للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

[دين الحق والخير والجمال]

د. جعفر شيخ إدريس

رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة

الإسلام دين الحق والخير والجمال؛ لأنه حق كله، وخير كله، وجمال كله؛

فلا باطل فيه، ولا شر فيه، ولا قبح فيه. وأما ما عداه فيختلط فيه الحق بالباطل

والخير بالشر، والجميل بالقبيح. وهو دين الحق والخير والجمال؛ لأنه يوائم بين

هذه القيم الثلاث، ويجعل كلاًّ منها كما ينبغي أن يكون معاضداً للآخر ومعيناً عليه،

بينما يجعلها غيره من المذاهب والحضارات والنِّحَل متشاكسة متضاربة، يهدم

بعضها بعضاً. يرون في جمال الفنون مسوِّغاً لاتخاذها وسيلة إلى قول الزور،

وهدم الفضيلة؛ وفي جمال التعبير شعراً كان أم رواية ما يجعل من حق القائل أن

يختلق الأباطيل ويروِّج للشرور، ويجاهر بالفسوق.

والإسلام دين الحق والخير والجمال؛ لأن المعبود الذي يدعونا إليه هو

الحق، وهو فاعل الخير، وهو الجميل الذي لا يضاهي جمالَه جمالٌ.

فالله تعالى هو الحق الأعلى الذي لا يقارِب أحقيتَه حقٌّ؛ فهو الأول والآخر

والظاهر والباطن، وهو الخالق لكل شيء.

وربنا تعالى خيرٌ مَحْضٌ؛ فالخير كله بيديه، والشر ليس إليه. وربنا تعالى

جميل يحب الجمال.

والرسول الذي أرسله إلينا حق، نعرف نسبه، ومولده، ونشأته، وصفاته،

بل نعرف عنه ما لا يعرف أحد عن بشر سواه؛ فهو ليس كأولئك الذين يعتقد بعض

أصحاب الديانات فيهم، وهم لا يملكون دليلاً تاريخياً حتى على وجودهم، ودعك

من سيرتهم. وكان رسولنا متصفاً بكل صفات الخير، حتى قال عنه ربنا سبحانه:

[وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم: ٤] ، وحتى قالت عنه زوجه التي عرفت مداخله

ومخارجه: كان خلقه القرآن [١] . كان صادقاً، أميناً، وفياً، كريماً، رحيماً،

شجاعاً، صبوراً، دوَّاراً مع الحق حيث دار، لا تأخذه في الله لومة لائم. وكان

جميل الصورة، جميل الروح، جميل الحديث. وكان لذلك رجلاً مهيباً. والقرآن

الكريم الذي أنزله تعالى كتاب يقول الحق، ويهدي إليه، ويأمر بالخير وينهى عن

الشر، ويعبر عن كل ذلك بلغة هي الذروة العليا من الجمال: [بالحق أّنزلناه

بالحق نزل] [الإسراء: ١٠٥] .

[الم (١) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] [البقرة: ١، ٢] .

[لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]

[فصلت: ٤٢] .

[إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] [الإسراء: ٩] .

[وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً] [الأنعام: ١١٥] . (صدق في الأخبار

وعدل في الأوامر والنواهي) .

[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَذِينَ يَخْشَوْنَ

رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ] [الزمر: ٢٣] .

فهو ليس كالكتب الدينية التي يشك أصحابها في أصولها، وفي ترجماتها،

وفي معانيها.

وبما أن هذه القيم الثلاث مجتمعة في الإله المعبود، وفي الرسول المبعوث،

وفي الكتاب المنزل، فإن أحسن أحوالها أن تكون كذلك متداخلة في حياة البشر.

ولذلك نجدها متداخلة موصوفاً بعضها ببعض في كتاب ربنا وسنة رسولنا:

فمكارم الأخلاق توصف بالجمال. [فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ]

[يوسف: ١٨] ، [فاصبر صبرا جميلا] [المعارج: ٥] .

والقول يوصف بالحسن وهو مفهوم جمالي وبه يوصف الفعل: [ادفع بالتي

هي أّحسن] [المؤمنون: ٩٦] ، [وقولوا للناس حسنا] [البقرة: ٨٣] ،

[وجادلهم بالتي هي أّحسن] [النحل: ١٢٥] .

ولا تناقض بين الانتفاع بالشيء وتذُّوق جماله، بل إن هذا الذي ينبغي أن

يكون: [والأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ومَنَافِعُ ومِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ

حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ

الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (٧] ) [النحل: ٥ - ٧] .

[قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ

لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ] [البقرة: ٦٩]

[أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ

ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ] [النمل:

٦٠] .

وتأمل هذه الآية الكريمة التي يأمرنا الله تعالى فيها بالنظر إلى ثمر النبات

وينعه: [انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]

[الأنعام: ٩٩] . والنظر إلى الثمر والينع لا ينفك عن رؤية ما فيه من بهجة وجمال

. فكما أن خلقه آية، وما فيه من غذاء آية، فجماله أيضاً آية لقوم يؤمنون. وانظر

كيف جمع سبحانه بين الأمر بالنظر إليه، والأمر بإيتاء زكاته: [كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا

أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: ١٤١] .

والمحظوظ من كانت له زوجة تجمع بين حسن الخلق وجمال المنظر: إن

نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها

وماله [٢] .

وكما أن هذه القيم يوصف بعضها ببعض فإن ديننا يجعل بعضها وسائل

لبعض.

فالدعوة إلى الخير لا تبنى إلا على الحق، ولا تكون إلا مقرونة بالحسن

والجمال: فالقصص القرآني أحسن القصص محتوىً وأسلوباً، لكنه كله مبني على

الحق، لا على الخيال. إنه يقرر واقعاً ولا يختلق باطلاً ليتوسل به إلى عِبرٍ

أخلاقية أو دينية: [نحن نقص عليك أّحسن القصص] [يوسف: ٣] . [لَقَدْ كَانَ

فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ولَكِن تَصْدِيقَ الَذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [يوسف: ١١١] .

والدعوة إنما تكون بالكلام الجميل الذي تأنس به المسامع وترتاح إليه القلوب:

[وقولوا للناس حسنا] [البقرة: ٣٨] ، [ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة

الحسنة وجادلهم بالتي هي أّحسن] [النحل: ١٢٥] .

لكن بعض إخواننا عفا الله عنهم جعلوا الدعوة إلى أعظم حق وأفضل خير:

عبادة الله وحده، والاستمساك بسنة نبيه جعلوها مرتبطة بأنواع من الجفاء والغلظة

التي تنفر منها طباع الكرام. ألم يتأملوا قول الله تعالى لرسوله: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ

اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ

وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] [آل عمران: ١٥٩] .

يا لله! فكأن الله تعالى يقول لرسوله الكريم: إنك لو أبقيت على كل ما فيك

من خصال الخير، ولو بقيت تدعو إلى ما تدعو إليه من حق، لكنك كنت مع ذلك

فظاً غليظ القلب لانفض من حولك هؤلاء الذين هم الآن معك. لماذا يا ترى؟ لأنهم

أناس كرماء يحترمون أنفسهم، ولا يرضون لها أن تذل حتى من رجل في مثل

شخصية الرسول. وما كل الناس كذلك؛ بل إن منهم من لا يبقى ويطيع إلا مع

الإذلال والهوان. ألم يقل الله تعالى عن قوم فرعون: [فاستخف قومه فأطاعوه

إنهم كانوا قوما فاسقين] [الزخرف: ٥٤] . وصدق القائل:

إذا أنت أكرمتَ الكريم ملكتَه ... وإن أنت أكرمتَ اللئيمَ تمردا

ودعوة الحق إنما يصلح لها هذا النوع من كرام الناس. إنهم هم الذين

يصدقون فيها ويتحملونها بقوة وشجاعة. فليكونوا هم إذن طَلِبَتَنا حين ندعو؛

ولندعهم لذلك بطريقة تليق بهم، فتجمعهم حولنا ولا تنفرهم منا. أما اللئام الذين

يرضون بالهوان فلا خير فيهم، ولا رجاء منهم.

وقابل هؤلاء أناس تذرعوا بلين الكلام وخفض الجانب ليوقعوا الناس في

مهالك الشرك والابتداع. والسعيد من وفقه الله تعالى للدعوة إليه بالتي هي أحسن.

الجمال إذن محمود ومرغوب فيه، وهو قرين الحق والخير. فأما حين يكون

مَظِنَّةً لأن يُتَّخَذَ وسيلة لهدم المكارم فإن الإسلام يمنع الاستمتاع به. ولذلك فإنه

يحرم النظر إلى بعض الصور الجميلة، والاستماع إلى بعض الأصوات الجميلة

حين يكون ما فيها من جمال ذريعة إلى شرك أو هدم مكارم. ولهذا حرم النظر إلى

زينة النساء لغير محرم أو زوج؛ لأن الاستمتاع بجمالهن قد يكون وسيلة إلى هدم

الفضيلة. وأباحه للمحارم؛ لأن هذه العلة منتفية في حقهم، وأباحه للأزواج، بل

ودعاهم إليه؛ لأنه استمتاعٌ حلال، وقد يكون وسيلة إلى الامتناع عن الحرام.

وكذلك الأصوات الجميلة قد يرتبط جمالها بخاصةٍ فيها، أو في المستمتع بها،

تثير مشاعر الرذيلة، أو تكون ملهية عن فضيلة. فخضوع النساء بالقول قد يثير

الطمع فيهن وإن كن أزواج نبي، ولذلك مُنِعْنَ منه: [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ

النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً

مَّعْروفاً] [الأحزاب: ٣٢] .

وقل مثل ذلك عن المعازف وأنواع من الغناء. قال تعالى: [ومِنَ النَّاسِ مَن

يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

مُّهِينٌ] [لقمان: ٦] .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو والله الغناء.

فالحمد لله الذي هدانا للحق، وسهَّل لنا سبل الخير، ومتعنا بجمال الكلام،

وجمال الخلق، وجمال المعاني.


(١) رواه أحمد، ح، ٣٣٤٦٠ (١) رواه ابن ماجة، ح/ ١٨٤٧.