذا فإن الإرادة الإسرائيلية ترجح خيار الحسم النووي لعدة أسباب:

١- أن الشعب المحارب في منطقة الشرق الأوسط قد ولد في أكثر من مكان.

٢- استفحال الأزمة الاقتصادية العنيفة التي تشهدها إسرائيل نتيجة لتزايد

الهجرات ومشاكل الأمن الداخلي، فهي على الأقل في حاجة لتوفير (٣٣ بليون

دولار سنوياً) لتحافظ على المستوى الاقتصادي المخطط له.

٣- نمو الحركات الجهادية الداخلية في فلسطين، والتي تتمثل في الانتفاضة

مما ضاعف الأعباء الاقتصادية، وهو ما يجعل القيادة اليهودية واضعة يدها على

زناد الحرب.

٤- صعود القوى اليمينية وسيطرة العناصر المهنية على المؤسسة العسكرية.

٥- تكدس السلاح في إسرائيل إلى حد لا يصدقه عقل مما ولّد جواً مشحوناً

بالرغبة في إظهار العضلات.

٦- تهيئة الأوضاع الدولية لصالح إسرائيل.

وعلى جانب آخر؛ فهناك متغيرات في عناصر التفوق العسكري الإسرائيلي

زادت من هذه الاحتمالية:

أ - جعل أساس خيار الاستراتيجية الخيار النووي.

ب - التطوير العنيف في السلاحين الكيماوي والجرثومي.

ج - وضع قواعد تسمح باستخدام سلاح الصواريخ بأقصى فاعلية.

د - إضافة مبدأ تطوير السلاح البحري والتحكم في المداخل البحرية.

هـ - إدخال مفهوم الحرب النفسية باعتباره عنصراً رئيساً من عناصر

الإعداد للقتال.

كما أن هناك محفزات عربية تزيد الأمر سخونة، منها:

١- قدرة الشعوب العربية في الحصول على السلاح المتقدم.

٢- أن استخدام الصواريخ العربية في هجوم مفاجئ قد يحدث تفوقاً [٢] وقتياً

لصالح العرب.

٣- أن الكثرة التي تتميز بها الجيوش العربية لها اعتبارها في ميزان الحروب، فرغم أن العبرة بالكيف، ولكن الكمّ عند حد معين يتحول إلى كيف ويكون له

تأثيره، وهذا الأمر دافع للتفوق الإسرائيلي بالأساليب غير التقليدية.

كما أن هناك مسوغاً قوياً آخر لخيار الحرب: وهو السلوك الاستفزازي

العدواني الذي يتسم به السلوك اليهودي سواء على مستوى الشخصية اليهودية أو

على مستوى الدولة (سلوك الصابرا) وهذا الأمر يرجعه المحللون إلى ثلاثة مصادر:

١- الشخصية اليهودية التاريخية.

٢- السلوك الأمريكي الذي عايشه اليهود وتأثروا بمنطقه وأثروا فيه.

٣- النازية في ألمانيا: والتي نبتت فيها القيادات اليهودية التي صاغت

الصهيونية.

هذا السلوك العدواني له تأثيره البالغ على الاستراتيجية القتالية الإسرائيلية من

جهة تكديس الأسلحة من كل نوع: نووي، كيماوي، جرثومي، صاروخي،

بحري، نفسي، تقليدي.

٤- تدهور القدرات القتالية للجندي الإسرائيلي، وخوف إسرائيل من امتلاك

العرب للسلاح النووي - مما يجعل أمر الحرب أكثر وروداً.

ولهذا؛ فإن إسرائيل تستعجل الحسم بعد امتلاكها للقنبلة التكتيكية التي تهدف

من وراء استخدامها إعادة تشكيل التوازن الإقليمي لصالحها.

بقي أن نذكر أن هذا الكلام قاله صاحبه عام ١٩٨٩م في سلسلة مقالات تم

جمعها في كتابٍ، ورغم الطول النسبي للفترة إلا أن التحليل الاستراتيجي والتفريق

بين الثوابت والمتغيرات يضفي على الكلام جانباً كبيراً من الموضوعية كما نرى

إلى اليوم، وإن كان من عادة واضعي الخطط في إسرائيل وضع السيناريوهات

التي تناسب جميع الظروف المحتملة وتطوير آليات العمل واغتنام الفرص.

والواضح من المعطيات الحالية أن إسرائيل تتبع أسلوب محاولة تكبيل الجسد

العربي وشل حركته عضواً عضواً مع قرع الرأس بين فترة وأخرى وتضييق

الخناق حول الرقبة لضمان عدم المقاومة الذاتية أو تداعي الأعضاء بعضها لبعض.


(*) سلسلة مقالات نشرت في صحيفة الوفد المصرية منذ فترة.
(١) كان المؤلف رحمه الله يتوقع حدوث الحرب حول عام ٩٥ أو ٩٧، والعسكريون عموماً يميلون إلى قرب الحرب.
(٢) إسرائيل تسعى دائماً للتفوق الاستراتيجي الكمي والنوعي على مجموع القوى العربية.