للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأملات دعوية

[من صور التهرب من المسؤولية]

محمد بن عبد الله الدويش

مما لا شك فيه أن التطلع للصدارة والبحث عن المسؤولية أمر ذمه الشرع

ونهى عنه، وهو دليل على نوع من الهوى في نفس صاحبه، أو إفراط في ثقته

بنفسه واعتماده عليها؛ لذا فهو حين يفعل ذلك يُوكَل إلى نفسه، كما قال صلى الله

عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير

مسألة أُعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك

وائت الذي هو خير) [١] .

وكان صلى الله عليه وسلم في سيرته العملية يتجنب تولية الذين يبدو منهم

حرص على الولاية أو يسألونها؛ فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: دخلت

على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا

رسول الله! وقال الآخر مثله، فقال: (إنا لا نولِّي هذا من سأله ولا من حرص

عليه) [٢] .

وأخبر أن الأمة ستحرص عليها وأنها ستكون خزياً وندامة، فقال: (إنكم

ستحرصون على الإمارة؛ وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنعم المرضعة، وبئست

الفاطمة) [٣] .

لذا دأب الصالحون والمخلصون على البعد عن تولي المسؤوليات والولايات

لما يعلمون من أنها مغرم لا مغنم، وهذا أمارة خير بإذن الله - عز وجل - لكن

بعض الناس قد يمتد الأمر لديه فيؤدي إلى وقوعه في محظور آخر.

وكثيراً ما يحجم بعض الصالحين عن تولي المسؤوليات والأعباء الدعوية،

ودافعهم إلى ذلك الورع والبعد عن الشهرة - نحسبهم كذلك والله حسيبهم - وهو

مسلك حسن.

لكنه يتحول عند بعضهم إلى سلوك يسيطر عليه، فيعتذر عن تولي أي

مسؤولية أو القيام بها، ويظن أن هذا أسلم له وأنه يعفيه من التبعة، وليس الأمر

كذلك؛ فلو أنه جلس قعيد بيته، واشتغل بشأنه الخاص أتراه يسلم من التبعة

والأمانة؟

إن مسؤولية حمل الدين وتبليغه أمانة شرعية حمَّلها الله - تبارك وتعالى -

عباده؛ فقد أوجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعله مع الإيمان

مناط خيرية هذه الأمة. ويرد في مواطن كثيرة ضمن صفات المؤمنين أنهم يأمرون

بالمعروف وينهون عن المنكر، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الإيمان

أن ينكر المرء المنكر بقلبه، وأنه ليس وراء ذلك حبة خردل.

ومن يتأمل واقع الأمة اليوم وغلبة الجهل، وفشوَّ المنكرات، وبُعْدَ الناس عن

الدين فإنه لا يشك أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد غدا

فرض عين على كل مسلم قادر، فضلاً عمن آتاه الله شيئاً من العلم والوعي

والبصيرة.

وثمة أمر آخر هو أن كثيراً من هذه المسؤوليات والأعمال التي يحجم عنها

هؤلاء ليس فيها مغنم في الدنيا ولا أمر يُسعى إليه، بل هي تعاون على البر

والتقوى، وأمر تطوعي خيري، بخلاف من يتولى ولايات المسلمين، ويتحمل

تبعاتهم.

والأمر مناطه على القلب، فرُبَّ معتذر عن تحمل المسؤولية لينعم بفراغ

الوقت فيزجيه كيف شاء وأين شاء، ويسلم من المشقة والتعب؛ فهذا فرار من

العمل لا من الولاية والإمارة.

ورب معتذر من عمل وهو يخشى أن يبدو في توليه له ما يجهله الناس عنه

من ضعف قدرةٍ وعطاء؛ فيقل شأنه وقدره.

ورب معتذر ورعاً فهو: مجتهد مخطئ له أجر واحد، أو مصيب له أجران.

لكن ما لا ينبغي الإخلال به: هو إصلاح القلب وتفقده؛ لأنه المناط والأساس، والاجتهاد في العمل للدين والدعوة إليه، وأن يشعر المرء أنه إن أعفاه البشر من

المسؤولية فسيلقى الله - عز وجل - ويسائله؛ فماذا هو قائل؟

جعلنا الله هداة مهتدين، وحمانا من الهوى وحظوظ النفس؛ إنه سميع مجيب.


(١) رواه البخاري (٧١٧٦) ومسلم (١٦٥٢) .
(٢) رواه البخاري (٧١٤٩) .
(٣) رواه البخاري (٧١٤٨) .