للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قديم جديد

أرحام تتعاطف

للشيخ محمد البشير الإبراهيمي

رحمه الله

طالما نعينا على المسلمين خصوصاً، وعلى الشرقيين عموماً، هذا التقاطع

الذي شتت شملهم، وفرق جامعتهم، وصيرهم لقمة سائغة للمستعمرين؛ وطالما

شرحنا للمسلمين أسرار التواصل والتراحم والتقارب الكامنة في دينهم، وأقمنا لهم

الأدلة، وضربنا لهم الأمثال، وسقنا المثُلات، وجلونا العبر، وكانت نذر الشر

تتوالى، فيمارون بها، وصيحات الضحايا منهم تتعالى، فيصمون عنها والزمن

سائر، والفلك دائر، وهم في غفلة ساهون.

دعوناهم إلى الجامعة الواسعة التي لا تضيق بنزيل، وهى جامعة الإسلام،

إلى الروحانية الخالصة التي لا تشاب بدخيل، وهي روحانية الشرق، وحذرناهم

من هذه الأفاحيص الضيقة، والوطنيات المحدودة، التي هي منبع شقائهم، ومبعث

بلائهم، وبينا لهم أنها دسيسة استعمارية، زينها لهم سماسرة الغرب، وعلماؤه

وأدلاؤه؛ وغايتهم منها التفريق، ثم التمزيق، ثم القضم، ثم الهضم، وأن

الاستعمار -بهذه الدسيسة وأشباهها- يفسد فطرة الله فيهم، وينقض دين الله عندهم؛

ففطرة الله تلهم نصر الأخ لأخيه، وحماية الجار لجاره؛ ودين الله يوجب حقوق

الأخوة، ويدعو إلى إيثار الجار والإحسان إليه؛ وهو بهذا يعمم التناصر ويقيم في

الأرض شرعة التعاون، فما من جار إلا له جار، والناس كلهم متجاورون، جوار

الدار للدار، فجوار القرية للقرية، فجوار المدينة للمدينة، فجوار الوطن للوطن؛

فإذا أخذوا بهذه الشرعة وأقاموا حدودها عم التناصر والتعاون، وسدت المنافذ على

المغيرين، وعلى المفسدين في الأرض ولكن الاستعمار - بهذه الدسيسة - بدل

شرعة الله بشرعة الشيطان، فهو يقول لك: أقصر اهتمامك على دارك، ولا تلتفت

إلى دار جارك، ويوسوس للجار بمثل ذلك حتى إذا أطاعاه خرب الدارين، واستعبد

الجارين.

ومازال الاستعمار يروض المسلمين والشرقيين على قبول هذه الدسيسة، ثم

على استحسانها، ثم على الأخذ بها، حتى تقطعوا في الأرض أمماً ليس منهم

الصالحون ... ثم تقطعت الأمم جماعات، وكلما آنس منهم مخيلة انتباه غرهم بما

يغر به الشيطان: بشجرة الخلد وملك لا يبلى، وجرهم بما ينجر به الصبيان:

ألفاظ فارغة وأسماء وألقاب، وعروش من أعواد، في سيل واد؛ حتى ابتلع

ممالكهم، واحتجن أموالهم، وتركهم مثلاً في الآخرين؛ واعتبر ذلك بهذا الاستعمار

الجاثم في شمال أفريقيا [١] ، وعد بذاكرتك إلى مبدأ أمره، وكيف أكل العنقود حبة

حبة، متمهلاً مطاولاً، يرقب الخلس، ويدرع الغلس؛ وكيف أطعمته غفلتنا الكراع، أطمعته في الذراع، حتى استوعب الجسد كله أكلاً؛ وكيف كان يعتدي على

الجزء، فيقابله الكل بالهزء؛ اعتبر ذلك ترَأننا ما أخذنا بغتة، ولا سلبنا هذا الملك

الضخم فلتة؛ وإنما هي آثار تلك الدسيسة فينا، استبدلنا التناحر بالتناصر،

والتعاوي بالتعاون؛ ثم نزلنا دركة.، فأصبحنا وإن الأخ ليقتل أخاه في سبيل

قاتلهما معاً، ولو اتعظ الأخير منا بالأول لما مد الاستعمار هذا المد، ولما بلغ فينا

إلى هذا الحد.


(١) نشرت هذه الكلمة عام ١٩٥١ م.