للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مصطلحات ومفاهيم

[التنوير]

د. محمد يحيى

شاع مصطلح (التنوير) ومشتقاته من استنارة ومستنير وما أشبه في طروحات

العلمانيين في الآونة الأخيرة، وقُذِف في وجه أصحاب الفكر الديني الإسلامي الذين

وُصفوا بمفهوم المخالفة - بالظلاميين وما شابهه من النعوت. وكاد المصطلح من

كثرة ما لاكته الألسنة أن يفقد أي معنى؛ بل لعله فقده بالفعل وتحوّل إلى لفظ من

ألفاظ الاستحسان والمجاملة التي تطلق على الأشخاص المراد مدحهم، أو تعلق على

الأفكار على سبيل التفخيم والتعظيم دون أن يكون له نصيب من المضمون والمعنى. وأدى هذا التطور بنفر من الإسلاميين إلى كراهية هذا المصطلح ورفضه مما

صب في نهاية الأمر في خانة أعداء الإسلام الذين هللوا للعثور على دليل جديد بأن

الإسلام لا يحب (النور) ويفضل الظلام والجهل والتخلف؛ بينما راح نفر آخر من

الإسلاميين يحاول التأكيد على أن الإسلام هو دين التنوير في جوهره ووفق مفهومه

هو للتنوير.

وفي خضم هذه المعركة الفكرية المشتبهة الملتبسة غاب عن الأذهان إلى حد

بعيد (أصل التنوير) باعتباره اسماً أطلق على مذهب، أو تياراً فكرياً فلسفياً محدداً

ساد في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي في فرنسا (وكان له الدور البعيد في

التمهيد للثورة على الملكية في ذلك البلد، ثم في الثورة الأمريكية التي تزامنت معها

تقريباً ضد الإنجليز) كما كان له فرع إنجليزي في الفترة نفسها تقريباً في فلسفات

العقلانية الإنجليزية والمذهب المعروف (بالألوهي) في العقيدة الدينية (المسيحية)

وهو الذي أطلق عليه اسم: (الدين العقلاني) .

وبصرف النظر عن التفاصيل والأسماء التاريخية الكثيرة المحيطة بهذا

المصطلح أو التيار الفكري (فولتير والموسوعيين الفرنسيين ويرأسهم ديديرو، أو

شافتسبري في إنجلترا ومعه جون لوك أو هوبز وأخيراً بركلي) فإن مما يغيب عن

الأذهان كذلك أن التنوير بالمعنى الدقيق في جوهره ارتبط بفكرتين أساسيتين قبل أن

تضاف إليه في الغرب ثم عندنا عشراتُ الأفكار الفرعية التي قد لا ترتبط بأصله

التاريخي ارتباطاً مباشراً. وهاتان الفكرتان الأساسيتان هما: العقلانية، ومحاربة

الخرافة والجهل التي ربطها أصحاب التنوير بالعقيدة المسيحية السائدة في الغرب

في ذلك الوقت وبالأصح بالكنائس هناك وممارساتها المختلفة. وهذه الفكرة هي ما

لخصت في تاريخ الفكر بعبارة: (العداء للكهنوت) .

والواقع أن العقلانية والعداء للكهنوت مرتبطان منطقياً وعضوياً في إطار فكر

عصر التنوير (وهو يسمى في اللغة الفرنسية (تفجر الأنوار) نسبة إلى كوكبة من

رجال الفكر المرموقين ذوي الأفكار العقلانية المتشابهة الذين ازدهروا هناك في

منتصف القرن الثامن عشر) ، لأن الفكرة العقلية تؤدي في حال الإيمان بها إلى

فضح المعتقدات والممارسات الكنسية التي لا تتسق مع العقل التي تنم عن الخرافة

والجهل اللذيْن يكرسهما الكهنوت الكنسي لخدمة مصالحه المادية وتعلقه بالنفوذ

الدنيوي.

مفهوم العقل إذن واتجاه (العقلانية) هو جوهر تيار أو فكر التنوير في أصله

الغربي؛ ولكن مفهوم العقل ذاته هو مفهوم خاص تشكل من عدة عناصر أو

توجهات نشأت في الفكر الغربي منذ عهد النهضة ووصلت إلى ذروتها في عهد

التنوير - منتصف القرن الثامن عشر - فقد كان هناك نقد الفكر والممارسة الكنسية

الكاثوليكية في العصور الوسطى: (عصمة البابوات، صكوك الغفران، احتكار

تفسير الإنجيل، فساد رجال الكنيسة، انتشار الخرافات، الخلافات العقدية العقيمة

التي كشفت فساد كل العقيدة، لُهاث الكنيسة وراء السلطة الزمنية وغلبة الطابع

الدنيوي عليها ... الخ) .

وصل هذا النقد إلى ذروته في عصر الإصلاح الديني كما أسمي هناك

بتركيزه على الفهم (العقلاني) للكتاب المقدس للمسيحية؛ ويعني: فهمه بمعزل عن

المؤثرات الكهنوتية المختلفة. وولد من رحم هذا الاتجاه نقد الكنيسة الكاثوليكية

(وهي الأكبر والأوحد في الغرب حتى ذلك العهد) وإن كان ذلك بالمعاكسة لتيار

أُسمي بـ (النقد المقدس) وهو اتجاه وصل إلى ذروته في القرن التاسع عشر وإن

كان قوياً وفاعلاً في الفترة التي أسميت بعصر التنوير. وهذا الاتجاه كان يعد

المؤثر الأكبر في تكوين مفهوم العقل والعقلانية؛ ويعني: تسليط مناهج الفحص

اللغوي والمنطقي ثم التاريخي بعد ذلك، والعلمي التجريبي - على نصوص الكتب

المقدسة عند المسيحيين.

ولقد أدى اتباع هذا المنهج من التحليل والنقد والدرس إلى الكشف عن

تناقضات كبرى وتباينات بين نسخ الكتب المقدسة وداخل النسخة الواحدة؛ فضلاً

عن مخالفات جسيمة للعلم التجريبي الطبيعي الذي كان ناشئاً في ذلك الوقت مع

اختلاط ذلك بتضاربات تاريخية وغلبة الخرافة والأقاويل على التاريخ الصحيح

الموثوق.

وبإيجاز: فقد زعزع النقد المقدس المنطلق من منهج علمي ومنطق لغوي (أو

ما عرف بالمنطلق (العقلاني) بالمخالفة مع (الإيماني) أو (الخرافي) أو (الكهنوتي [

في الثقة، بل مع الإيمان بتلك الكتب المقدسة، وأدى إلى اقتران مفهوم الدين

والعقيدة والقداسة ومعها الكنيسة ورجال الدين بنقائص الجهل والخرافة والاستبداد؛

فيما ارتبط المنهج العلمي التجريبي النقدي المنطقي بفضائل العلم والتقدم و (التنوير)

ووضع تحت مظلة اسم (العقل) . ومع هذه المكونات انضم تيار العلم المادي

الطبيعي التجريبي الذي كان قوياً وفي عنفوان ثقته بنفسه - ولا نقول غروره -

ليضاف إلى مفهوم العقل التنويري ومعه بقايا اتجاهات الفكر المادي الوثني الغربي

الذي يعود إلى عصور الفلسفة اليونانية والثقافة النابعة منها.

وبهذه المكونات الأساسية ومعها مكونات فلسفة التفكير والحس المشترك

والإدراك الإنجليزية نشأ وتكامل مفهوم العقل التنويري. والأهم من ذلك أنه نشأ

مرتبطاً بعداء دفين ضد فكرة الدين والعقيدة الدينية. وصحيح أن عداء هذا العقل

التنويري كان موجهاً في البداية ضد الدين المسيحي إلا أنه بعملية تعميم متسرعة

انسحب عداء (العقل) على كل الأديان وعقائد الألوهية. ولكن يلاحظ في هذا الصدد

أن مفهوماً معيناً لعقيدة الألوهية قد نشأ على هامش مبدأ العقلانية فيما قلنا إنه عرف

بمذهب (الألوهية) أو الدين العقلاني. ويعتقد هذا المذهب بوجود إله في الكون لكنه

يخالف تماماً العقائد المسيحية في هذا الصدد. وهذا الإله له وحدانية شاملة وصارمة

تكاد تشبه المفهوم العقدي الإسلامي؛ فهو صانع الكون؛ وأبلغ وأقوى الدلائل على

وجوده هي آياته الكونية المبسوطة في (كتاب الطبيعة) أو الوحي المشهود في وقت

أطاحت فيه الشكوك (بالوحي المقروء) أو الكتب المقدسة المسيحية.

غير أن هذا الإله في فكره الديني الألوهي أو الطبعي أو العقلي كان يشبه

تصور الإله في الفكر اليوناني عند أرسطو؛ لأنه معطل الصفات ولا يوحي بكتاب، كما أنه ليس قيّوماً على العالم بل يستغني عنه العالم الذي يدار بواسطة القوانين

الطبيعية (الأسباب والمسببات) وهي التي وضعها ذلك الصانع الأول ثم تركها تفعل

فعلها؛ فكان أشبه بصانع الساعة الذي ملأ نابضها ثم تركها ومضى. ولم يلبث هذا

المفهوم التعطيلي للإله في الدين العقلاني أن أدى بهذا الدين إلى مادية صرفة

تستغني بسهولة عن إله لا فعل له ولا أثر، وتحل محله قوانين المادة وهي التي

ينسب لها أصحابُ دين العقلِ الفعلَ الأصيلَ في الكون.

المفهوم المادي التجريبي العلمي للعقل ومعه العداء للدين - كل دين - وللوحي

السماوي وهيئات الدين ورجاله ورفض الجميع هو الميراث الأصلي والنهائي لعصر

التنوير الأوروبي، ولكن الدوائر العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي، وهي تعيد

طرح الشعار لترويجه، تمارس لعبة خداعية أمام الجماهير المسلمة وكذلك أمام

سلطات الحكم في بلدان عديدة سلمتها أعنة الأجهزة التعليمية والإعلامية والثقافية

واسعة النفوذ؛ فهم يقولون إنهم يطرحون التنوير بمعنى العلم والقراءة والمعرفة،

أو بمعنى تبديد الأفكار المنحرفة المغالية في الدين التي يزعمون أن التيارات

الإسلامية (وهم يصمونها بالسلفية والجامدة والجاهلة) تنشرها، ولكنهم في حقيقة

الأمر يُخفون المفهوم الأساس للتنوير الذي بسطناه فيما سبق، ومع ذلك فإن

الممارسات والكتابات الفعلية لأصحاب دعوى ومزاعم التنوير المعاصرين تكشف

عن أن المراد هو مصادمة ومعاداة الإسلام، وهم يسقطون على الإسلام - وليس به

كنيسة ولا كهنوت - التهم نفسها التي رآها أصحابهم الغربيون في دينهم المسيحي

منذ ما يزيد عن القرنين من مثالب أو عيوب. وعندما لا يجدون في الإسلام عيوباً

مشابهة فإنهم يصطنعونها ويخترعونها اختراعاً، وعندما تُعييهم الحيلة يلجؤون إلى

الخديعة؛ فالغيبيات في الإسلام ومعها عقيدة الألوهية - ولا يكابر عاقل في أنها

تتفق مع العقل والحس المشترك - هذه الغيبيات تتحول عندهم إلى خرافات ينبغي

تطهير الإسلام منها؛ وكأنه سيبقى فيه شيء بعد نزعها؛ والشريعة الإسلامية التي

بنيت أحكامها على مقاصد يفهمها العقل بل وأنيط استنباطها للعقل تتحول عندهم إلى

كهنوت وتحكّم كنسي يريدون تطويره وخلخلته بحجة مراعاة الواقع والعقل. وما

قامت الشريعة إلا لتهدي الواقع بالعقل.

لكن الفيصل في الموضوع كله هو مفهوم العقل الذي تنطوي عليه دعوة

التنوير؛ فنحن هنا أمام عقل مادي، أو قل ملحد يجعل من نفسه المفهوم الوحيد

للعقل، ويذهب إلى وصم كل رأي يختلف معه (مهما كان (معقولاً) أو مدعماً بالحجة

والمنطق والدليل) بأنه خرافة ووهم. هذه هي آفة دعوى التنوير في طرحها الأخير؛ وهي إذ تزعم لنفسها أنها تريد الديمقراطية والحرية تقيم استبدادية تسلطية في

مجال الفكر تزيد كثيراً عن عهد الإرهاب الذي نصبه التنوير الغربي لخصومه من

(الرجعيين) عندما وصل إلى الحكم - أو كاد - في الثورة الفرنسية.

إن ميراث التنوير الأوروبي هو العلمانية الغربية في شتى صورها، بل وفي

أكثر صورها شراسة وعداء للدين. والعلمانية المنتشرة في البلاد العربية؛ تنقل

هذا الجزء الأخير من الميراث لكنها تستره مرحلياً بدعاوى جذابة حول الحرية

والديمقراطية والعلم والمعرفة، ولا تعمل في دنيا الواقع بأي من هذه الدعاوى بل

تناقضها، ولعل الرد السليم على هذا الموضوع برمته هو الطريق الوسط بين

رفض كل مفاهيم العقل، والقبول السهل وغير النقدي بمزاعم دعاة (التنوير) .

إن الحل هو الإصرار على أن الإسلام دين التنوير بمعنى نور الإيمان

والوحي في وجه ظلام الكفر والوثنية، وهو دين العقل المقارن الموحّد المفكر، لا

العقل الملحد الناقل بلا نقد لخرافات الأقدمين بعد إلباسها ثوب (التنوير) زوراً.