للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

الجميع تحت المجهر

[دور التمويل الأجنبي في توجيه الجمعيات الأهلية]

د.أحمد إبراهيم خضر

أقحم المثقفون العرب على الساحة العربية والإسلامية منذ مطلع السبعينيات

مصطلح (المجتمع المدني) . ويعرِّف د. سعد الدين إبراهيم (وهو شخصية

معروفة بتوجهاتها العلمانية الصريحة وبموالاتها لأمريكا وزياراتها لإسرائيل)

المجتمع المدني بأنه: (مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام

بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتآخي

والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف، وتشمل تنظيمات المجتمع المدني كلاًّ

من الجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب والأندية، أي: كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي أو إرثي) [١] .

والذي يهمنا هنا ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أن مفهوم (المجتمع المدني) دخيل على تراث الفكر العربي

والإسلامي، وأنه ينتمي إلى (فضاء) ثقافي وحضاري غربي، وأنه نشأ في بيئة

أوروبية وفي ظروف تاريخية ومعطيات سياسية واقتصادية اجتماعية معينة ترتبط

بها، بالإضافة إلى ارتباطه الوثيق بالرأسمالية والمجتمع الرأسمالي. ويسعى رهط

من المثقفين العرب إلى تأصيل هذا المفهوم، وإعادة صياغته وتحديد مدلولاته

النظرية والعملية، ثم إدماجه في الثقافة العربية الإسلامية اعتقاداً منهم بأن هذا

سيساهم في تكريس ما أسموه بـ (القطيعة متعددة الوجوه مع عالم العصور ...

الوسطى) [٢] إشارة منهم إلى الإسلام والفكر الإسلامي بوجه أو بآخر.

الأمر الثاني: أن الرؤية الإسلامية ورؤية المجتمع المدني في نظرهم

متناقضتان؛ فالمجتمع المدني عند هؤلاء مجتمع عقلاني يحل مشاكله حسب قوانين

وضعية، وتحاول فئاته الاجتماعية التوفيق بين مصالحها ومصالح المجتمع.

مرجعيته تجارب المجتمع التي قننها في صورة نصوص تسهر على تطبيقها سلطة

وثيقة الصلة بالدولة وإن أظهرت أنها تختلف معها. أما المجتمع الإسلامي كما يرى

الجنحاني فإنه يستمد شرعيته من (السماء) ومرجعيته نصوص ترتكز على ما يسميه: (تجارب تاريخية) مرّ عليها أكثر من أربعة عشر قرناً نموذجاً أعلى، ومثالاً يحتذى ليس في مستوى القيم والإفادة من الإيجابي فيها فحسب بل في مستوى الممارسة اليومية وتسيير شؤون المجتمع [٣] .

الأمر الثالث: أن الواقع الفعلي للجمعيات الأهلية التطوعية وغير الحكومية

التي هي عماد المجتمع المدني يُبَيِّن أنها تُمَوَّل من الخارج، وأن دور معظمها ليس

إلا كالمجهر الذي يكشف كل ما تحته من أحوال المجتمع وظروفه الاجتماعية

والاقتصادية والسياسية، وأن مثقفي المجتمع المدني يلهثون وراء هذا التمويل

ويقدمون لمموليهم التقارير التي يطلبونها، وأن الهدف النهائي لهذه العملية هو خدمة

مصالح الشركات متعددة الجنسيات وتدعيم عمليات التطبيع مع (إسرائيل) وهذا

موضوعنا في هذه المقالة.

تعبير (الجميع تحت المجهر ولا أحد خارجه) تعبير استخدمته الباحثة (سناء

المصري) ذات الباع الطويل والخبرة الدقيقة في العمل مع هذه المنظمات غير

الحكومية، والنسائية منها على وجه الخصوص.

ولما اختلفت مع رفيقاتها على مسألة التمويل، كشفت لنا هذا الحجاب الذي

كان مضروباً على ما يجري داخل هذه الجمعيات [٤] .

كتبت (سناء المصري) عن خيانة المثقفين وسقوطهم في بئر التمويل الساخن

الذي تصب فيه الأموال الأمريكية والأوروبية وحتى اليابانية وتدفع به إلى

الجمعيات والمنظمات غير الحكومية أو ما يسمى بالجمعيات الأهلية في مصر.

فعلى سبيل المثال: دفعت هيئة المعونة الأمريكية عام ١٩٩١م مبلغ عشرين

مليون دولار لدعم هذه الجمعيات والمنظمات، وكانت قد تبنت قبلها مشروعاً ثلاثي

المراحل بدأ من عام ١٩٨٧م وحتى عام ١٩٩٠م بحجم تمويل قدره خمسة وعشرون

مليون دولار لدعم المنظمات العاملة في مجال التنمية المحلية استفادت منه ٢٠١٩

جمعية أهلية، وكذلك فعلت هيئة المعونة الكندية والاتحاد الأوروبي وغيره من الجهات الدولية.

حددت (سناء المصري) ما يقرب من عشرين منظمة دولية بعضها يتبع

الحكومات مباشرة ويتبع بعضها الآخر الأحزاب الحاكمة، أشهرها منظمة (فورد)

وغيرها من المنظمات ذات السمعة العالمية في زعزعة بنية بلدان العالم الثالث

وتهيئتها لما يسمى بالنظام العالمي الجديد أو السطوة الأمريكية الجديدة، ومن

المنظمات الممولة للجمعيات الأهلية: (سيدا) الكندية، و (سيدا) السويدية، ... ... و (دانيدا) الدانماركية، و (فينيدا) الفنلندية، والمعونة الأسترالية، ومؤسسة (إسرائيل) الجديدة في نيويورك؛ هذا إلى جانب المنظمات والحكومات الأخرى مثل ألمانيا واليابان.

وتعمل الجمعيات الأهلية في مجالات: حقوق الإنسان رفع الوعي القانوني

بناء الديمقراطية ومراقبة الانتخابات المجال العمالي والنقابي الوحدة الوطنية السينما

والفيديو والورش المسرحية.

والهدف الأساس الذي يسعى إليه نشطاء هذه الجمعيات هو أن يكون العمل

العام والتطوعي سبيلاً لتحقيق الثراء والصعود الاجتماعي والإحساس بالغنى

والتعالي والنجومية الشخصية وحيازة السيارات والشقق الفاخرة، واغتنام فرص

السفر للخارج والإقامة في فنادق خمس النجوم؛ خاصة أن الممولين يدفعون رواتب

ويقدمون منحاً هائلة تصل إلى ألوف الدولارات؛ وسرعان ما يتجه بعضهم إلى تكوين جمعيات جديدة بمجرد أن يدرك سهولة التمويل؛ حيث يكفيه أن يطلب سجل الممولين فتنهمر عليه أوراق التعريف بهم، وطرق الاتصال بل وكيفية التعاون معهم؛ بالإضافة إلى الإرشادات الكثيرة للحصول على التمويل.

والتمويل هو العصا السحرية التي اخترقت تقوقعات شلل المثقفين وعاطلي

السياسة وهي التي حولت الكثيرين ممن كانوا يقفون في صفوف المعارضة من

شيوعيين وناصريين، أو يساريين عموماً، وكانت دعايتهم تدور حول الوطن

والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وتهاجم (إسرائيل) والرأسمالية والامبريالية

والتدخل الأجنبي والفوارق الطبقية حولتهم إلى نشطين مخلصين يدافعون عن

العولمة والتطبيع مع (إسرائيل) . إن بضعة آلاف من

الدولارات حوَّلتهم إلى خبراء كرَّسوا جهودهم لخدمة المؤسسات الرأسمالية

الضخمة عابرة القارات ومتعددة الجنسيات ولخدمة جهود التطبيع مع (إسرائيل)

على حد قول (سناء المصري) .

وبالتمويل تقدم هذه الجمعيات تقارير سياسية وأخباراً إلى الخارج عبر أجهزة

الفاكس، ولهذا يسميها بعضٌ بـ (منظمات الفاكس والطيران) .

وبالتمويل تُؤَسس المراكز العمالية والقانونية في مناطق العمال لدراسة الحالة

الراهنة للطبقة العاملة، وتراقب الجمعيات أنشطة العمال وانتخاباتهم ونقاباتهم

وقوانينهم، ونواياهم السرية والعلنية، وتعمل على تفتيت الاتحاد العام وإنشاء

النقابات الموازية.

وبالتمويل ترفع جمعياتٌ شعار الوحدة الوطنية في الوقت الذي تسارع فيه إلى

تضخيم الأحداث، وتطلب حماية الأقليات المضطهدة بعد أن تكون قد جذَّرت روح

التعصب والنزاعات الطائفية إلى حد تكوين ميليشيات محلية، فتسقط البلاد في

الحرب الأهلية والمذابح الجماعية كما حدث في بعض البلدان.

وبالتمويل تتفرغ جمعياتٌ لشؤون المرأة وتعزف على وتر الأحوال الشخصية

وختان الإناث في خطب متكررة ومؤتمرات متتالية بالداخل والخارج.

وبالتمويل تقوم جمعياتٌ بدور المرابي القديم فتقدم للفقراء قروضاً لا تحل لهم

مشاكلهم المادية بقدر ما تضاعف ديونهم وتثقل كاهلهم بمشاكل إضافية ونسبة فوائد

تصل إلى ١٨%، ١٩% من أصل القرض.

وبالتمويل تصور جمعياتٌ آلاف أفلام الفيديو عن كل شيء في البلاد وترسل

إلى الخارج بحجة عمل المونتاج لها، ولا تعود مرة أخرى.

وبالتمويل أمكن تجنيد الأكاديميين والأساتذة والباحثين وضم بعضهم إلى

مؤسسات استشارية دولية كانت مهمة بعضها إعادة الهيكلة الاقتصادية للبلاد

كمؤسسة (كيمونكس أوف واشنطن) التي يعتبر (جيرالد مار) أكبر مساهميها الذي

قال يوماً: (كنت أريد من بين أمور أخرى العثور على سبيل يمكنني من تأسيس

وكالة مخابرات مركزية خاصة بي) .

وهكذا تفشى مرض التمويل، فأصبحت التقارير تصب مباشرة في المؤسسات

الدولية مهما اختلفت مسمياتها لتغطي كافة المجالات من حقوق الإنسان إلى الصحة

والمرأة، والأقليات والنقابات؛ وبهذا تمكنت الجهات الأجنبية عن طريق هذه

الجمعيات من اختراق البلاد.

الهدف إذن هو الاختراق المعرفي الذي تظل مفاتيحه في أيدٍ غير معلومة في

الخارج، وبالتراكم المعرفي يتكون لدى هذه الجمعيات صمام أمن مباشر لتفريغ

البلاد من احتمالات الثورات والتمردات الشعبية ثم العمل على إدماج البلاد في

السوق الرأسمالي وإخضاعها للإرادة الكاملة للشركات الرأسمالية.

تحدثت (سناء المصري) بجرأة ملفتة للنظر عن مثلث (الجمعيات الأهلية

الحكومة الممول الأجنبي) وعن العلاقة بين أطراف هذا المثلث؛ إذ تشكل هذه

العلاقة لُعْبة متعددة المستويات داخلياً وخارجياً يلعبها الجميع بوضوح ومكاشفة مع

محاولة كل طرف انتزاع أقصى ما يمكن من الأطراف الأخرى.

وينغمس النشطاء المحليون في شباك العلاقات الدولية واستجلاب المال

الأجنبي تحت غطاء العمل العام، ويدخلون في سباق تكوين الجمعيات، وبعضهم

يخرق القانون وتعلم الحكومة ذلك لكنها كما ترى (سناء المصري) تتغاضى عن

ذلك بمحض إرادتها إرضاءاً للدول الأجنبية، بل إنها وبذاتها تشكل القنطرة التي

يعبر بها المال الأجنبي إلى هذه الجمعيات.

وبوضوح شديد تقول (سناء المصري) : إن الحكومة تحرك هذه الجمعيات

في قالب مرسوم؛ فإذا خرج النشطاء عن هذا القالب بادرت باستخدام حق الإغلاق

والمصادرة أو التضييق عليهم، ومن جهة أخرى فإنها تسعد بتسريح هذا القطيع

السياسي الذي كان مقلقاً لها في الماضي القريب لجمع المعونات والمنح من الخارج

وإغراقه في تطلعاته للثروة والصعود الاجتماعي، وتلعب الجمعيات في المساحة المرسومة لها، ولا تخرج عن حدودها أبداً؛ بل إنها تمد يدها وتتعاون مع الحكومة في كثير من الأحيان.

وإن استطاعت الجمعيات الإفلات من قبضة الدولة وقعت في يد الحكومات

الأجنبية المانحة التي تعرف كيف تقبض على عنق عميلها عن طريق تقسيم المنحة

وليس بتقديمها دفعة واحدة، ويعلم الممول الأجنبي أن عملاءه ليسوا شرفاء أو

أطهاراً دائماً؛ وكثيراً ما تحدث أزمة ثقة بين الطرفين لكن المانح يغض الطرف

عن ذلك؛ فأهدافه تتعدى المساعدة في تنفيذ مشروع بعينه إلى توثيق العلاقة مع

الأشخاص القائمين على هذه الجمعيات

أو تحقيق أغراض أخرى يعرفها الطرفان ويتواطآن على تنفيذها، علاوة عن

أن كل ذلك ليس إلا جزءاً من أبعاد اللعبة التي تحركها كلها خيوط الممول الأجنبي

بهيئاته ومخططيه الدوليين الأكاديميين النشطين في الدراسات الاستراتيجية وعملائه

في العالم العربي أو ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط.

ليس هذا إلا قليلاً من كثير تحدثت عنه (سناء المصري) ، ولا زال الأمر

يحتاج إلى مزيد من الرصد والجهد في الكشف عن هوة (المجتمع المدني) ، تلك

الهوة التي يسعون إلى إسقاط مجتمعاتنا الإسلامية فيها؛ اعتقاداً منهم أنها السبيل ...

الأمثل لمواجهة المد الإسلامي بحركته وفكره وآثاره بالإضافة إلى استمرار هيمنتهم

السياسية والاقتصادية والثقافية وتأكيدها.


(١) منيرة أحمد فخرو، موقع الحركات النسوية في مؤسسات المجتمع المدني في البحرين والكويت، والإمارات، عالم الفكر، المجلد ٢٧، العدد ٣، يناير/مارس ١٩٩٩م، ص ١٢٦.
(٢) كريم أبو حلاوة، إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني، المصدر السابق، ص ٩.
(٣) الحبيب الجنحاني، المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، المصدر السابق، ص ٤١.
(٤) سناء المصري، تمويل وتطبيع، قصة الجمعيات غير الحكومية، سينا للنشر، الطبعة الأولى، ١٩٩٨م، القاهرة، ص ٩ ٤٩.