للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستلهام الإبداعي]

لمفهوم التكريم الإنساني

د. أحمد عطية السعودي

ينعم الإنسان في الإسلام بمكانة لا نظير لها في الديانات والفلسفات والمذاهب

التي تدّعي حماية حقوقه، وصون كرامته، وإعلاء شانه.

لقد خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان متميزاً ومتفرداً في تكوينه وتركيبه

وتكليفه، وجعله جِبلَّة من الروح والعقل والجسم.

[وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ (٢٨)

فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] [الحجر: ٢٨، ٢٩] . فهو

قبضة من طين الأرض تتمثل فيها عناصر الأرض الماديّة ورغائبها وضروراتها،

ونفخة من روح الله تتمثل فيها إشراقة الروح الصّافية وقوّة الوعي المدركة وقدرة

النفس المريدة [١] .

وهذا الكيان المؤلف من قبضة الطين ونفخة الروح يمتزج امتزاجاً عجيباً،

ويرتبط ببعضه ارتباطاً وثيقاً، فتصدر عنه الأفعال بإرادة اللهومشيئته الذي ألهمه

الاستعداد الفطريّ لعبادته وحدَه، والقيام بمسؤولية الخلافة، وكرّمه وشرّفه ورزقه،

وسخّر له ما في السموات والأرض وفضّله على كثير من الخلق: [ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي

آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا

تَفْضِيلاً] [الإسراء: ٧٠] .

مظاهر التكريم الإنساني:

ومظاهر هذا التكريم والتشريف كثيرة لا تُحصى، عظيمة لا توصف؛ لما

فيهامن لطائف التدبير، ودقائق التقدير، وبدائع الخلق والتكوين، وعجائب الإحكام

والإنشاء، وروائع الكمال والجلال.

ومن ذلك التكريم:

١ - تميّز الإنسان بالعنصر الرّوحي:

فقد أودع الله - سبحانه - بين جنبي الإنسان قبساً علوياً منه ونفخة روحيّة

إلهية جعلت الملائكة تنحني له إجلالاً وإكباراً لأمر الله - جلّت قدرته -: [إذْ قَالَ

رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ (٧١) فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي

فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] [ص: ٧١، ٧٢] .

وهذه النفخة الروحيّة ليست خاصّة بآدم أبي البشر؛ بل هي في بنيه ونسله،

وهذا التكريم لشخص - آدم عليه السلام - هو تكريم للنوع الإنساني في

شخصه [٢] ، قال - تعالى -: [ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ] [السجدة: ٨، ٩] .

والروح سرّ الحياة في الإنسان قد اختصّ الله - سبحانه - بعلمها، وصارت

معرفتها أمراً محيّراً للبشرية منذ أقدم العصور؛ فلم يستطع أحد، ولن يستطيع أن

يعرف كنهها أو يجلو سراًّ من أسرارها؛ لأنها من أمر الله: [ويَسْأَلُونَكَ عَنِ

الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً] [الإسراء: ٨٥] .

٢ - خُلِقَ الإنسان في أحسن تقويم:

خلق الله - جل شأنه - الإنسان في أجمل صورة، وأحسن تقويم، وأعدل

قوام؛ إذ جعل الله بقدرته وتدبيره الطين بشراً مدركاً مفكراً سميعاً بصيراً، وخلق

له زوجه، وجعله متناسلاً، وجعل نسله من ماءٍ مهين، وخلقه في أطوار عجيبة

من غير حول له ولا قوة: [ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ

نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ

عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ

إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ] [المؤمنون: ١٢ - ١٦] .

وخلق له الأعضاء والحواس، وجعل له الرأس والوجه واللسان والأسنان

والفم والحلق والحنجرة، والأظفار واليدين والرجلين، والبطن والصدر والظهر،

واللحم والجلد، والدّم والأعصاب والعروق، وجعل له الأجهزة الكثيرة التي تعمل

في تناسق وانتظام بوظائف مختلفة.

وخلق الإنسان قائماً منتصباً معتدلاً غير مكبوب على وجهه، ولا مُلقى

على ظهره ليباشر أعماله بيديه وجوارحه: [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ

الكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ] ...

[الانفطار: ٦ - ٨] .

وجعل حياته في مراحل متعاقبة من طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة،

وفترات ضعف وقوّة، وجعل له أجلاً مسمًّى: [هَوَ الَذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن

نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ومِنكُم مَّن

يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ ولِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [غافر: ٦٧] .

[الله الَذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ

ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ] [الروم: ٥٤] .

وأبحاث العلم الحديث تؤكّد أن أصل الإنسان ومعدنه الأساس من طينة

الأرض، وأنّ الإنسان لو أعيد إلى عناصره الأولية لكان أشبه بمنجم صغير يشترك

في تركيبه (٢٢) عنصراً تتوزّع بشكل رئيس على:

١ - أوكسجين (O) ، وهيدروجين (H) على شكل ماء بنسبة ٦٥ - ٧٠%

من وزن الجسم.

٢ - كربون (C) ، وهيدروجين (H) وأوكسجين (O) وتشكّل أساس

المركبات من سكريات ودسم، وبروتينات، وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر.

٣ - مواد جافة يمكن تقسيمها إلى:

أ - سبع مواد هي: الكلور (CL) ، والكبريت (S) ، والفسفور (P) ،

والمغنيزيوم (Mg) ، والكلس (CA) ، والبوتاسيوم (K) ، والصوديوم (NA) وهي

تشكل ٦٠ - ٨٠% من المواد الجافة.

ب - سبع مواد أخرى بنسبة أقل هي: الحديد (FE) ، والنحاس (CU) ،

واليود (I) ، والمنغنيز (MN) ، والكوبالت (CO) ، والتوتياء (ZN) ، والمولبيديوم

(MO) .

ج - وستة عناصر بشكل زهيد: الفلور (F) ، والألمنيوم (AL) ، والبورون

(B) ، والسيلينيوم (SE) ، والكادميوم (CA) ، والكروم (CR) [٣] .

وهذه بعض الحقائق الموجزة المجملة التي وقف عليها العلم الحديث في خلق

الإنسان وما فيه من الآيات البينات ليزداد تبصرة ومعرفة بنفسه [٤] :

- الدماغ: وجد فيه ثلاثة عشر مليار خلية عصبية، ومائة ألف مليارخلية

دبقية استنادية تشكل سداًّ منيعاً لحراسة الخلايا العصبية من التأثر بأية مادة،

ويحتاج الدماغ يومياً إلى كمية من الدم لا تقل عن ألف لتر!

- العين: وجد في العين الواحدة نحو مائة وأربعين مليون مستقبل حساس

للضوء، ويخرج من العين نصف مليون ليف عصبي ينقل الصورة بشكل ملون،

ويتم تنظيف العين عن طريق إفراز الغدد الدمعية سوائل مالحة تُدِرُّ حسب الحاجة

إليها!

- الأذن: وهي أهم من العين لوظائفها الكثيرة التي يُعتمد عليها فيتوجيه

النطق، والبصر، والحركة والتوازن، والانتباه من النوم، والتعلم والتربية. وقد

ورد السمع مقدماً على البصر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم [٥] . ويوجد في

الأذن نحو ثلاثين ألف خلية سمعية، وتفرز الغدد السمعية سائلاً لزجاً مراًّ لحماية

الأذن وتنظيفها من الغبار!

- الأنف: يستطيع أن يميز نحو أربعة آلاف رائحة مختلفة: منها الكريهة

ومنها الطيبة.

- اللسان: يوجد فيه تسعة آلاف خلية ذوقية لتمييز الطعم الحلو والحامض

والمر والمالح.

- المعدة: فيها خمسة وثلاثون مليون غدة معقدة التركيب لأجل الإفراز!

- القلب: عضلة تزن نحو ثلاثمائة وخمسة وعشرين غراماً، وتعمل على

ضخ الدم عبر مائة ألف كيلو متراً من الأوعية الدموية يومياً!

- يستهلك الجسم من خلاياه نحو مائة وخمسة وعشرين مليون خلية في الثانية

الواحدة. ويتشكل العدد نفسه في الثانية الواحدة.

- وجد تحت سطح الجلد بين خمسة إلى خمسة عشر مليون مكيّف لحرارة

البدن!

- يتنفس الإنسان كل يوم نحو خمسة وعشرين ألف مرة يسحب فيها مائة

وثمانين متراً مكعباً من الهواء يتسرب منها نحو ستة أمتار ونصف من الأوكسجين

للدم!

- وفي بنان الإنسان سر وإعجاز؛ إذ لا يمكن للبصمة أن تتطابق أو تتماثل

في شخصين في العالم حتى في التوائم المتماثلة التي أصلها من بويضة واحدة.

وصدق الله العظيم: [أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ

عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ] [القيامة: ٣، ٤] .

وسبحان الله الذي قدر فهدى، والذي خلق فأتقن، وصوَّر فأحسن: [رَبَّنَا مَا

خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [آل عمران: ١٩١] .

٣ - تكريم الإنسان بالعقل والإدراك:

العقل هو أشرف ما في الإنسان، وهو موضع الحكمة، ومعدن العلم، ومنهلا

لتدبير، ومناط الأمر والنهي، والحركة والتحكم.

وهو الذي يقود الجسم، ويضبط الجوارح، ويمده بالإحساس والحيوية،

ويعينه على التمييز بين النفع والضرر، والتفريق بين الحسن والخبيث، وإدراك ما

لا يدرك بالبصر:

-[قُلْ هُوَ الَذِي أَنشَأَكُمْ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا

تَشْكُرُونَ] [الملك: ٢٣] .

-[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] [الحج: ٤٦] .

والعقل - على لطافته من حيث الخلق - أقوى قوة على سطح الأرض،

وأنفع قوة، وأخطر قوة، ولا قيمة للإنسان إلا برجاحة عقله؛ لأنه الميزان

الحساس الذي يفرق بين الخير والشر، ويختار لصاحبه الأحسن من كل شيء

والأفضل من كل خُلق [٦] .

٤ - تكريم الإنسان بالعلم والتعلم:

زود الخالق - جل وعلا - الإنسان بملكة العلم والتعلم، وعلمه القدرة على

معرفة الأشياء والحقائق، وفهم الأسرار والدقائق، وجلب المنافع والمصالح،

واستخراج ما في الأرض من خيرات وكنوز وذخائر، واستكشاف مجاهيلها

وخفاياها، واستنباط سننها وقوانينها: [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ

الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ

يَعْلَمْ] [العلق: ١ - ٥] .

٥ - تكريم الإنسان بالإرادة والاختيار:

وذلك بما أودع فيه الخالقُ - جل جلاله - من الإرادة والاختيار، والاستعداد

للعبادة، واكتساب الخير والشر، والقدرة على توجيه الإرادة في الجوارح، والتحكم

بالأعمال والأفعال وتقبل الخُلق القويم، والخلق الذميم، وفعل الخيرات والمنكرات

: [هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (١) إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ

مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِراً وإمَّا

كَفُوراً] [الإنسان: ١ - ٣] .

٦ - استخلاف الإنسان في الأرض:

ومن تكريم الله ونعمته على الإنسان أن جعله سيداً للكون، خليفة في الأرض

يعمرها ويصلحها، ويعبد الله - تعالى - فيها على بصيرة من شريعة الله وسننه

الكونية، فإذا أحسن وعمل صالحاً ظفر بالنعيم المقيم، وإذا أساء وأعرض كان

مصيره إلى نار الجحيم: [وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ

بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] .

[الأنعام: ١٦٥] .

٧ - تسخير الكون للإنسان:

وقد هيأ الله - سبحانه - للإنسان في الأرض مستقراً ومتاعاً، وسخر له كل

شيء في السموات والأرض: من نجوم وكواكب، وبحار وأنهار، وسهول وجبال، وأودية وقفار، ونبات وحيوان، وليل ونهار، وهواء وغذاء: [اللَّهُ الَذِي خَلَقَ

السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وسَخَّرَ

لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (٣٢) وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ

دَائِبَيْنِ وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ (٣٣) وآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وإن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ

لا تُحْصُوهَا إنَّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ] إبراهيم: ٣٢ -٤٣ [.

الأديب المسلم وأصالة التكريم الإنساني:

إن التكريم الإلهي للإنسان يشمل جميع البشر من لدن آدم - عليه السلام-

وحتى آخر مخلوق تقوم عليه الساعة.

والإنسان المسلم هو أكثر الناس تنعماً بهذا التكريم؛ لأنه يقوم بمقتضياته،

ويدرك حدوده وأبعاده وفيض نعمائه.

والأديب المسلم هو أكثر الناس تمتعاً بروائع التكريم؛ وعجائبه، وإحساساً

بلطائف الصنع ودقائقه، واستغراقاً في أداء شكره وتأمل أسراره، يستمد منه

أصالته برؤية الإنسان السويّ، وبصيرة المسلم الصالح، وريشة الأديب المبدع.

ويصدر عنه في نظرته لنفسه، ونظرته لبني جنسه وذلك في جوانب مهمة:

١ - لقد أنعم الله - سبحانه - عليه بنعمة البيان ليميزه عن سواه من الكائنات، ويعبّر به عما في ضميره، ويفهم عن غيره ما في نفسه، ويخرج به المعاني في

ألفاظ حسنة رائقة، وتراكيب منسجمة متوازنة، وأفكار منظمة متسقة، ويستجلي

الدقائق المستترة، واللطائف المستكنّة.

وقد جُعل له هذا البيان وسيلة للإدراك والتفكير، والحركة والتدبير والاتصال

والتواصل، والإقناع والتأثير، والإعراب عن المشاعر والأحاسيس، وعما يعتمل

في الفؤاد من خلجات وسوانح، وخواطروفواتح. قال - تعالى -:] الرَّحْمَنُ (١)

عَلَّمَ القُرْآنَ (٢) خَلَقَ الإنسَانَ (٣) عَلَّمَهُ البَيَانَ [] الرحمن: ١ - ٤ [.

والأديب المسلم يسخر هذه الملكة البيانية في صيانة لسانه وتحلية جنانه

بالفضائل والمكرمات، واجتناب البذاء والفحش والسوء، كما يسخره فيتعلم الكتاب

العزيز وتعليمه، والوقوف على مواطن البلاغة والإعجاز فيه، وفي حب اللغة

العربية وتعلمها وتعليمها، والمساهمة في نشرها، والوقوف في وجه الأعداء

المتربصين بها، كما يسخره في الدعوة إلى الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن

المنكر.

٢ - ومن واجب الأديب المسلم المكرَّم الذي خلقه الله في أحسن تقويم،

وأكمل هيئة، وأعظم كيان، أن يحافظ على هذا التكريم، والخلق القويم؛ بأن يُسلم

وجهه وقلبه لله رب العالمين، ويعمل الصالحات، ليظل كريماً طيباً مشرَّفاً عند الله، وليؤتى أجراً عظيماً:] وَالتِّينِ والزَّيْتُونِ (١) وطُورِ سِينِينَ (٢) وهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ

(٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إلاَّ الَذِينَ

آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [.

] التين: ٤ - ٦ [.

٣ - ومن واجب الأديب المسلم المكرَّم بالعقل والإدراك والعلم أن يدرك وجود

بارئه، وروعة مصوِّره، وعظمة خالقه.

وأن يسخِّر علمه في معرفة الله - تبارك وتعالى - وخشيته والاهتداء إليه،

ويخضع لحكمه وأمره، ويتقرب إليه بالمعرفة المستنيرة والعمل الصادق.

٤ - ومن واجب الأديب المسلم المكرَّم بالإرادة والاختيار أن يختار طريق

الإيمان ويتَّبع سبيل الحق، ويوجه إرادته وطاقته إلى الخير والفضيلة، وأن يعبد

ربه كما علمه، ويُخلص له في الإسرار والإعلان، ويرجوه في الشدة والرخاء،

ويطيعه في المنشط والمكره، ويعظمه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.

وأن يتزود من دنياه الزائلة لآخرته الباقية، ويدين نفسه، ويخالف هواها،

ويعد ليوم الحساب:] ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ مَآباً [] النبأ: ٣٩ [.

٥ - ومن واجب الأديب المسلم المكرم بالنعم الجزيلة والعطاء الوفير أنيشكر

الله - تعالى - على نعمه وخلقه، وأفضاله وآياته؛ بأن يحمده ويثني عليه، ويديم

ذكره، ويعرف قدره، ويصرف نعمه فيما ينفعويفيد:] واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ

أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [

] النحل: ٧٨ [.

٦ - ومن واجب الأديب المسلم أن يجاهد نفسه ليردها إلى الطريق السوي،

والهدي النبوي الذي لا يضل من تمسك به ولا يخيب من سار عليه.

ومن كل ذلك سيجد الأديب المسلم حلاوة الإيمان، وسعادة الاطمئنان،

ورسوخ الهداية، والفوز في النهاية:] فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ

فَقَدْ فَازَ [] آل عمران: ١٨٥ [.


(١) انظر: محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، ص ٣٣.
(٢) انظر: د يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، ص ٥٧.
(٣) انظر: د عبد الحميد دياب، د أحمد قرقوز، مع الطب في القرآن الكريم، ص ٢٧، ٣٧.
(٤) انظر: د خالص جلبي، الطب محراب الإيمان، ج١، ص ٩٥ وما بعدها، د عبد الحميد
دياب، د أحمد قرقوز، مع الطب في القرآن الكريم، ص ٩٣ ٣٤، د السيد الجميلي، الإعجاز
الطبي في القرآن، ٣٤ - ٩٦.
(٥) انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مادة سمع، ٨٥٣.
(٦) انظر: د محمد فائز المط، من كنوز الإسلام، ص ٢١٨-٢٢٠.