للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الادبي

الخطيئة

د. خالد بن سعود الحلبي

إن المسلم في صراع دائم مع نفسه الأمَّارة بالسوء، يجاهدها ويكشف

خططها ومؤامراتها، ويلجم جموحها بزمام المراقبة لله، والخشية منه؛ وقد عبر ...

الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله عن ذلك في صور شعرية

مختلفة، ومن ذلك قوله [١] :

تسول لي نفسي بأن ذنوبها ... تخفف من أطماعها وغرورها

ولو أن نفسي صح في الله عزمها ... لما بطنت ثوب التقى بفجورها

فيا نفس خل المكر عنك وسارعي ... إلى رحمة قد لاح بارق نورها

وقد عمد الشاعر هنا إلى أسلوب التجريد البلاغي؛ حين جرد من نفسه

شخصاً آخر؛ ليكيل لها اللوم والتقريع؛ وربما ليومئ إلى الاعتراف بالذنب المبطن

بالاعتذار بالطبيعة البشرية، والنفس الأمارة بالسوء، والتي تقررت طبيعتها في

الآية الكريمة: [وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن

ربي غفور رحيم] [يوسف: ٥٣] . ولكنه يدعوها إلى الاقتراب من رحمة الله،

والتعرض لمغفرته.

وتجلى لنا الصراع أقوى ما يكون في مواجهة الرغبة الجامحة في المعصية

في قول الأميري في مقطوعته (لفح السعير) [٢] :

أحس اختناقا بأعماق روحي ... إذا طاف بي طائف المعصيه

كأن الجبال على أضلعي ... ولفح السعير بأنفاسيه

مران البراكين في غور قلبي ... تثور، وتنفث في قلبيه

فأبغي نجاتي ولو بمماتي ... لأعتق من شهوة عاتية

وألقي كياني إلى من براني ... لترتاح نفسي من نفسية

وكما نرى في هذه الأبيات فإن الشاعر لم يتأثر بالفكر النصراني المندس في

الشعر المعاصر؛ حيث راح بعض شعراء العربية حتى من المسلمين يقلدون الغرب

الصليبي في استيحاء الفكرة الباطلة التي تقرر: توارث بني آدم خطيئة أبيهم؛ وأن

(الخلاص) يكون عن طريق (المسيح) عليه السلام، ولذلك كثر في شعرهم الرمز

بالصليب والمسيح ونحو ذلك؛ كما نجد عند نزار قباني، ومحمود درويش،

وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي الذي يقول [٣] :

خطيئة ما برحت نارها ... تطلب من موقدها المغفرة

لو عاد للعالم أمواته ... لاحتضنوا في أرضنا المزهرة

ألف يسوع في جراحاته ... مات لتحيا فكرة نيرة

وتعجُّبي: كيف يقول مسلم ببقاء خطيئة غفرها الله بنص قوله تعالى: ... [فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم] [البقرة: ٣٧] ؟ وكيف يؤمن مسلم بصلب المسيح عليه السلام، وقد قال تعالى: [وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم] [النساء: ١٥٧] ؟ وغير خفي إعراض الشاعر حتى عن اسم المسيح ولقبه في القرآن، إلى اسمه في كتب النصارى.

فإن الأميري برؤيته الإسلامية الناصعة حسم هذا الموقف بقوله [٤] :

كانت الزلة والتو ... بة والعفو الرحيم

فالزلة حدثت من (آدم) عليه السلام، والتوبة أعقبتها منه، وتلاهما العفو

الإلهي الرحيم.

وخُتِمَ الأمر، ولم يبق إلا الإغراء الشيطاني، ونزغات النفس الأمارة بالسوء، أما أسطورة الخطيئة والتكفير فلا وجود لها في الإسلام الذي قرر: [ألا تزر

وازرة وزر أخرى] [النجم: ٣٨] .

وما كان لعيسى عليه السلام أن يؤثِّر في العالم بعد أن رفعه الله إليه، إلى أن

ينزل في آخر الزمان.


(١) ديوان: مع الله: ٦٣.
(٢) مخطوطة غير مصنفة في ديوان، محفوظة في مكتبة الشاعر في الرباط.
(٣) ديوان عبد الوهاب البياتي: ٣١٤.
(٤) ديوان: ملحمة الجهاد: ٢٢.