للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خواطر في الدعوة

[لا تقولوا الباطل]

محمد العبدة

أخذ الله العهد على العلماء ومن يتصدى للدعوة أن لا يكتموا العلم، ويبينوه

للناس، ولا يخشوا أحدا إلا الله، وقد كان شرار أهل الكتاب علماؤهم ورهبانهم

بما يكتمون من البينات وبما يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وفضل الله هذه الأمة

فجعل علماءها خيارها، فأعطوا الكلمة حقها ورعوها حق رعايتها، والأمثلة في

تاريخنا كثيرة، جاء في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن أبا جعفر

الأنباري قال له عندما امتحن ليقول بأقوال المعتزلة الباطلة: (يا هذا أنت اليوم

رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت

لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، ولابد من الموت، فاتق الله ولا تجب فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله)

[سير أعلام النبلاء ١١/٢] .

وجاء أيضاً: قال المروذي: يا أستاذ إن الله قال [ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] ، قال: يا مروزي اخرج فانظر، فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقاً لا

يحصيهم إلا الله، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: ماذا

تعملون؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد ونكتبه، فدخل فأخبره، فقال: يا مروذي:

أضلُّ هؤلاء كلهم.

أراد هذا الإمام المبجل أن يضحي بنفسه ولا يفسد عقائد الناس لأنه متبع

ومقتدى به، وبعض من يقتدي بهم اليوم من الدعاة، وفى غمرة فقدان الوعي

الشامل والاجتهاد الدعوي الصائب يقعون في ما استطاع الإمام أحمد أن يبتعد عنه،

سواء بتزكية من لا يستحق التزكية، أو بتبرير لأوضاع غير سليمة، فيتبعهم

الناس ويؤملون الخير ويستبشرون، ولكن آمالهم تخيب بعدئذ.

وإذا كنا نحن المسلمين مأمورين بقول الحق في تقويم الناس، وأن نعدل حتى

في لحظات الغضب والشنآن؛ فهذا في معرض التقويم الشامل فنقول عن الشجاع

شجاع ولو كان كافرا أو فاسقا، ونقول عن فلان أنه خدم بلاده وأفادها من ناحية

دنيوية في معرض الاعتراف بالواقع، وهذا كله عندما تكون الصورة واضحة في

أذهان الناس ولا نلبس عليهم أمور دينهم.

ونحن نعلم أنه لا أحد يكره أمثال هؤلاء الدعاة على أقوال تحسب على الإسلام

والمسلمين وهى ليست بذاك، وقد يظنون أن هذا فيه مصلحة للدين ولكن الحقيقة أن

مفسدتها أكثر من مصلحتها. ولذلك نقول لهؤلاء مخلصين مشفقين: إذا كنتم لا

تستطيعون قول الحق فلا تقولوا الباطل، وذاك أضعف الإيمان.