للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

كوسوفا الوجه الأخر

د. سامي محمد صالح الدلال

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على إمام المرسلين محمد

قائد المجاهدين وسيد العابدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

قالوا: إن المسلمين في كوسوفا قد وقع عليهم ظلم شديد واضطهاد عظيم من

قِبَلِ الصرب النصارى بقيادة (سلوبودان ميلوسوفيتش) ، فأعمل فيهم القتل الرهيب

رجالاً ونساء وأطفالاً، ولم يستثن العُجّز والمسنين، وحفر القبور الجماعية، وشرد

الأهالي من بيوتهم ثم أحرقها أو أحرقها وهم فيها، وعاث في الأرض فساداً؛ وما

تفرق من عجائب الإجرام عبر القرون قد تجمع فيه وفي أتباعه وأشياعه من

الصرب العتاة المجرمين محترفي القتل وسفاكي الدماء؛ وذلك لتحقيق حلمه بإقامة

امبراطورية صربيا الكبرى.

قلنا: ما ذكرتموه كله صحيح، وأكثر منه قد حصل.

قالوا: إن النصارى في أنحاء أوروبا وأمريكا قد هالهم ما حدث، وأغاظهم ما

فعله الصرب في سكان كوسوفا المسلمين المسالمين، فتحركت في نفوسهم دوافع

الإنسانية واضطربت في قلوبهم كوامن الحقوق البشرية، فأعلنوا الحرب الصراح

على الصرب اليوغسلاف لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.

قلنا: ههنا محطتنا لمناقشة هذا الادعاء كي نميط اللثام عن الحقائق ونكشف

الغطاء عما يضطرم تحت هذا الكلام من الحرائق ولعلنا نجلو بعض ما قد غمض

ضمن ثلاثة وجوه:

الوجه الأول:

١ - إن أي قضية تحدث يكون طرفاها المسلمين من جهة، والنصارى

واليهود؛ أحدهما أو كلاهما، من جهة ثانية؛ هذه القضية وأمثالها ينبغي أن يُنظر

إليها، في إطار قوله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ

مِلَّتَهُمْ] [البقرة: ١٢٠] ، فالمسلمون لهم وجهة، وأهل الكتاب لهم وجهة،

والوجهتان مختلفتان غير متحدتين، قال - تعالى -: [وَلِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا]

[البقرة: ١٤٨] ، وليس أحدهما على استعداد لاتباع قبلة الآخر، قال - تعالى -:

[وَلَئِنْ أََتَيْتَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أََنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ]

[البقرة: ١٤٥] ، وإنهم ليودون أن ينخلع المسلمون عن دينهم فيعودوا كفاراً، قال

- تعالى -: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ

عِندِ أَنفُسِهِم] [البقرة: ١٠٩] . ليس هذا فحسب؛ بل إن اليهود والنصارى هم

أيضاً في مفترق طرق، لا يثق أحدهما بالآخر ولا يحبه ولا يريد له الخير، فهما

على شتات من الأمر، قال - تعالى -: [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى

شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ] [البقرة: ١١٣] ، وفي هذه الآية

بيان من الله - تعالى - لتناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم كما ذكر ذلك ابن

كثير في تفسيره ١/١٥٥؛ ولهذا السبب فإنهم تنافروا القبلة، كما قال تعالى: [وَمَا

بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ] [البقرة: ١٤٥] ، إلا أنهم إزاء المسلمين يقفون صفاً

واحداً وجبهة متراصة، قال - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ

وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي

القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [المائدة: ٥١] ، وقد بيّن الله - تعالى - أن اليهود لا يأمنون إلا

بحبل من الله وحبل من الناس. والناس اليوم هم النصارى الذين يقفون معهم

ويمدونهم بالمال والسلاح، قال - تعالى -: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ

بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ]

[آل عمران: ١١٢] ، وهم لا يبرحون الادعاء أمام المسلمين أن الجنة إنما هي لهم

وحدهم لا يشركهم المسلمون فيها أبداً.

قال - تعالى -: [وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ

أَمَانِيُّهُمْ] [البقرة: ١١١] ، بل الأكثر من ذلك أن اليهود احتجزوا الجنة لأنفسهم

فقط دون غيرهم من كل الملل، قال - تعالى -: [قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ

عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [البقرة: ٩٤] .

٢ - فإذا أخذنا كل ما ذكرناه بعين الاعتبار، وانطلقنا في فهم واقعنا من

المنظار القرآني والبيان الرباني وعقدنا العزم على أن نسير في تحليلاتنا كلها وفق

ما أعلمنا الله إياه من السنن الإلهية الثابتة والراسخة كما قال - تعالى -: [

اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ

سُنَّتََ الأَوَّلِينَ فَلَن تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] [فاطر: ٤٣] .

فإننا ومن خلال ذلك كله يتوضح لنا ما يلي:

- أن لليهود في الوقت الراهن مركز الثقل في القرارات السياسية الدولية

وخاصة أوروبا وأمريكا، وروسيا كذلك.

- أن مجلس الأمن القومي الأمريكي هو خليط من اليهود والنصارى، لكن

بأكثرية يهودية.

وهذا يعني أن الموقف الدولي المعلن بشأن مسلمي كوسوفا يقرره اليهود ثم

النصارى، ولكل منهما مصلحة في ذلك.

- فأما مصلحة اليهود فتكمن في إذكاء روح العداء والتباغض والتدابر بين

النصارى أنفسهم؛ حيث إن الصرب أرثوذوكس والآخرين بروتستانت وكاثوليك؛

فإيقاع الحرب بينهم يفرح اليهود؛ لأن في ذلك تشتيتاً لقوة النصارى وبعثرة

لاجتماعهم على يد واحدة.

- وأما النصارى فربما لم يفطنوا بعدُ إلى هذه الحقيقة، فاجتمعت مصلحتهم

ومصلحة اليهود على أهمية تصفية الكيانات الإسلامية في أوروبا، أو - على الأقل- احتوائها.

٣ - ومن هذا المنطلق فإننا نرى أن الحرب الحالية في البلقان تهدف إلى ما

يلي:

- بعد أن تم تحجيم المسلمين واحتواؤهم في البوسنة والهرسك من خلال اتفاقية

دايتون بشقيها السياسي والعسكري؛ فقد جاء دور المسلمين في كوسوفا لإدخالهم في

النفق نفسه الذي أدخل فيه مسلمو البوسنة والهرسك.

- وتأتي هذه الأحداث في السياق العام الذي تتحرك من خلاله أوروبا الموحدة

وأمريكا في إيجاد أوروبا (نقية) من المسلمين ومن الجيوب التي لا تنضوي تحت

مظلة الحلف الأطلسي (الناتو) ولعل ما يحدث الآن هو مرحلة من مراحل الوصول

إلى (النقاء) المزعوم.

- وبناء على ذلك فإن قوات الناتو ستقوم باحتلال إقليم كوسوفا بالقوة المسلحة، سواء كان ذلك من خلال الحرب البرية أو من خلال خضوع ميلوسوفيتش

للشروط الأطلسية تحت وطأة القصف الجوي المستمر الذي يحدث الآن؛ علماً أن

هذا القصف لا يقصد به تدمير القوات اليوغسلافية تدميراً شمولياً؛ بل إضعاف تلك

القوة مع إبقاء نواتها الحربية على قدرٍ مّا من الفاعلية؛ لأن ذلك سيعطي القوات

الأطلسية المسوّغ اللازم للبقاء طويلاً جداً في كوسوفا بحجة حمايتها من التهديد

اليوغسلافي، فلهذا لا بد من إبقاء يوغسلافيا على شيءٍ مّا من القوة الحربية لتحقيق

هذه الغاية، لكنها - أي يوغسلافيا - ستكون مُحتواة تماماً من خلال ما سيُفرض

عليها من شروط لإيقاف القصف الجوي الأطلسي، وستتضمن تلك الشروط:

(الانسحاب اليوغسلافي تماماً من إقليم كوسوفا، أو من بعضه في حال الاتفاق على

تقسيمه، وعودة ما تبقى من اللاجئين من ألبان كوسوفا أو بعض منهم إلى ديارهم،

وإحلال قوات دولية تحت مظلة الأمم المتحدة في إقليم كوسوفا، وإبقاء كوسوفا في

إطار الحكم الذاتي وعدم فصلها نهائياً عن يوغسلافيا) سيبقى هذا البند من الاتفاقات

القادمة محل نظر؛ لأن احتمال فصل كوسوفا عن يوغسلافيا هو احتمال وارد

ضمن شروط دولية معينة من أهمها أن لا تنشأ دولة إسلامية في كوسوفا؛ بل دولة

ذات دينين وعرقين، نصارى ومسلمين، وصرب وألبان (على غرار البوسنة

والهرسك) ؛ إذ إن ذلك يضمن بقاء القوات الدولية في ذلك الإقليم إلى زمن غير

مسمى بحجة تفادي وقوع حرب أهلية في الإقليم بين المسلمين والنصارى) .

- إن حلف الأطلسي في إطار مخططه يرمي إلى إطالة زمن الحرب إلى

أطول وقت ممكن وذلك بهدف إمكانية تطويرها لتشمل كافة دول البلقان؛ بل

وبعض دول حلف وارسو سابقاً، وذلك ليحقق عدة أهداف منها:

- فيما يخص ألبانيا؛ فإن دخولها في الحرب - وقد دخلت الآن - معناه

الاستعانة الدائمة بقوات حلف شمال الأطلسي، ليس في وقت الحرب فقط بل

مستقبلاً كذلك، أي بعد أن تضع الحرب أوزارها؛ حيث إنها ستبقى أبداً مهددة من

قِبَلِ يوغسلافيا التي ستحتفظ بشيءٍ مّا من القوة الحربية. وعلى هذا الأساس فإن

ألبانيا التي يشكل المسلمون فيها أكثر من ٩٠% ستبقى حبيسة الوجود العسكري

الأطلسي فيها مما سيفقدها حرية القرار السياسي، إضافة إلى أن المسلمين الألبان

سيشعرون باستمرار بحاجتهم لتلك الحماية مما يعني إزالة الحواجز النفسية

الإسلامية إزاء النصارى مما سيساعد على إتمام الذوبان الإسلامي في المحيط

الأوروبي النصراني. إضافة إلى ذلك فإن بقاء القوات الأطلسية في ألبانيا لحمايتها

من يوغسلافيا يجعل هذا البلد رهينة في يد الحلف الأطلسي للمساومة عليه في إطار

أية مواجهة إسلامية نصرانية كبرى تحدث في المستقبل إذا ما امتدت على مساحة

عالمية.

ب - لقد طلب حلف الأطلسي تسهيلات لمرور قواته وطائراته من بعض دول

حلف وارسو السابق كرومانيا وبلغاريا وهنغاريا وبولندا، وقد حصل الحلف على

موافقة هذه الدول مما يمهد لها الانضمام لهذا الحلف لاحقاً، (ولقد انضم بعضها

بالفعل مثل هنغاريا وبولندا والتشيك) والذي بدوره سيساعد على لف الحزام

الأطلسي حول روسيا من جهة الغرب؛ وبذلك يتم عزل روسيا نسبياً من الناحية

اللوجستية عسكرياً.

إن يوغسلافيا الحالية تعتبر آخر المعاقل المناصرة لروسيا في أوروبا، ولذلك

فإن تقليم أظافرها عسكرياً وإضعافها سياسياً يوجه ضربة في مقتل إلى هذا الحصن

الروسي الأخير في أوروبا، ويدق آخر مسمار في نعشه. إن يوغسلافيا ليست دولة

ضعيفة، وإن تحقيق إضعافها ليس أمراً هيناً؛ ولذلك فإن إطالة زمن الحرب يحقق

التوصل إلى الغاية المرجوة التي ذكرناها، إضافة إلى أنه يُحدث أثراً بالغاً في

الشعب اليوغسلافي يشعره دوماً بالهزيمة النفسية ويعيّشه ذلها؛ إذ كلما طال أمد

الحرب تعمق تحقيق هذا الهدف أكثر فأكثر، كما أن إطالة زمن الحرب يحقق

شروطاً تفاوضية أقوى بالنسبة لحلف الأطلسي التي قد تتضمن فرض حظر جوي

ضمن خطوط عرض معينة على غرار ما فعل بالعراق، إضافة إلى قيود اقتصادية

وعسكرية وربما سياسية كذلك.

٤ - لا يخفى أن الحروب الكبيرة لا تقتصر أسباب اندلاعها على مجرد

حصول أمور صغيرة، بل هي تهدف عادة إلى الانتقال من تلك الأمور الضئيلة إلى

مسرح المكاسب الكبيرة؛ وفي هذا الإطار فإن انتصار حلف الأطلسي في هذه

الحرب سيعني نقلة جديدة في مفهوم النظام العالمي الجديد. إن مفاد هذه النقلة هو

إرسال رسالة شمولية إلى جميع دول العالم بما فيها الصين وروسيا وكوريا الشمالية

وإيران بأن حلف الأطلسي سيفرض الهيمنة الغربية على العالم بالقوة، وأنه مستعد

لأجل ذلك للدخول في حروب ومعارك، وأن على الجميع أن يعي هذه الحقيقة،

وإلا فإن مصيره المحاصرة والإضعاف أو شن حرب عليه ليتعلم الدرس جيداً،

خاصة أن جميع العالم قد لاحظ أن النظام العالمي الجديد قد مر بحربين: الأولى:

الخليج، والثانية: كوسوفا الحالية؛ وليس ذلك فحسب، بل إن الرسالة التي يريد

حلف الأطلسي إفهامها لكل دول العالم هي أن عليها جميعاً أن لا تتخذ أي قرار مهما

كان نوعه لا يأخذ مصلحة الغرب بالحسبان. إنه يريد أن يجعل العالم جميعاً يعيش

تحت هاجس الخوف والرهبة.

الوجه الثاني:

يحسب كثير من الناس أن حرب كوسوفا الحالية قد تولدت مصادفة وأنها

ليست وليدة إعداد مسبق؛ حيث إن مسار الأحداث قد ساق إليها، والأمر لا يعدو

أكثر من ذلك. هذا بحسب رأيهم أو ظنهم، إلا أن الواقع خلاف ذلك؛ حيث إن هذا

النوع من الأحداث الكبرى غالباً ما يكون مندرجاً في مضامين المخططين

الاستراتيجيين؛ حيث إنهم يرسمون على الورق مخططاتهم المستقبلية ثم يخضعونها

للمناقشات المستفيضة، ويضعون لها الاحتمالات العديدة، ويتخيلون لها

السيناريوهات المختلفة، كي لا يؤخذوا على حين غرة أو يؤتوا من حيث لا

يحتسبون، ثم إنهم بعد ذلك كله يقومون بإجراء التدريبات اللازمة ليتأكدوا من

سلامة الخطط الموضوعة والإمكانيات الفعلية المتوفرة لتنفيذها، ولمعرفة مواقع

الثغرات فيها لتلافيها، أو لوضع الخطط البديلة، وكذلك يدرسون مختلف ردود

الفعل المحلية والإقليمية والدولية على كافة المستويات السياسية والعسكرية إضافة

إلى التأثيرات الاجتماعية والبيئية المحتملة.

وإذا كان مهندسو مشروع إقامة مجمع سكني يأخذون بعين الاعتبار كل

العوامل المؤثرة على مشروعهم، فمن باب أوْلى بطبيعة الحال أن يأخذ مهندسو

الحرب والقتل والموت والدمار كل ما ذكرته بعين الاعتبار، وهذه تعتبر من أبسط

الحقائق التي تستنتج منها الحقيقة الواضحة كالشمس في رابعة النهار أن حرب

كوسوفا هي حرب قد أُعد لها جيداً وخُطط لها بإحكام، ومما يؤكد هذه الحقيقة

الساطعة ما أعلن عنه بعض رجال الاستخبارات الروسية من أن حلف الأطلسي قد

أعد منذ سنوات خطة لغزو البلقان وأن موسكو كانت على علم بتفاصيلها، وأن

قوات الناتو قد أجرت مناورات في جنوب أوروبا عام ١٩٩٠م تحت رمز

Display determination ديسبلاي ديتيرمينيشن، هدفها التدريب على خطة

الغزو انطلاقاً من إيطاليا (لكنها عُدّلتْ قليلاً في ضوء الأحداث الحالية) ، واعتمدت

المناورات على افتراض حدوث (كارثة إنسانية) يتعين بموجبها تقديم المساعدة إلى

ضحاياها (وقد حصلت هذه الكارثة بالفعل في إقليم كوسوفا المسلم) ، وعلى هذا

الأساس فإن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية في يوغسلافيا بين عامي ١٩٩٣

م، ١٩٩٧م فلاديمير زايتسيف قد أكد أن حلف الأطلسي يستعد لعملية برية واسعة

النطاق. ويشير زايتسيف إلى أن الاستخبارات الروسية قد حصلت في يناير عام

١٩٩٤م على وثيقة تميط اللثام عن خطط الناتو في يوغسلافيا ويقول: (وضعت

الولايات المتحدة سيناريو لاستغلال الصراع العرقي داخل يوغسلافيا، وهيأت

الظروف لنقل القوات الأمريكية من ألمانيا إلى البلقان) ، ويقول: (إن أحداث

كرواتيا والبوسنة جاءت متطابقة مع هذا السيناريو؛ إذ دخلت فرقة مدرعة أمريكية

البوسنة وفق اتفاقية دايتون لستة أشهر فقط، لكن مرت ثلاث سنوات من دون أن

تغادر القوات الأمريكية تلك المنطقة، بل أنشئت قاعدة جوية في توزلا ووقعت

اتفاقية مع سراييفو تنص على مرابطة القوات الأمريكية لمدة ٢٥ عاماً) .

وحسب ما ذكره زايتسيف فإن كوسوفا موقع مثالي لإقامة القواعد العسكرية من

الناحية الطبيعية؛ لأن الإقليم عبارة عن سهل، وسينتج من ذلك أن الولايات

المتحدة لا تريد كثافة سكانية في هذا الإقليم، وأن من مصلحة واشنطن ترحيل

الألبان من كوسوفا على أيدي الصرب؛ لأن قوات ميلوسوفيتش والسكان الصرب

سيتركون كوسوفا عاجلاً أم آجلاً فيصبح الإقليم بأسره قاعدة عسكرية. وبنجاح

المخطط فإن القوات الأمريكية المرابطة في البلقان ستتمكن من إخضاع خط

الإمدادات في البحر الأسود ومنطقة بحر قزوين الغنية بالنفط وفي آسيا الوسطى

لرقابتها. ثم يرسم زايتسيف خريطة للوضع في المنطقة بعد انتهاء عمليات الناتو

فيشير إلى أن الصرب سيتركون كوسوفا، وستعمل واشنطن على إسقاط نظام

ميلوسوفيتش توطئة لتنصيب نظام موال للغرب، ثم يعقب ذلك سيطرة الناتو الكاملة

على جنوب شرقي أوروبا وتجريد روسيا من مواقعها التاريخية في يوغسلافيا

والبلدان المجاورة، ويتوقع زايتسيف أن يؤدي نجاح عمليات الناتو في البلقان إلى

تسريع عجلة تفكيك معاهدة الأمن الجماعي بين روسيا ودول الاتحاد السوفييتي

السابق، فهذه الدول ستعجب بدور الأطلسي الفعال، وستطالب بإزاحة القوات

الروسية من أراضيها لتحل محلها قوات الناتو، ولذلك فإنه من تداعيات حرب

البلقان اندلاع الحركات الانفصالية في روسيا، خصوصاً في شمال القوقاز وحوض

الفولغا والمناطق الشمالية والشرق الأقصى (انظر صحيفة الرأي العام، عدد

١١٦٢١ بتاريخ ١٦/٤/١٩٩٩م) .

ومن هذا يتبين لنا أن موضوع كوسوفا كان مدبّراً مسبقاً، ومما يدل على ذلك

أن ميلوسوفيتش كان قد هدد قبل بدء حرب كوسوفا بأنه سيقوم بتهجير سكان

كوسوفا بمجرد أن يبدأ الناتو حربه ضد يوغسلافيا، وكان الغرب يعلم أن ذلك

سيحدث فعلاً، ولو كان سكان كوسوفا نصارى لكان هناك كلام آخر؛ وهذا معلوم

لكل ذي لب. وفي ظل تلك المخططات دخل ألبان كوسوفا في نفق التهجير والقتل

والتصفية، وبعد أن وقعت الكارثة الإنسانية المروعة خرج علينا وزير خارجية

ألمانيا ليقول: كيف سنسمح باحتفالات عيد الفصح والمسلمون يقتلون في كوسوفا؟ ! وهكذا انطبق على ما يجري قول من قال: يقتل القتيل ثم يمشي في جنازته! !

الوجه الثالث:

إن روسيا قد وقعت في موقف حرج للغاية إزاء تسلط حلف الأطلسي على

حليفتها يوغسلافيا، وأصبح موقفها متأرجحاً بطريقة لا تحسد عليها؛ فهي تريد أن

تقف عسكرياً مع يوغسلافيا إلا أن تداعي اقتصادها يحول بينها وبين ذلك؛ إذ إنها

لا تملك أن تدفع رواتب جيشها منذ شهور عدة، وإن الروح المعنوية لقواتها

المسلحة في الحضيض، غير أن الشيوعيين في مجلس الدوما الذي يسيطرون عليه

يضغطون بشدة على القيادة السياسية لتتخذ موقفاً أكثر تصلباً من الهجوم الأطلسي

على يوغسلافيا، إلا أن القيادة السياسية لا تملك أية أوراق ضغط يمكن أن تضعها

على الطاولة، ولذلك فإنها أسيرة هذا الضعف الشديد، بل حتى لو أرادت أن

تستعمل حق الفيتو في مجلس الأمن في أية قضية تخص كوسوفا فإن الغرب يملك

أدوات الضغط الاقتصادية وخاصة عن طريق البنك الدولي ليعرقل هذا الاستخدام

للفيتو. ولكن إلى متى تستطيع القيادة الروسية السياسية الصمود إزاء الضغط

الشيوعي في الدوما؟ هذا السؤال يحاول يلتسين أن يجيب عنه من طريقين:

الأول: اتخاذ مواقف متصلبة ضد الغرب ثم التراجع عنها، فيرضي الطرفين، حيناً هذا وحيناً ذاك.

الثاني: قد يسمح الغرب ليلتسين باستعمال الفيتو ليدعم موقفه في الدوما،

وذلك مقابل مقايضات سرية يدفع ثمنها الكرملين حالياً أو مستقبلاً.

إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل من الممكن أن تنقلب المعادلة التي

يحاول الكرملين إبقاء توازنها؟

الجواب: نعم، وذلك إذا قام الجيش بانقلاب عسكري، وفي هذه الحالة فإن

بوابة الاحتمالات ستنفتح على مصراعيها، وسيزداد الوضع الاقتصادي سوءاً ما لم

يدعمه الغرب، لكن المصيبة الكبرى تحدث حين يقرر الجيش الدخول في المغامرة

الخطيرة إلى نهايتها ويقلب الطاولة رأساً على عقب ويقرر مساندة يوغسلافيا

عسكرياً.

وبما أن ذلك لن يكون له أي تأثير إلا إذا قامر بالتلويح بالأسلحة النووية، فإن

هذا التوجه سيحدو بالغرب إلى أن يقابل الحديد بالحديد، أي هو أيضاً سيلوّح

بالأسلحة النووية، فعندها سيكون العالم على حافة كارثة مدمرة. ولا شك أن

العقلاء من كافة الأطراف سيصارعون جماح هذا التوجه بكل وسيلة متاحة، ولكن

يهودياً مجنوناً واحداً يعتلي كرسي الكرملين، قد يُدخل العالم في الأتون النووي،

وما يدرينا: هل سيكون الحصار البترولي على يوغسلافيا هو بوابة الصدام

الروسي الأطلسي المدمر؟

نسأل الله - تعالى - أن يجنب العالم هذه المحن، وينصر الإسلام والمسلمين

في كل مكان.

والحمد لله رب العالمين.