للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية

[توبة الأمة]

محمد بن إبراهيم الحمد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

فإن الحديث عن التوبة ذو شجون، والكلام عليها متشعب طويل؛ فللتوبة

فضائل وأسرار، ولها مسائل وأحكام، وهناك أخطاء تقع في مفهومها، وهناك أسباب تعين عليها، ثم إن الحديث عن التوبة يشمل كافة الناس، ويخاطب جميع الطبقات، ويُحتاج إليه في جميع مراحل العمر.

ومع عظم شأن التوبة، وشدة الضرورة إليها إلا أن هناك تقصيراً في شأنها،

وخللاً كبيراً في مفهومها، وغفلة مستحكمة عن المبادرة إليها، وإذا تحدث متحدث عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر بالبال.

وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد، وفي

مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين هي هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.

فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتصْدقُ في التوبة والإنابة إلى رب

العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من رِباً، ومجون، وفسق، وشرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وتقصير في تبليغ دعوة الله وإحجام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما هو مؤذِن بالعقوبة، وحلول مقت الله. نسأل الله السلامة.

فإذا تابت الأمة إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض، قال تعالى: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: ٥٥] .

وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله تعالى: ... [فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ

الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ومَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ] [يونس: ٩٨] ، وهؤلاء القوم الذين

ذُكِروا في هذه الآية هم قوم يونس عليه السلام وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.

ومعنى الآية كما يقول المفسرون: أن قوم يونس عليه السلام لما أظلهم

العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس عليه السلام قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرَّقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال: [مَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍُ] [يونس: ٩٨] ، أي لم نعاجلهم بالعقوبة، استمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم.

فما أحوج أمتنا اليوم إلى أن ترجع إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها،

ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها.

وسنتوقف عند بعض المحطات التي يحسن بالأمة التأمل فيها والأخذ بها:

أ - التوبة من الإسراف: فالإسراف نذير شؤم، ومؤذِن هلاك؛ فهو يفضي

إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المُقلِّين أو المعدمين. والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير. أمَّا أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرص على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن النفس، والمال، والعرض.

وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس

في الترف يحرص على اكتساب المال؛ يشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق

الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.

وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همه الوصول إلى زينة أو

لذة، أو مطعم ونحوه، وكثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.

وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع

قلبه كان أعظم قصده من جمع المال إنفاقه فيما يَلَذُّ له من مأكول أو يتزين به من نحو ملبوس، أو مفروش.

لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده

إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.

ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتواد بين كثير من أفراد الأمة. ولهذا تجد من الموسِرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذَّاته وشياطينه، وإذا سُئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.

هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛

ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.

وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو

المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.

والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة

بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.

ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.

هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق على الأمة التي تريد النهوض من كبوتها

أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح.

فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال

على غير حكمة وحسن تقدير.

قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله: (إن أمة تنفق الملايين

في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها) [١] . وقال رحمه الله: (المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار. أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار) [٢] .

ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سُنَّة واحدة من

الإعراض عن الزينة والملاذِّ فقد قال تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] [الأعراف: ٣٢] ، وإنما المقصود من ذلك: الدعوة إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش.

ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق

الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً فقال تعالى: [ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً] [الإسراء: ٢٦] ، وقال تعالى: [لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ] [الإسراء: ٢٩] .

وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال تعالى: [إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ

الشَّيَاطِينِ] [الإسراء: ٢٧] ، وعدَّهم في زمرة من يستحقون بُغضه فقال عز وجل: [وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا] [الأعراف: ٣١] ، وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة

الاقتصاد فقال: [والَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً]

[الفرقان: ٦٧] .

(وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضار كثيرة كان واجباً

على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.

وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد يبين أنه لا فضيلة

في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة: كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجئ، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها) [٣] .

٢ - التوبة من التبعية الثقافية والفكرية: فمما يؤسف عليه، ويندى له الجبين

ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تكاد ترى كثيراً منهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بسيئ أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.

إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا

في المجتمعات الإسلامية يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً.

ولا يعني ذلك الجهل أنهم لم يسمعوا بالإسلام، أو أنهم لم يحفظوا في صغرهم

شيئاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو أنهم لم يسجدوا لله يوماً من الأيام سجدة، أو لم يعرفوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم.

لا! ليس الأمر كذلك؛ وإنما المقصود أن هؤلاء يجهلون نظرة الإسلام إلى

الكون، والحياة، والإنسان.

يحملون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة، وبجهلون قيمه

الإسلام، ومُثُلَه، وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.

ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم، ويجهلون

القُوى التي حاربتهم، والمؤتمرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء

عليهم.

فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهوا الغرب، وحضارته،

وفنه، وأدبه لم يواجهوه إلا بعقول خواء، وأفئدة هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة فاحصة مقوِّمة؛ وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة؛ فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار

والنافع، فنكسوا رؤوسهم حطة أمام الغرب.

ولهذا تراهم يهشون ويطربون إذا ذكر اسم فرويد، أو نيتشه، أو ت. إس

إليوت، أو ماركيز، أو غيرهم من مفكري الغرب، على اختلاف توجهاتهم ... ومدارسهم الفكرية. وإذا ذكر الله ورسوله اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.

ومن هنا فإن مثقفينا في فروع الحياة كلها إلا من رحم ربك قد نقشوا ما عند

الغربيين، وظنوا أنه لا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا أدب إلا أدبهم، ولا واقع إلا واقعهم؛ فهم جهلوا الإسلام وحضارته، وعرفوا كل شيء عن الغرب. وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية؛ ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين. والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمان بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني.

أما الحياة بشمولها فإنها في نظرهم لا بد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر

الزمان والمكان [٤] .

يقول الدكتور محسن عبد الحميد: (من خلال عشرات المواقف الأليمة جداً

التي مرت في حياتي التدريسية، والتي أثبتت لي بشكل قطعي هذا الجهل العام بين كثير من مثقفينا للإسلام أروي الحوادث الآتية:

* في محاضرة عامة لاقتصادي مسلم استعرض المذاهب الاقتصادية كلها من

أقدم العصور إلى العصر الحديث في مختلف الملل والنحل، ولم يتطرق إلى الإسلام أو حضارته في مجال الاقتصاد منهجاً وعلماً.

فلما سئل عقب انتهاء المحاضرة عن سبب ذلك قال بالحرف الواحد: أنا

متأسف؛ لأنني لا أعرف عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع شيئاً.

ولما أهدي له فيما بعد كتاب حول أحكام الاحتكار في الفقه الإسلامي تعجب

كثيراً، وذكر أنه لم يكن يظن أن الفقهاء بحثوا مثل هذه الموضوعات.

* وحضرت مرة مناقشة رسالة علمية في الفقه الجنائي الإسلامي مقارناً بالفقه

الجنائي الغربي استغرب مناقش قانوني في اللجنة أن يكون فقهاء المسلمين قد ناقشوا

بعمق نظرية قانونية كان يعتقد أنها نظرية غربية صرفة.

* وكنا نتناقش يومياً في غرفة الأساتذة حول وضع المرأة في الإسلام؛

فانبرى أحد المختصين في علم الاجتماع فقال: إن الإسلام ظلم المرأة عندما جعل الرجل قوّاماً عليها.

فلما سألناه: ما المعنى اللغوي للقوامة في الآية الكريمة؟ حتى نحدد موقفنا

منه تلعثم ولم يعرف معناها.

فقال له أحدنا: كيف تصدر يا أستاذ هذا الحكم الظالم على الإسلام وأنت لا

تعرف معنى القوامة) [٥] .

ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛

فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.

وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم،

ويسيرون على طريقهم، وما علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة، وأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.

وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب

ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته. ...

وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت،

وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.

واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرِّ ما بَصُر بضوئه الأعمى،

وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء. فماذا فعل المسلمون لما انتصروا على خصومهم؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما انتصر على قريش وفتح مكة؟ ألم يصفح عنهم، وينس ما فعلوه به؟ وماذا فعل المسلمون لما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا العهود؟ وهل انتهكوا الأعراض؟ وهل قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء؟ وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على

الصليبيين؟ ألم يُنعم على قائدهم بالعفو؟ ألم يعالجه، ويطلق سراحه.

فهذه المواقف وأمثالها كثيرة في تاريخ الإسلام؛ مما كان لها أبلغ الأثر في

محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.

أفغير المسلمين يقوم بمثل هذا؟ آلغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟

الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين،

وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوروبا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يُعَدُّ أولئك هم طلائع حضارة أوروبا؟

فمَنِ الهمجُ العتاة القساة الأجلاف إذاً؟

ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن

الذين لوَّثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟

أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وأن لا ينظروا إلى الغرب

بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟ هذه هي حال كثير من مثقفينا، ... ولو صُرف النظر عن ناحيتهم، وترك حبلُهم على غاربهم لهبطوا بكثير من

شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتة وفرحاً. والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.

فلا بد إذاً من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه

على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو تحذر الأمة عاقبة هذا الذي يبدو

على أفواههم.

فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها

الذلة والتبعية، وأن يبحثوا في سبيل رقيها وفلاحها.

وإن من أعظم ما يعينهم على ذلك أن يدرسوا الإسلام دراسة واعية متأنية من

مصادره الأصيلة، وأن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية والأمانة العلمية ما يبعثهم إلى الرجوع إلى الحق والاعتزاز به.

أما السير في ركاب الغرب، والأخذ بكل ما يصدر منه دونما تمحيص فذلك

محض الهوان، وعنوان التخلي عن العزة والكرامة؛ فالأمة العزيزة هي التي تعرف

مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي، ونوع ما تأخذ، وهي التي تُعِدُّ نفسها بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى تحمي رأيها فيما تأخذ، وما تدع، وما تعطي، وما تمنع.

هذا وإن من أولئك النفر من تكون له شهرة أدبية أو مكانة اجتماعية؛ فكلما

همَّ بالرجوع عن بعض آرائه المخالفة للشريعة أقصر عن ذلك؛ مخافة ذهاب الجاه والشهرة، وحرصاً على أن يبقى احترامه في أصحابه وموافقيه غير منقوص.

ولا ريب أن ذلك نقص في شجاعة الإنسان ومروءته، بل إن ذلك نقص في

عقله، وعلمه، وديانته، وأمانته.

وإلا فإن الكريم الشهم الشجاع العاقل هو ذاك الذي يرجع عن خطئه، ولا

يتمادى في غيه وباطله؛ فذلك مما يرفعه عند الله، وعند خلقه؛ فلماذا يستوحش من الرجوع إلى الحق؟

فمقتضى الدين، والأمانة، والمروءة أن يصدع بما استبان له من الحق، وألا

يمنعه من الجهر بذلك أن ينسب إلى سوء النظر فيما رآه سالفاً؛ فما هو إلا بشر، وما كان لبشر أن يُبَرِّئ نفسه من الخطأ، ويدعي أنه لم يقل ولن يقول في حياته إلا صواباً.

ثم إن الشهرة والجاه عَرَضٌ زائل ينتهي بنهاية الإنسان؛ فماذا ينفعه إذا هو

قدم على ربه إلا ما قدم من صالح عمله، ولقد أحسن من قال:

تسائلني: هل في صحابك شاعر ... إذا متَّ قال الشعر وهو حزين؟

فقلت لها: لا همَّ لي بعد موتتي ... سوى أن أرى أُخراي كيف تكون

وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئٍ ... يلاقي جزاءاً والجزاء مهين

وإن أحظ بالرُّحمى فما لي من هوىً ... سواها وأهواء النفوس شجون

فخلِّ فعولن فاعلاتن تقال في ... أناس لهم فوق التراب شؤون

وإن شئت تأبيني فدعوة ساجد ... لها بين أحناء الضلوع حنين


(١) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ٣/٣٤٥.
(٢) المرجع السابق، ٣/٣٦٥ ٣٦٦.
(٣) انظر محاضرات إسلامية للشيخ محمد الخضر حسين، ص ١٤٠ ١٤٧.
(٤) انظر أزمة المثقفين تجاه الإسلام د محسن عبد الحميد، ص ٤٩، ٥١، ٦٦، ٦٧.
(٥) أزمة المثقفين تجاه الإسلام ص ٥٢، ٥٣.