للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

جماجم الشيشان.. أوراق انتخابية

د.سامي محمد صالح الدلال

لم يصل بوتين للرئاسة بعدد أوراق الناخبين وإنما بعدد جماجم الشيشانيين؛

فأين منظمات حقوق الإنسان من تجريمه وحكومته والدعوة لمحاكمتهم أسوة بمجرمي

الحروب؟ ! !

لأول مرة في التاريخ الغابر والحاضر تتقرر نتيجة الفوز بالرئاسة ليس بعدد

أصوات الناخبين، بل بعدد الجماجم التي أُزهِقت أرواح أصحابها.

منذ أن عين يلتسين بوتين قائماً بالأعمال، شرع هذا الأخير يخطط لدعايته

الانتخابية ليفوز بكرسي الرئاسة في انتخابات ٢٦ مارس ٢٠٠٠م.

وقد وضع خطة دعائية جهنمية، هي (الإبادة الشاملة للشيشان) ثم راح يضع

عناصر تنفيذها بكل ما أوتي من عزم ذاتي وقوة عسكرية روسية عاتية. ولم يكن

أحد في العالم يعلم حقيقة تلك العناصر حتى تجلت وتجسدت في الواقع، فإذا هي

تتكون من عدة ورقات وفق ما يلي:

١- الورقة الأولى: جمع شتات مشاعر الشعب الروسي حول القضية التي

يريد إشعالها لتكون وقود انتخابات الرئاسة. وقرر أن تكون القضية المطروحة هي

تهديد الشيشان لأمن روسيا الداخلي والخارجي.

ولتحقيق ذلك لغمت المخابرات الروسية عدداً من الأبنية السكنية في داخل

موسكو بالعبوات الناسفة شديدة الانفجار وعظيمة القدرة التدميرية، ثم فجرت تلك

الأبنية على قاطنيها الأبرياء من الروس فأحالتها ركاماً في الحال مما أدى إلى قتل

معظم سكانها تحت الأنقاض ولم الشيشان مسؤولية ذلك بكل ما أوتي من قوة ووسائل

عبر الصحافة والإذاعات والتلفزيون وعلى مدى أسابيع مع ضخ ينج من تلك

المجازر المخابراتية إلا بضعة من الجرحى.

وما أن وقعت تلك الانفجارات الضخمة حتى راح الإعلام الروسي يُحَمِّل

يومي للعبارات التي تؤجج مشاعر الكراهية والحقد والغضب على الشعب الشيشاني.

كل ذلك لأجل تمهيد المسرح لبدء الغزو الروسي الهمجي الوحشي لأراضي

جمهورية الشيشان المسلمة الموادعة. فكانت هذه الأحداث الإجرامية هي أول ورقة

انتخابية طرحها بوتين في الساحة الروسية الديمقراطية! !

٢- الورقة الثانية: في حملة بوتين الانتخابية كانت قرار إزالة دولة الشيشان

من الوجود، وليس مجرد تدمير بنيتها التحتية. فأصدر أوامره العسكرية لجحافله

الجرارة لتحقيق تلك الغاية. فتحركت تلك الجحافل المكونة من الدبابات والمدفعية

والطائرات والصواريخ الشاملة للقوات البرية والجوية والبحرية، من المشاة

والمظليين وقوات الصاعقة وقوات العمليات الخاصة والقوات البحرية، وقد تزودت

بجميع أنواع أسلحة التدمير والتقتيل والإحراق والإزالة والغازات السامة وأسلحة

الدمار الشامل كالأسلحة الكيميائية والنووية التكتيكية، مع حقن نفوس جميع الأفراد

العسكريين المشاركين في تلك الحملة الشيطانية الإبليسية بالحقد والكراهية الشديدتين

لكل ما له متعلَّق بمسمى الشيشان، نعم! تحركت تلك الجحافل لتزيح الستار عن

الورقة الانتخابية الثانية لبوتين، وذلك في ظل مهرجان إعلامي هائج قرعت له

جميع طبول الحرب الإعلامية، وعزفت له جميع أوتار الكذب والدجل الصحفية

والإذاعية والتلفزيونية في ظل من الصخب الدعائي الذي يدعي أهمية وحدة

الأراضي الروسية وتماسكها من خلال إبقاء الشعوب الإسلامية المضطهدة

بالاستعمار الروسي تحت نير كيان الستار الحديدي الذي أعاد الروس صبغ لونه

بغير اللون الأحمر مع إبقاء حقيقته الجوهرية.

وهكذا اندفع الموت المدجج بغية بسط سلطانه الأسود على الربوع الخضراء

للأراضي الشيشانية.

٣- ومع تسارع عقارب الزمن متجهة صوب يوم الانتخابات تسارع

اصطفاف الورقة الانتخابية الثالثة فإذا هي تشكل الجمل الآتية:

أ- إزالة مدن شيشانية كاملة من الوجود بما فيها غروزني التي سويت

بالأرض تماماً.

ب- تشريد الشعب الشيشاني إلى خارج أرضه ودياره في جو من الخوف

والفزع والهلع تلسعه برودة الشتاء الثلجي القارس والقاسي، ويعشش الجوع الشديد

في بطون أبنائه.

وقد دب فيهم الوهن والضعف وهجمت عليهم الأمراض، يحملون جرحاهم،

ولا يجدون مكاناً يدفنون فيه موتاهم، ولا أحد يكسو عاريهم أو يدفِّئ أبدانهم أو

يطعم جائعهم أو يداوي مرضاهم أو يعالج جرحاهم، يسيرون في مواكب الموت

تلاحقهم الطائرات الروسية بصواريخها فتنثر أشلاءهم فوق الثلوج، وتدكهم

المدفعية الثقيلة فتتطاير أحشاؤهم في كل اتجاه، وتقصفهم الدبابات المدمرة فتقطع

الرءوس عن الأجساد، وتبتر الأطراف وتقذفها في كل واد!

هكذا اندفعت الجموع العزل من المدنيين الشيشانيين نحو حدود جمهورية

الأنغوش يتجسد فيها ذلك المشهد المأساوي الذي تتقاصر أجزل الكلمات وأمضى

العبارات عن وصف صوره ووقائعه.

ج- الإجهاز على كل من بقي في المدن وتشبث بما بقي فيها من طوب متناثر

أو أنقاض مبعثرة.

وقد شمل هذا الإجهاز النساء والأطفال والمسنين والرجال العزل الذين لم

يقاتلوا أو اختاروا الصمود في ديارهم. فأما النساء فقد اغتصبوهن ثم قتلوهن، وأما

الأطفال والمسنون والرجال فذبوحهم أو مثَّلوا بهم أو أحرقوهم أو أسروهم. ويا ويل

هؤلاء الذين وقعوا في الأسر! فإنهم فعلوا بهم الأفاعيل التي يعجز القلم عن وصفها

وتنوء الكتب عن حمل أثقال أوزارها.

إن الورقة الانتخابية الثالثة لبوتين تضمنت مشاهد إجرامية ليس لها مثيل في

تاريخ البشرية؛ فقد نشرت جريدة (سبعة أيام) الجورجية في عددها الصادر برقم

٤٧في ٢٥نوفمبر ١٩٩٩م تقريراً ميدانياً من الشيشان بلسان صحفية جورجية

يرافقها صحفي ألماني، وقد جاء في التقرير باختصار: (تعتبر قرية قالمي أقرب

إلى جورجيا. وتبدو حولها السيارات المحترقة من جميع الجهات، يلفها صمت

رهيب، باستثناء طائرة روسية تبحث عن هدف آخر. القرية كلها دمرت بالكامل.

وتلي هذه القرية قرية أخرى نصف مدمرة. والباقون من سكانها على قيد الحياة هم

الذين لم يستطيعوا الخروج. قادونا أولاً إلى منزل سُوِّي بالأرض؛ ثم روضة

أطفال، لم يبق منها سوى المدخل الذي كُتب عليه تحية من الأطفال: (نحن نرحب

بكم وننتظركم بقلوبنا وأرواحنا) حيث ذهب بقية الأطفال حرقاً داخل الروضة التي

دمرتها طائرات روسية. وفي اليوم الثاني عندما كان أقرباؤهم يوارونهم التراب

قامت المروحيات الروسية بالتحليق فوقهم. وكل ذلك يجري بجوار القرية،

وبجانبها حافلة مليئة باللاجئين. تبدو لنا وجوه الأطفال وهم خائفون مرعوبون.

وفجأة بدأ القصف على الحافلة بالصواريخ الحارقة. وكان المحرك وخزان الوقود

هما الهدف الأول بالنسبة لهم. ثم شعرنا بقوة الانفجار والارتجاج والحافلة تحترق،

ولم يستطع أحد من الركاب الخروج، فاحترق كل من فيها من الأطفال والنساء.

وفي إحدى القرى قرب غروزني عُذِّب أحد السكان حتى الموت، حين قام جنود

فيلق روسي كامل بإطفاء سجائرهم على جسمه العاري وأجبروه على المشي على

الثلج حافي القدمين، وأمام عينيه قام الجنود الروس باغتصاب زوجته. ودون

رحمة قام هؤلاء بتعذيب ثلاثة أفراد من عائلة شيشانية. وتحمل الثلاثة جميع أنواع

وفنون التعذيب الروسي الإجرامي فأحدهم قتلوه رمياً بالرصاص بعد تعذيبه،

والآخر قطعوا قدميه، والثالث نزعوا كبده وهو حي، وقطعوا يديه حتى المرفق)

انتهى التقرير.

هل سمع أحد من الخلق بورقة انتخابية أبشع وأفظع من هذه الورقة؟ ! !

٤- وأما ورقة بوتين الانتخابية الرابعة فكانت مقاتلة المجاهدين الشيشانيين؛

فقد حشد عليهم أكثر من مائة ألف مسلح مدجج بأفتك الأسلحة، ظاناً أنه سيسحق

بهم أولئك المجاهدين في بضعة أيام؛ فإذا بها تزيد على ستة أشهر ولا يزال أُواراها

متقداً ولهيبها مستعراً.

لقد لقن المجاهدون الجيش الروسي دروساً قاسية في المعارك القتالية، رغم

أن هذا الجيش كان يتجنب أية مواجهة مباشرة؛ وذلك باللجوء إلى الاستخدام

المكثف لسلاح الطيران والقصف المركز بالمدفعية والدبابات، ومع ذلك فقد تكبد

أفدح الخسائر وامتلأت مستشفيات روسيا بالأعداد الهائلة من الجرحى، وانتعشت

سوق تصنيع التوابيت في جميع أنحاء المدن الروسية وازدحمت بطون المقابر

بالهلكى في المعارك وظهورها بالمشيعين والمفجوعين بفقد أبنائهم أو أزواجهم أو

آبائهم.

لقد وعد بوتين شعبه بأنه سيقضي على هؤلاء المجاهدين قضاءاً مبرماً

ويصفيهم تصفية جسدية شاملة، فخاب ظنه وما أوفى بوعده ولن يستطيع؛ فإن هذا

الجهاد سيستمر بإذن الله تعالى وستكون من نتائجه ليس تحرير بلاد الشيشان

واستقلالها فقط ولا استقلال جمهوريات القوقاز فقط. بل ستكون من نتائجه انهيار

شامل للدولة الروسية، وتمزق لوحدة شعبها. وسيأتيك نبؤهم بعد حين. قال تعالى: [وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا

بَأْسَنَا إذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وارْجِعُوا إلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومَسَاكِنِكُمْ

لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣) قَالُوا يَا ويْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى

جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ] [الأنبياء: ١١ - ١٥] .

لم يتمكن بوتين من لعب هذه الورقة الانتخابية على الوجه الذي خططه لها؛

لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ولعل هذه الورقة هي التي أوشكت أن تقوض

وصوله إلى هدفه الذي أراده وهو: أن يتبوأ الرئاسة الروسية بإجماع شعبي، فإذا

به لم يفز إلا بـ ٥٢% من الأصوات.

٥- أما الورقة الانتخابية الخامسة التي استخدمها بوتين للوصول إلى الزعامة

الروسية فكانت (الكذب) نعم، الكذب، حتى صار بالإمكان أن يطلق على وزارة

الدفاع الروسية اسم وزارة الكذب الروسية.

لقد امتهنوا الكذب على شعبهم وعلى جميع العالم وذلك للتغطية على الجرائم

القذرة والبشعة التي مارسها الجيش الروسي ضد الشعب الشيشاني الصامد المجاهد.

لقد وظفت وسائل الإعلام الروسية كلها لتقود حملة الكذب، على طريقة:

اكذب اكذب حتى يصدقك الناس. وقد شملت حملة الكذب هذه عدة ميادين:

١- فقد أصدروا بيانات كثيرة كاذبة يدَّعون فيها عدم ممارسة أي بطش وعنف

ضد السكان المدنيين العزل من النساء والأطفال والشيوخ.

٢- وأصدروا بيانات كثيرة كاذبة يخففون فيها من الخسائر الحقيقية في

الرجال والعتاد.

٣- وأصدروا بيانات كثيرة كاذبة يدَّعون فيها انتصارات وهمية على

المجاهدين.

٤- وأصدروا بيانات كثيرة كاذبة يردون فيها باستخدام أسلوب الكذب، على

الذين فضحوا كذبهم من صحافيين ومراسلين أجانب.

لقد جعل بوتين الكذب ورقة هامة في حملته الانتخابية ليموه الحقائق على

شعبه وشعوب العالم، وليدَّعي تحقيق انتصارات وهي في حقيقتها هزائم منكرة.

تلك هي أهم أوراق الحملة الانتخابية وأبرزها التي دفعت ببوتين إلى سدة

الرئاسة الروسية.

لقد انفرد بوتين بين الأولين والآخرين في صياغة حملة انتخابية عبر مجازر

وحشية وفظائع دموية ومقابر جماعية.

فإن كنت تعجب فاعجب من دولة تسنَّم زعيمها سدة الرئاسة من خلال تلك

المواصفات السوداء؛ فهل ينتظر الشعب الروسي إلا الظلم والشنار من هذا الرئيس

الذي سيحكمه بالحديد والنار؟

ولكن نقول له ولأمثاله ما قاله الله تعالى في سورة الفجر: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ

رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ (٨) وثَمُودَ الَذِينَ

جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (٩) وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (١٠) الَذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ (١١)

فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣) إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] .

[الفجر: ٦ -١٤] .

وقوله تعالى: [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ

أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] [الطارق: ١٥ - ١٧] .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.