للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[التدين في المجتمع الأمريكي]

د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني

والتدين في أمريكا قديم، صَاحَبَ الدولة منذ نشأتها؛ فكثير من المهاجرين

القدماء جاؤوا بعقائدهم معهم، وحاولوا المحافظة عليها وزراعتها في العالم الجديد.

يقول (ريتشارد لينجمن) : (كان جميع الراكبين على ظهر السفينة (مي فلاور) حين

وصول المهاجرين إلى بلايموث في ١٦٢٠م قد وقَّعوا ميثاقاً اتفقوا فيه على طاعة

قوانين المجتمع والطقوس الدينية) (لينجمن، ١٩٨٩، ٩٦) . ويقول في مكان

آخر: (كان هناك العديد من المناقشات الدينية العنيفة، وكان لدى المتزمتين احترام عميق للكلمة الحرفية في الإنجيل، وكان الوعاظ يلقون خطباً دينية تستغرق ساعات، وكان هناك دائماً أقلية متأهبة تجلس على مقاعد القضاء القاسية متحمسة للنقد والتعليق، وقد كانت تندلع الخلافات الدينية بتكرار؛ مما أدى إلى انقسام المجتمع إلى مجموعات متعارضة، ويمكن للنزاع أن يتشكل احتجاجاً على تفسيرات الكاهن للكتاب المقدس) (المصدر السابق: ٩٨) .

واعتقد كثير من الأمريكيين لمدة قرن بعد إعلان الدستور أنهم يعيشون في

دولة نصرانية، ولمزيد من التحديد: في دولة بروتستانتية (Sarna ٣٧١١٩٩٢) . ومن جهة أخرى وافقت المحكمة العليا (The Spreme Cort) في عام ١٨٩٢ م على أن أمريكا أمة نصرانية، والقاضي الذي كتب ذلك القرار ديفيد برور، D.

Breer وهو ابن لأحد دعاة النصرانية، دافع عن وجهة نظره في محاضرة

منشورة عنوانها: (الولايات المتحدة أمة نصرانية) ١٩٠٥م، ولقد عارض اليهود

هذه الفكرة وحاربوها بشدة؛ ولكن نجاحهم كان محدوداً (Ibid ٣٧٢) .

أما المفهوم التقريبي الذي يرى أن أمريكا دولة (يهودية نصرانية) والذي يشير

إلى القيم والمعتقدات المشتركة بين اليهود والنصارى فلم يتشكل إلا في القرن

العشرين، ويرى (مارك سلك، (M. Silk أن استعمال هذا المفهوم بدأ في

الثلاثينات من هذا القرن، ويرى أنه استعمل لمحاربة الفاشية؛ فالفاشيون كانوا

يعتبرون أنفسهم نصارى، ولهذا استخدم الفريق المعادي مصطلح (يهودي نصراني)

ليفرقوا بين أنفسهم وبين الفاشيين. وبمرور الزمن أصبح هذا المفهوم يعكس القيم

الغربية المشتركة، (Silk ١٩٨٨) .

وفي عام ١٩٢٠م اجتمع قادة البروتستانت والكاثوليك واليهود والتمسوا من

الشعب الأمريكي المساعدة في دعم الحرية الدينية وتجنيبها التعصب والعنصرية

والتَّزمُّت، وبعد سنوات أُسس المؤتمر الوطني لليهود والنصارى (National

Conference of Jes and Christians NCJC) ، ويشترك في رئاسته

ثلاثة أشخاص: بروتستانتي، وكاثوليكي، ويهودي، وينظم المؤتمر كثيراً من

اللقاءات والبرامج المشتركة، ودُعِم هذا المفهوم بعدد من الكتابات أشهرها: كتاب

ظهر في عام ١٩٥٥م كتبه يهودي اسمه (ول هربرج، (W. Herberg يذكر فيه

أن أمريكا أصبحت بوتقة انصهار ثلاثية؛ إشارةً إلى الأديان الثلاثة: الكاثوليكية،

والبروتستانتية، واليهودية، ومن يخرج عن أحدها فلا يعتبر أمريكياً (Sarna

١٩٩٢ ٣٧٣-٣٧٤) .

وواجه مفهوم (اليهودية النصرانية) ومفهوم (البروتستانتية الكاثوليكية اليهودية)

الكثير من الصعوبات بسبب تزايد الأديان التي لا تدخل تحت هاتين المظلتين،

ويأتي الإسلام في مقدمة تلك الأديان، وهو أحد أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا.

هذا وقد وجد عالما الاجتماع (ويد روف، ووليم مكيني (W. C. Roof W.

Mckinney في عام ١٩٨٥م أن غير اليهود وغير النصارى في المجتمع الأمريكي

يشكلون ضعف عدد اليهود، وهناك شخص واحد من كل عشرة أمريكيين لا يؤمن

بدين، وهذا يعني أن هناك على الأقل ١٣% من الأمريكيين لا تنطبق عليهم معايير

التدين الأمريكية، وهذا يمثل تضاعفاً في النسبة بمقدار أربع مرات في ثلاثين سنة

فقط، وتتوفر أسباب كثيرة للإيمان بأن هذه النسبة سوف تتزايد بسرعة في

المستقبل. (Roof Mckinney ١٩٨٧ ١٧)

وفي الأربعينات والخمسينات من القرن الميلادي الحالي وكما يقول (نيل

هاريس) : ظلت روح التَّزمُّت الديني قوية وفقاً للعديد من الفنانين والنقاد الذين

اعترفوا بأنه كانت هناك رقابة شديدة وصارمة على المواد التي تستثير الجنس،

وبعض الأعمال الأدبية المهمة لم يمكن نشرها بسبب مقاييس الرقابة الصارمة،

واستمر سماع الشكوى من قلة الاحتشام وفقدان الاحترام التي لاحظها كثير من

علماء الاجتماع في ذلك الوقت (هاريس، ١٩٨٩: ١٥٥) . ويؤكد هذه الملاحظة

(نورمان كوروين) في بحثه عن (الترفيه ووسائل الإعلام) حيث يقول: (ولم تكن

أمريكا اليافعة بهذا التحرر؛ لأن الدراما ولوقت طويل تعتبر من قِبَلِ المتزمتين

الذين ازدهروا في بوسطن وفيلادلفيا طريقاً سريعاً إلى جهنم، وفرض قانون طبق

في بنسلفانيا في هذه الفترة غرامة ٥٠٠ دولار لأي فرد يُقدِّم أو ُيمثِّل في مسرحية)

(كوروين، ١٩٨٩م: ٢٠٠) وكان يُنظر للمسرح في أواسط القرن الماضي على

أنه مدرسة للرذيلة والفساد، والذي يمر الآلاف من خلاله إلى أحضان الحماقة

واللهو والإسراف والخلاعة والخزي والدمار، وكثير من أصدقاء الرئيس (لنكولن)

كانوا يتمنون لو أنه قُتل في أي مكان غير المسرح (المصدر السابق: ٢٠٣) .

ولا صحة لما يدعيه الأمريكيون من فصل الدين عن الدولة؛ فكثير من

رؤسائهم كان له اهتمامات دينية؛ بل إن الدين يؤثر في سياساتهم وقراراتهم، وكان

(جورج واشنطون) يرى أن (الدين والمعنوية) دعامتان توأمان للمجتمع تقف عليهما

الشخصية والحضارة، وكان (فرانكلين) يحترم ما تحمله الكنائس بإجماع (مارتي،

١٩٨٩م، ٣٣٣) ، وكان الرئيس (ريجان) يؤمن بنبوءات الكتاب المقدس، وكان

يستخدم بعض المفاهيم والمصطلحات الدينية في خطبه وتصريحاته، وكان يُنظر

للرئيس (كارتر) على أنه من المتدينين والمحافظين، ومعظم الرؤساء يذهبون إلى

الكنائس في أيام الأحد، ويشهدون الاحتفالات الدينية.

ومما يميز أمريكا عن كثير من البلدان الغربية الأخرى أن أمريكا توفر حرية

التدين للجميع، وبدون قيود أو حدود، ما لم يهدد ذلك الأمن الوطني، فبإمكان

الشخص أنه يدعي أنه نبي، وأن يكون له أتباعه وجماعته الدينية، وأن يعبد ما

شاء من الآلهة: الأصنام المادية والمعنوية، ولن يتعرض له أحد بالعقاب أو

المساءلة، وهذا ما أسماه عالم الاجتماع (توماس لكمان) : (الخصوصية في التدين) ، وهذه الظاهرة واضحة لكل من يزور أمريكا ويعيش بين ظهراني أهلها، ويذكر

(مارتن مارتي) أن المظهر الأكثر تميزاً في الديانة الأمريكية هو (تعدد المعتقدات)

والتحولات الدينية وتعدد الأشكال؛ فأحد الكتب السنوية يعدد في أمريكا أكثر من

(٢٢٠) مائتين وعشرين تسمية للطوائف الدينية، وموسوعة حديثة لم تجد صعوبة

في ذكر (١٢٠٠) ألف ومائتي مجموعة دينية في أمريكا (مارتي، ١٩٨٩م: ٣٢٧) .

ويواصل (مارتي) حديثه عن ظاهرة التدين في المجتمع الأمريكي فيقول: ...

(ويشاهد المستطلعون والسياسيون الحقيقة بأن الأمريكيين يريدون أن يكونوا متدينين أو أن يفكروا في أنفسهم باعتبارهم أمةً (تحت رعاية الرب) فهم يرون الديانة

بطريقة ما مفيدة للحضارة والشخصية الخاصة والمدنية.. وكلا القطاعين العام

والخاص أشارا إلى تقديرهم للقوة الدينية في أمريكا؛ ففي خلال ازدهار العقارات

في منتصف القرن أصبح من خواص السماسرة الإعلان عن الأحياء الجديدة،

والمناطق الجديدة، واحتوائها ليس فقط على المدارس؛ ولكن مع وفرة بالكنائس

أيضاً (المصدر السابق: ٣٢٥ - ٣٢٦) .

ويرى (كيال) أن الاستيعاب في المجتمع الأمريكي يعني أن يدخل المهاجر في

أحد الأديان الثلاثة: البروتستانتية، أو الكاثوليكية، أو اليهودية، (كيال، ١٩٨٥:

٩١) . ويجد القادم إلى أمريكا جهوداً مكثفة - وخاصة من الفرق النصرانية - في

جذب القادمين الجدد إلى أمريكا إلى مذاهبهم؛ فتكثر المنشورات، وتكثر الزيارات

الشخصية إلى المنازل في محاولات جادة لإقناع الآخرين إلى الانضمام إلى المذهب

الذي يؤمنون به.

ويمكن من كل ما تقدم أن نخلص إلى أن المجتمع الأمريكي مجتمع متدين في

مجمله، وينتمي غالبية السكان إلى مذاهب وفرق دينية مختلفة.

وإذا كان المفهوم التقريبي الذي يرى أن أمريكا دولة (يهودية نصرانية) بدأ

استعماله في الثلاثينات من هذا القرن فإن هناك مفهوماً جديداً بدأ يتشكل الآن وهو

أن أمريكا دولة (يهودية نصرانية إسلامية) فالإسلام ينتشر بسرعة كبيرة هناك،

وسوف يصبح في المستقبل القريب الديانة الثانية بعد النصرانية، والعقلاء من

الأمريكيين يسعون إلى ترسيخ هذا المفهوم؛ لأن فيه مصلحة للبلاد، فسوف يؤدي

إلى مزيد من الأمن والاستقرار فيها، وسوف يساعد على مد مزيد من الجسور بين

الأمة الأمريكية والأمة الإسلامية التي يشكل سكانها ربع سكان العالم تقريباً، وإذا

كان هناك فئة سوف تقف ضد هذا المفهوم فهم اليهود الذين يودون أن يتفردوا

بالعلاقة مع الشعب الأمريكي؛ ليستمروا في استخدام قدراته وإمكاناته ضد العرب

والمسلمين.