للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

حقائق العلوم التجريبية.. حقائق شرعية!

أ. د. جعفر شيخ إدريس

رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة

شاع على ألسنة كثير من إخواننا المتدينين القول بأن الحقائق العلمية (ويعنون

بذلك حقائق العلوم الطبيعية) حقائق متغيرة، فما يثبته العلم اليوم ينفيه غداً، وما

ينفيه اليوم يثبته غداً. لذلك يجب أن لا يكون لها اعتبار في فهم الحقائق الدينية

الواردة في الكتاب والسنة، وأن لا تستخدم دليلاً على الإعجاز العلمي.

لكن إطلاق القول بتغير الحقائق العلمية إطلاق غير صحيح، بل هو خطأ

محض؛ وذلك لأن العلوم الطبيعية كما هو معروف منها ما هو حقائق جزئية تقوم

عليها أدلة حسية أو عقلية قاطعة، ومنها ما هو حقائق جزئية، أو قوانين عامة تقوم

عليها أدلة راجحة لا قاطعة، ومنها ما هو نظريات هي المعرَّضة للتغير، ولا سيما

ما كان ذا دليل غير قوي.

فحقائق العلوم التجريبية كلها الطبيعية أو الاجتماعية أو النفسية التي شهد لها

الحس أو العقل شهادة قاطعة هي حقائق شرعية. بل إن ما قام عليه منها دليل

راجح وإن كان غير قاطع، هي مما يعد بميزان شرعنا علماً يعمل به. فما دليلنا

على ذلك؟

دليلنا أولاً أن الشرع قضى بأن كل الحقائق دينية كانت أم دنيوية إنما يكتسبها

الإنسان بحسه وعقله. قال تعالى: [واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا

تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [النحل: ٧٨] .

فإذا كانت الحقائق إنما تكتسب بالحس والعقل، فمن البديهي أن يقال: إن كل

ما شهد له الحس والعقل فهو حقيقة، وما لم يشهد له فليس بحقيقة. ولذلك فإن ربنا

سبحانه وتعالى ذم الكفار المنكرين للحقائق المحسوسة ووبخهم. قال تعالى: [ولَوْ

نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ ... مُّبِينٌ] [الأنعام: ٧] .

ونحن نعلم أن أحاديث الآحاد تعتبر علماً مع أن ثبوتها ليس قطعياً كثبوت

الأحاديث المتواترة. ومما استُدِلَّ به على أن الظن الراجح يعد علماً قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ ... فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّار] [الممتحنة: ١٠] . ...

وذلك لأن علم البشر علماً مباشراً بإيمان شخص لا يكون إلا ظنياً. لكن

الامتحان يرجح هذا الظن نفياً أو إثباتاً، ولذلك يبنى عليه هذا الحكم المهم المذكور

في الآية الكريمة.

ومعنى ذلك أننا نأخذ كما يأخذ غيرنا حتى بالنظريات العلمية إذا كان ثبوتها

راجحاً ولم يكن قطعياً ما دامت لا تتعارض مع نصوص شرعية قطعية.

قد يستغرب بعض القراء قولي بأن ما لم يشهد له الحس والعقل، أو قل: ما

لم يأت عن طريق الحس والعقل فلا يعد علماً، ويقولون: أين الوحي إذن؟

وأقول: إن سبب هذا الاعتراض هو خلط يقع فيه كثير من الناس، وقد نبَّهت عليه في كثير من كتاباتي وأحاديثي. الخلط هو عدم التفرقة بين وسائل اكتساب

العلم، وهي الحس والعقل، ومصادر العلم، وهي الوحي والخلق؛ فالوحي مصدر ... للعلم؛ لكننا إنما نعرف أنه وحي بالحس والعقل، وإلا لم يكن لنا معيار نميز به بين النبي الصادق ومدعي النبوة، ولا بين ما هو كلام الله حقاً، وما هو من القول على الله تعالى بغير علم.

أعود إذن إلى قولي بأن حقائق العلوم التجريبية التي تقوم عليها أدلة قطعية

حسية كانت أم عقلية هي حقائق ثابتة لا تتغير. تُرى: هل سيأتي يوم يقول فيه

العلماء إنهم كانوا مخطئين في زعمهم بأن الأرض كروية، بعدما استطاعوا أن

يروها كرة، وأن يصوروها لمن لم يرها؟ هل سيأتي عليهم زمان يكتشفون فيه أن

الماء لا يتكون من الهايدروجين والأوكسجين كما يزعمون الآن؟ وهل يجوز

لإنسان عاقل أن يكابر في وجود شيء بعدما رأى دليله الحسي؟ إن مثل هذه

المكابرة أمر مذموم شرعاً كما أنه مذموم عقلاً، بل إن كل ما هو مذموم عقلاً فهو

مذموم شرعاً.

إن إنكار الحقائق الحسية سواء منها ما يشاهده الشخص العادي، أو تثبته

العلوم التجريبية طبيعية كانت أم اجتماعية أم نفسية أم غير ذلك هو هدم للشرع؛

لأنه هدم للبراهين الدالة على صحته، واللازمة للعمل به، والفارقة بينه وبين

الدعاوى الباطلة.

إن كتاب الله تعالى مليء بتوجيه الناس إلى التفكر في خلقه، والاستدلال به

على كثير من أصول الدين، كوجود الخالق سبحانه، ومعرفة صفاته، وبعثه

لعباده، ومصير المكذبين لرسله.

[إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي

الأَلْبَابِ (١٩٠) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ

السَّمَوَاتِ والأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]

[آل عمران: ١٩٠، ١٩١] .

ففي هاتين الآيتين الكريمتين ربط بين مظاهر طبيعية وبين الإيمان، وهو

ربط لا يتسنى إلا لمن يشاهد هذه الظواهر ويوقن بوجودها، ثم يكون إنسانأ ذا

عقل، وتفكُّر؛ فأولو الألباب هم الذين ينتقلون من المشاهدة إلى التفكر إلى الإيمان.

وانظر إلى قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ومُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فَالِقُ الإصْبَاحِ وجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً والشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ (٩٦) وهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ والْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وهُوَ الَذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [الأنعام: ٩٥- ٩٩] .

في الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة ربط بين حقائق طبيعية وبين الإيمان

لا ينكره إلا المأفوكون. وفي الآية الثانية ربط بين حقائق طبيعية وبين صفتين من

صفات الله تعالى. وفي الآيات الثالثة والرابعة والخامسة ربط بين حقائق طبيعية

وبين العلم والفقه والإيمان؛ فلا يكون عالماً ولا فقيهاً ولا مؤمناً من ينكر هذه

الحقائق بعد رؤيتها.

لا يقولن لي معترض بأننا إنما آمنا بهذه الحقائق الطبيعية؛ لأن الله تعالى

قررها. كلاَّ! فإن العلم بها سابق للإيمان بالقرآن الكريم ومستقل عنه؛ فهو أمر

مشترك بين المسلمين وغير المسلمين. والقرآن الكريم جعل علمنا هذا بها دليلاً

على قدرته وحسن صفاته. فلو كان علمنا بها مبنياً على تصديقنا بالقرآن لما

صلحت دليلاً، ولكان في الكلام دور.

وأنت تجد في الآيات التالية مثل هذا الربط الذي ذكرناه بين الحقائق المشاهدة

والبعث، وبينها وبين تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم: [وهُوَ الَذِي يُرْسِلُ

الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ

المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]

[الأعراف: ٥٧] .

والحقائق الحسية لها تعلق آخر مهم بأصول الدين؛ وذلك من حيث كونها

معياراً للتفريق بين الصدق والكذب؛ لأن القول الصادق إنما هو الذي يوافق الواقع

ولا يخالفه، فإذا كان الواقع المتحدَّث عنه واقعاً محسوساً، وكان القول مخالفاً له

علمنا أن القول كذب. هذه قاعدة بدهية يعرفها كل عاقل. ولذلك فعندما ألَّف

الطبيب الفرنسي موريس بوكاي كتابه المشهور عن العلوم الطبيعية والتوراة

والإنجيل والقرآن ذكر في مقدمته كلاماً فحواه أنه قال لنفسه: مادام الله تعالى هو

خالق الكون فلا يمكن أن يوحي إلى بشر بكلام يخالف الواقع الذي خلقه ويعلمه،

ولذلك فإنني سأحاكم هذه الكتب الثلاثة بمعيار الحقائق القطعية التي أثبتتها العلوم

الطبيعية، فما وجدته منها مخالفاً لشيء منها علمت أنه ليس من عند الله تعالى.

وكانت النتيجة أنه وجد في كتابَي اليهود والنصارى مثل هذه المخالفات، ولم يجد

منها شيئاً في القرآن الكريم، بل وجد أن القرآن الكريم سبق العلوم المعاصرة

بتقرير بعض الحقائق، ثم جاءت هي مؤيدة لها. فهل نقول لمثل هذا العالم: إن

منهجك غير صحيح؛ لأن حقائق العلوم الطبيعية حقائق متغيرة؟

وبمثل هذا المنهج انتقد النصارى الليبراليون إخوانهم الأصوليين.

فالليبراليون يقولون: إن كتابهم المقدس لا يمكن أن يكون كله كلام الله كما يزعم

الأصوليون، ويستدلون على ذلك بمواضع فيه جاءت مخالفة لحقائق محسوسة

أثبتتها العلوم التجريبية.

ومن غريب ما سمعت في عدم اعتبار الحقائق المحسوسة استدلال بعضهم

على هذا الزعم بحديث: (وكذب بطن أخيك) . والحديث كما رواه البخاري في

كتاب الطب من صحيحه عن قتادة عن أبي سعيد: (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله

عليه وسلم فَقَالَ: أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ اسْقِهِ

عَسَلاً، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فقال: صَدَقَ

اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلاً، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ) [١] .

استدل الزاعم بأن الحقائق المحسوسة لا اعتبار لها في النصوص الإلهية،

بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: (صدق الله وكذب بطن أخيك)

فكأنه يريد أن يقول: إنه مهما كانت الوقائع مخالفة للوحي فلا اعتبار لها، بل يجب

على المؤمن الصادق أن يؤمن بكلام الله تعالى مهما رآه مخالفاً للواقع المحسوس؛

لأن كلام الله تعالى هو الصدق، والواقع كبطن أخ السائل هو الكذب. فكأن هذا

القائل يفترض إمكانية مخالفة الوحي للحس أو العقل، وهو افتراض باطل، بل هو

طعن في الشرع؛ لأن صدق الكلام إنما يعرف كما ذكرنا بموافقته للواقع. فالمخالف

للواقع كذب لا محالة. والرجل إنما جاء للرسول صلى الله عليه وسلم طالباً شفاء

أخيه من الإسهال، والشفاء أمر محسوس. فلما رأى أن أخاه لم يُشْفَ عاد فسأل.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موقناً بأن كلام الله حق أي إن العسل لا بد

أن يشفيه، وإن بدا الأمر أولاً على غير ذلك. وصدَّق الله كتابَه ورسولَه فشُفي الرجل، أي إن الحقيقة الحسية جاءت في النهاية موافقة للآية القرآنية. لكن مقتضى كلام أخينا المشكك في الحقائق المحسوسة، أن الرجل لو سقي عسلاً مائة مرة فلم يزده شربه إلا إسهالاً، ولو أن كل مريض شرب عسلاً لم يزده شربه إلا مرضاً فلا بد أن يؤمن الناس بأن في العسل شفاءاً؛ بل الحقيقة أنه لو حدث هذا لكان فيه أكبر دليل على أن القول بأن في العسل شفاءاً لا يمكن أن يكون قولاً للخالق سبحانه.

فانظر كيف تؤدي الحجج الباطلة بصاحبها إلى الطعن في الدين من حيث يريد هو الانتصار له.

هنالك حديث طريف يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستدل

بالحقائق الواقعية في تقرير المسائل الشرعية. روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ

جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الأسَدِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (لَقَدْ

هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلا يَضُرُّ

أَوْلادَهُمْ) [٢] .

قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد

بِالْغِيلَةِ فِي هَذَا الْحَدِيث وَهِيَ الْغَيْل, فَقَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ وَالأَصْمَعِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل

اللُّغَة: أَنْ يُجَامِع اِمْرَأَته وَهِيَ مُرْضِع. يُقَال مِنْهُ: أَغَالَ الرَّجُل وَأَغْيَلَ, إِذَا فَعَلَ

ذَلِكَ وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: هُوَ أَنْ تُرْضِع الْمَرْأَة وَهِيَ حَامِل يُقَال مِنْهُ: غَالَتْ

وَأَغْيَلَت. قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب هَمّه صلى الله عليه وسلم بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهُ يَخَاف مِنْهُ ضَرَر الْوَلَد الرَّضِيع. قَالُوا: وَالأَطِبَّاء يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ اللَّبَن دَاء وَالْعَرَب تَكْرَههُ وَتَتَّقِيه.

وَفِي الْحَدِيث جَوَاز الْغِيلَة فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، وَبَيَّنَ سَبَب تَرْك النَّهْي وَفِيهِ جَوَاز الاجْتِهَاد لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبه قَالَ جُمْهُور أَهْل الأُصُول. وَقِيلَ: لا يَجُوز لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوَحْي وَالصَّوَاب الأَوَّل) .

فالحديث يدل على أن سبب ترك النهي هو التجربة، تجربة امم غير ...

العرب، كانوا يفعلون شيئاً لا تفعله العرب، ولم يضرهم فعله؛ فتجربتهم هذه دليل على أن هذا الفعل لا ضرر فيه، فلا ينهى عنه.

بقي أن نقول: إن الحقائق التجريبية التي يقرها الشرع نوعان: نوع يقره

إقراراً عاماً ولا يبني عليه أمراً من أمور العبادات، ونوع يقره ويبني عليه بعض

العبادات، فهو شرعي بمعنى خاص. مثال ذلك: أننا نعلم الآن أن ضوء الشمس لا

يصلنا إلا بعد ثماني دقائق من مشاهدتنا لها، ونعلم أننا لا نرى الشيء إلا وصلنا

ضوؤه. ومعنى ذلك أننا عندما نرى الشمس تشرق أو تغرب تكون قد فعلت ذلك

قبل ثماني دقائق. هذه حقيقة لا يكذبها الشرع. لكن الشرع بنى مواقيت الصلاة

على الشروق والغروب كما يظهران للناس، لا على حقيقتهما الفلكية المستقلة عن

الرؤية البشرية. لكن ما بُني الشرع عليه هو أيضاً حقيقة علمية، بل هي حقيقة

يحسها كل إنسان مبصر.

ومثال آخر: هو ميلاد الهلال ورؤيته. فالميلاد حقيقة علمية تجريبية قطعية

كما عرف الناس منذ مئات السنين، وكما أقر بذلك كثير من علمائنا السابقين. لكن

الشرع رتب الصيام على الرؤية لا على ميلاد الهلال، ولا على إمكان الرؤية، مع

أنها حقائق علمية. ماذا نفعل إذا كنا نعلم أن الهلال لم يولد، ثم زعم أناس أنهم

رأوه؟ القاعدة العقلية والشرعية هي أن القطعي مقدم على الظني؛ فما دمنا نعلم

يقيناً أن الهلال لم يولد، فإننا نعلم يقيناً أنه لا يمكن أن يُرى، ولذلك نرد شهادة من

زعم أنه رآه؛ لأنها ظنية. فالذين يرون الأخذ بالحساب في النفي هم المحقون

بحسب هذه القاعدة وإلا وقعنا في ورطة الاعتقاد بأن الحقائق القطعية تتعارض؛ أو

أن ما يقرره الشرع قد يخالف ما يقطع به الحس او العقل.


(١) رواه البخاري، ح/٢٥٢٥.
(٢) رواه مسلم، ح/ ٢١٦٢.