للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[تهويد العقل العربي]

سيطرةُ اليهود على الغرب من خلال السيطرة على وسائل الإعلام مكنهم من

السيطرة على العقل الغربي، فأصبح الجميع يحرص على موادَّة اليهود والتقرب

إليهم والركوع تحت أعتابهم، فإذا كان الرئيس الأمريكي يجعل دعم (دولة إسرائيل)

أحد أبرز معالم برنامجه الانتخابي ليضمن النجاح، فغيره من باب أوْلى.

ولكن! هل استطاع اليهود تهويد العقل العربي كما استطاعوا تهويد العقل

الغربي..؟ !

وهل استطاع اليهود أن يخترقوا الوسط الإعلامي والفكري العربي كما فعلوا

ذلك في الغرب..؟ !

كان دعاة التطبيع قلَّة محدودة منبوذة، متهمين بالتبعية والعمالة، ويعانون من

حصار كبير، وما هي إلا سنوات قلائل حتى أصبحت هذه الظاهرة تتصاعد

لتصبح جزءاً رئيساً من النسيج الإعلامي العربي. فبعد الزوبعة التي أثارها

الصحفي المصري (علي سالم) الذي زار (إسرائيل) بقصة سامجة مفتعلة، وبعد

تأسيس (منتدى كوبنهاجن) وعلى رأسه (لطفي الخولي) الذي يدعو إلى تطبيع ثقافي

شامل مع العدو؛ أصبح دعاة التطبيع يغزون الحظيرة الإعلامية والفكرية، وتعلو

أصواتهم النشاز فوق كثير من الأصوات.

لقد استطاع اليهود النفاذ إلى قلب بعض المؤسسات الإعلامية والفكرية العربية

واختراقها، وتغيير خطابها السياسي والفكري، وأصبح كبار الإعلاميين قبل

صغارهم يلوذون بالدعوة إلى التطبيع، من أجل البقاء والبروز نحو الأضواء،

والترقي في درجات السلم الإعلامي. وراح هؤلاء (التقدميون!) بالتفكير والتحدث

بالنيابة عن اليهود والدفاع عن حقوقهم المشروعة (!) ونصَّب هؤلاء القوم أنفسهم

حُماةً عن الحق اليهودي المزعوم، ولا نبالغ إذا قلنا: إنَّ منهم من تصهين ربما

أكثر من بعض الصهاينة! وبعد أن كانوا يرفعون الشعارات الثورية، ويطبلون

باسم القومية والوطنية، لبسوا لهذه المرحلة لباساً أنيقاً ناعماً يتلاءم مع رشاقة

الكلمات التي تقتضيها ثقافة التطبيع.

نعم! بدأ كثير من المثقفين والمفكرين العرب يبحث عن دور مرموق في

الخريطة السياسية، ولا يجد طريقاً أسرع ولا أثمن ولا أكثر نجمومية وإثارة من

طريق التطبيع..! !

إنَّ الساحة الثقافية العربية تعاني من حالة اهتزاز عنيفة أدت إلى لهاث محموم

وراء سراب التطبيع، وسعت سعياً حثيثاً إلى تزييف وعي الشعوب العربية،

وتشويه رؤيتها، ونستطيع أن نجمل أبرز جوانب التزييف بما يلي:

أولاً: فرض سياسة التطبيع، والترويج لثقافة السلام، وعرضها بألوان براقة

خادعة، ومحاولة تلميع التجربة المصرية في السلام، والتعتيم المتعمد لكل المساوئ

والمخازي التي أثبتتها السنون والأيام. وتبع ذلك حصار إعلامي محكم لكل الأقلام

التي تخالف هذا التوجه، والسعي لتهميشها وعزلها، ومنع نشر كل ما يسيء لـ

(إسرائيل) أو إذاعته. وأصبح معارضو التطبيع في حس هؤلاء: من الخارجين

عن الصف العربي، ومن المتحجرين الجامدين على الماضي الذين وقفوا على

أطلاله، ولم يستطيعوا استيعاب المتغيرات الهائلة والمتسارعة التي تحدث في

العالم. وبعبارة أخرى: سعى هؤلاء الإعلاميون الذين يتشدقون بالديمقراطية

والحرية إلى احتكار الصوت الإعلامي، والتطبيل به كما يشاؤون..!

ثانياً: الدعوة إلى مسح الذاكرة العربية، وإهالة التراب على تاريخ دموي

طويل حافل بالوحشية والتسلط والطغيان. فالحروب العربية (الإسرائيلية) ، ومذبحة

دير ياسين وغيرها من المذابح، أحاديث عفا عليها الزمن قام بها مجموعة من

المتطرفين اليهود الذين لفظتهم الأيام، ولم يبق إلا صوت الحمائم الوديعة التي تؤمن

بالإخاء والتعايش السلمي الذي تمليه المصالح المشتركة. ولذا يجب أن نمد أيدينا

إليهم لنقطع الطريق على الأقلية المتطرفة الذين يعدهم حمائم (إسرائيل) خطرا

على الصهيونية قبل أن يكونوا خطراً على العرب ... !

وتأكيداً للكرم العربي المعهود يجب على منظمة التحرير الفلسطينية،

والمجلس الوطني الفلسطيني، أن يغيروا بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر

حق (إسرائيل) في الوجود على الأرض الفلسطينية، أو البنود التي تدعو إلى الكفاح

المسلح لانتزاع الحق الفلسطيني.. ونحوها من البنود التاريخية، فقد مضى زمن

الفدائيين، وصدئت أسلحتهم، فنحن في عصر سلام الشجعان!

ثالثاً: طمس معالم الصراع العسكري مع (إسرائيل) ، والتهوين من شأن

الترسانة النووية الهائلة التي يملكها اليهود، والتغاضي عن كافة الأسلحة الجرثومية

والكيميائية الفتاكة المحرمة في زعمهم! دولياً؛ والترويج لاستبعاد إمكانية قيام أي

حرب قادمة مع (إسرائيل) ما دمنا نتقدم في خطوات جادة نحو السلام المزعوم.

وربما دعا بعض (الأذكياء!) إلى أن الموازنات المالية الهائلة التي تصرف

في الاستعداد للحرب يمكن أن تستثمر في التنمية الاجتماعية والحضارية للبلاد

العربية، وكأن العائق الوحيد أو الرئيس للتنمية في زعمهم هو الاستعداد للحرب

مع (إسرائيل) ، هذا إذا سلمنا جدلاً أن هناك استعداداً للحرب أصلاً في ظل الأحزاب العروبية الثورية..! !

رابعاً: الدعوة إلى فتح الأسواق العربية لـ (إسرائيل) ، وجعلها شريكا

استراتيجياً لتنمية الاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط. وقد رأينا كيف أنَّ بعض

المفكرين العرب راح يمجد دعوة (شمعون بيريز) لإقامة سوق شرق أوسطية

مشتركة يتبادل فيها العرب و (إسرائيل) المنافع الاقتصادية! ثم رأينا أن ما يسمى

بالمقاطعة الاقتصادية لـ (إسرائيل) أو الشركات التي تتعامل مع (إسرائيل)

تتهاوى تدريجياً على أعتاب الجامعة العربية فضلاً عن غيرها..! !

خامساً: الاستجابة للدعوات اليهودية المطالبة بتغيير كل ما يتعلق باليهود من

المناهج التعليمية، واستبدالها بنصوص أخرى تدعو إلى إحياء السلام والتعاون.

فتاريخ صلاح الدين الأيوبي، ومعركة حطين، والحروب الصليبية، بل حتى

الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن اليهود؛ كل ذلك لا يتلاءم مع

روح الانفتاح والوئام، ويجب علينا أن نبادر إلى تغييرها وإزالتها من العقلية

العربية، ونحيي ثقافة السلام والتبادل الثقافي والحضاري. وإذا كان لا بد من

دراسة التاريخ فلْيُدرسْ من خلال التاريخ الفرعوني. وحضارات ما قبل الإسلام في

نظر هؤلاء هي الأنموذج الأمثل الذي يمكن أن يربى عليها الشعب العربي..! !

وأخيراً: إذا كان لا بد من فرض سياسة التطبيع فلا بد من تقديم القربان الذي

يرضي (أبناء العمومة) ، وهو كبت كل الأصوات المعارضة، وعلى رأسها

(أصوات الأصوليين المتطرفين!) ، وإذا استدعى الأمر أيضاً فلا مانع من توقيع

اتفاقيات أمنية مع اليهود يفرض بموجبها مثلاً دور رئيس للسلطة الفلسطينية في

تكبيل أيدي (أبطال) الحجارة، ووأد الحمية الإسلامية في نفوسهم. ولا مانع من أن

تعمل السلطة الفلسطينية (المناضلة!) شرطياً متفانياً يعمل تحت مظلة وزارة

الداخلية الإسرائيلية، وترفع عصا البطش والاعتقال وتكميم الأفواه. ومن خرج من

المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بناء على اتفاقات معاهدات السلام،

دخل أضعافه في معتقلات أخرى تابعة للسلطة الفلسطينية، ولكنه هذه المرة بمسمى

آخر لا نكير فيه أمام العالم المتحضر، ويحقق شتى الطموحات والتطلعات ...

اليهودية..!

ولكن هل سينجح دعاة السلام في ذلك..؟ !

ونقولها بكل ثقة: هيهات.. هيهات.. فما دام الناس يقرؤون آل عمران

والأنفال والتوبة، فإن فلسطين ستظل في قلوبهم بإذن الله تعالى، بعزّ عزيز أو بذل

ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. ...

[واللَّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون] [يوسف: ٢١] .