للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

ماذا يحدث في السودان؟

محاولة لتفسير ما جرى وأسبابه

حسن الرشيدي

«إن هذه اللحظة الحاسمة تستدعي خطاباً كريماً للدعوة إلى الجهاد» .

هذه كانت كلمات الدكتور حسن الترابي يرد بها على إجراءات عزله عن

رئاسة البرلمان في السودان بعد أن ظل طوال ما يقرب من عشر سنوات شبه

المسؤول المطلق عن إدارة النظام السوداني؛ حيث استطاع أن ينقل الحركة

الإسلامية لأول مرة من طور الدعوة إلى طور الحكم؛ فماذا حدث؟

في مساء الأحد ١٢/١٢/١٩٩٩م أقدم الرئيس عمر البشير على إعلان حالة

الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وحل المجلس الوطني، وتعطيل أربع مواد من الدستور

تتعلق بانتخاب ولاة الأقاليم. هذه الإجراءات كانت صدمة لبعض الناس ومفاجأة

كاملة، ولكنها بالنسبة للآخرين كانت تطوراً طبيعياً؛ فقد تحدثت وسائل الإعلام في

الفترة الأخيرة بكثرة عن وجود خلاف بين البشير والترابي، وأسهبت في سرد

تفاصيل كثيرة، ولم يلبث أن توقف الكلام حتى يظهر كلام جديد عن الخلاف، ثم

تفجر الوضع بإعلان البشير الأخير.

أطراف الخلاف ومظاهره:

يمكن تقسيم أطراف الخلاف إجمالاً إلى فصيلين: أحدهما الجهاز التنفيذي

للحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) ويضم إجمالاً: قصر الرئاسة، ومجلس الوزراء،

وحكام الأقاليم، والوزارات الإقليمية، والمحافظين ومساعديهم وهم من مؤيدي

البشير إضافة إلى الجيش، وعلى رأس هذا الفريق خمسة عسكريين وخمسة مدنيين.

والعسكريون هم: الفريق البشير، واللواء بكري حسن صالح وزير شؤون رئاسة

الجمهورية، وأمين رئاسة الجمهورية، واللواء مهندس إبراهيم شمس الدين وزير

الدولة في وزارة الدفاع المكلف بتأمين الوضع العسكري للنظام، واللواء الهادي عبد

الله رئيس جهاز الأمن الداخلي، ووزير الداخلية اللواء عبد الرحيم حسنين. أما

المدنيون الخمسة فهم: علي عثمان طه نائب الرئيس، والدكتور نافع علي نافع

مستشار الرئيس لشؤون السلام، والدكتور مجذوب الخليفة والي الخرطوم،

والدكتور غازي صلاح الدين وزير الثقافة والإعلام، والدكتور إبراهيم أحمد عمر.

ويؤيدهم معظم القادة القدامى الذين رافقوا الترابي في تأسيس الحركة قبل أربعة

عقود لكنه عمد إلى تهميشهم بدعوى ضرورة تجديد دماء الحركة، وأضحى الشارع

السوداني ينادي هذه المجموعة بـ (٥ + ٥) .

وفي مقابلها يقف الجهاز التشريعي وهم معظم أعضاء البرلمان السوداني

إضافة إلى المليشيات المسلحة التابعة للحزب وعلى رأسه الترابي وعدد من أعوانه

المقربين، ومنهم: محمد الحسن الأمين، والدكتور علي الحاج محمد آدم،

وإبراهيم السنوسي، والدكتور معتصم عبد الرحيم.

وتقول بعض المصادر السودانية إن الترابي غدا متحصناً في الآونة الأخيرة

بالبرلمان وحزب المؤتمر الوطني، بينما يسيطر تلاميذه الذين شقوا عصا الطاعة

عليه على الجيش والأجهزة الأمنية.

وقد بدأ الخلاف يظهر على السطح في الفترة الأخيرة؛ وإن كان بعضهم

يرجع بدايته إلى عام ١٩٩٢م؛ إلا أنه مؤخراً وبالتحديد في أواخر العام قبل

الماضي بدأ الخلاف يأخذ عدة أشكال:

١ - مذكرة العَشَرة: وتقدم بها عشرة قياديين من حزب المؤتمر الوطني في

ديسمبر ١٩٩٨م وهم: البروفيسور إبراهيم أحمد عمر وزير التعليم العالي،

والدكتور أحمد علي الإمام مدير جامعة القرآن الكريم سابقاً ومستشار رئيس

الجمهورية للتأصيل، والمحامي عثمان خالد مضوي؛ وهؤلاء من جيل الترابي

نفسه. أما الجيل الثاني من الإسلاميين فقد مُثِّلوا في المذكرة بالدكتور نافع علي نافع

وزير الزراعة الحالي، والدكتور بهاء الدين حنفي مدير مركز الدراسات

الاستراتيجية، والأستاذ سيد الخطيب، وعلي الكرتي، وغيرهم.

وملخص هذه المذكرة أنها دعت إلى تنحي الترابي عن رئاسة البرلمان

واقتصاره على أمانة الحزب الحاكم.

يقول عنها حامد تورين وهو أحد مقدميها: «هي واحدة من مظاهر الصراع

في المؤتمر الوطني، وهي مذكرة ترمي في الأساس لعدم تحول الحزب إلى شكل

دكتاتوري، وكانت تسعى لبسط الديمقراطية واعتبار وجهة نظر المواطن السوداني،

وتدعو لإلغاء الأساليب التقليدية التي كانت موجودة، وتقديم تنظيم بشكل جيد

يصلح نموذجاً للأحزاب القادمة كما طُرِحت في التوالي على السلطة» .

والذين كتبوها ظلوا يرددون بأنها لم تكن تستهدف شخصيات بعينها وإنما

كانت تعني إفساح المجال إلى الشورى الحقيقية، وتكوين مكتب قيادي فاعل يتولى

إدارة العمل السياسي بمؤسسيَّة.

٢ - اجتماع المؤتمر التأسيسي لحزب المؤتمر الوطني: وقد عقد هذا

الاجتماع في الفترة من ٧ - ١٠ أكتوبر ١٩٩٩م، وفي هذا الاجتماع الذي ضم

أعضاء الحزب البالغ عددهم حوالي ١٠ آلاف عضو تم انتخاب هيئة الشورى

وعددها ٦٠٠ عضو، وانتخبت هيئة لقيادة الحزب تضم ٦٠ شخصاً، وتأيَّد فيه

انتخاب الترابي أميناً عاماً لهيئة القيادة، والبشير رئيساً للحزب ومرشحه لانتخابات

رئاسة الجمهورية عام ٢٠٠١م، كما تم انتخاب البشير مسؤولاً عن القطاع السياسي

والتنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبذلك تكونت الهياكل الثلاثة الرئيسة

في الحزب: المؤتمر القومي، وهيئة الشورى، وهيئة القيادة كما تم تقسيم الأعمال

التنفيذية إلى سبعة قطاعات.

٣ - استقالة وزير التعليم العالي إبراهيم أحمد عمر احتجاجاً على إخفاقه في

انتخابات مجلس شورى الحزب الحاكم، وكان وزير التعليم العالي ضمن القياديين

العشرة الذين تقدموا بمذكرة العشرة الشهيرة، ولقد رفض البشير استقالته.

٤ - تلميحات عبر الصحف المحلية والجلسات الخاصة: ظل بعض

الإسلاميين القياديين يلمحون في الصحف وفي الجلسات الخاصة إلى ضرورة تنحي

الترابي قليلاً لآخرين أكثر شباباً وحيوية.

٥ - ما تردد عن التغييرات الأخيرة في القوات المسلحة وأنها شملت معظم

الضباط من رتبة عقيد فما فوق، وهي المجموعة التي تتكون في غالبيتها من

أنصار الجبهة الإسلامية القومية الذين أُلحِقوا بالكلية الحربية في عام ١٩٩١م وكانت

تعتبر سنداً قوياً للدكتور الترابي داخل الجيش، وتتحدث مجالس الخرطوم عن أن

قرار إحالة هؤلاء الضباط إلى التقاعد تم بإيعاز من النائب الأول علي عثمان طه.

ولكن ما تفسير الذي جرى؟ وما الأسباب التي دفعت الأحداث حتى وصلت

إلى هذا المستوى؟

إن أي إطار تحليلي للأحداث لا بد وأن يأخذ في حسابه ثلاثة أمور:

الأول: الحركة الإسلامية في السودان.

الثاني: النظام السوداني.

الثالث: التدخل الخارجي.

الأول: الحركة الإسلامية في السودان:

في نهاية الأربعينيات برزت الحركة الإسلامية في السودان استجابة لنداء

عميق سرى من داخل الحركة الطلابية السودانية وتلبية لاحتياجات أعمق في

السودان وبديلاً سياسياً وفكرياً لأنواع التشتت والتمزق والضياع الطائفي والعقائدي.

واختلف الكُتَّاب الذين أرَّخوا للحركة في تقسيم مراحلها: فنجد حسن مكي -

وهو مؤرخ معتمد للحركة - يُقَسِّم تاريخها إلى: بناء الحركة من عام ١٩٤٤ -

١٩٥٤م، ومن ١٩٥٨ - ١٩٦٩م، ومن ١٩٦٩ - ١٩٧٢م، ومن ١٩٧٣ -

١٩٧٧م، ومن خندق المقاومة إلى مركز المشاركة من ١٩٧٧ - ١٩٨٥م [١] .

أما الترابي فيقسمها إلى: عهد التكوين (١٩٤٩ - ١٩٥٩م) ، وعهد الظهور

الأول (١٩٥٦ - ١٩٥٩م) ، وعهد الكمون (١٩٥٩ - ١٩٦٤م) ، وعهد

الخروج العام (١٩٦٤ - ١٩٦٩م) ، وعهد المجاهدة والنمو (١٩٦٩ ١٩٧٧م) ،

وعهد المصالحة والتطور من (١٩٧٧ - ١٩٨٤م) [٢] بينما يقسمها حيدر إبراهيم

علي وهو من المحسوبين على التيار العلماني في السودان إلى: مرحلة النشأة

والتكوين م ١٩٤٦ - ١٩٥٧م، ومرحلة التطور والانتشار منذ انقلاب عبود

١٩٥٨ م وحتى ثورة أكتوبر ١٩٦٤م، ومرحلة انقلاب نميري ١٩٦٩م حتى انقلاب

البشير ١٩٨٩م [٣] .

ولسنا بصدد ذكر تاريخ الصحوة في السودان، ولكننا نقتبس منها قبسات،

ونقف عند عوامل أثرت فيها ونخرت في جسدها وأدت بها إلى الحال الذي وصلت

إليه الآن، ومن هذه العوامل:

عدم وضوح الأساس العقدي:

مرت الحركة الإسلامية في مصر بمراحل بدءاً برؤية محمد عبده والأفغاني

التي نظَّرت للإسلام بوصفه إصلاحياً حضارياً، ومروراً بنظرة الشيخ حسن البنا

وجماعة الإخوان ومحاولة تفعيل دور الإسلام السياسي والأخلاقي، ومروراً بسيد

قطب الذي نقل الحركة الإسلامية نقلة عقدية، وأخيراً التوجه الشرعي التأصيلي

السلفي مع بداية السبعينيات.

ولكن بالنسبة للحركة الإسلامية في السودان وبالرغم من تأثرها بمثيلتها في

مصر فإنها لم تقطع هذه المراحل؛ ففي بداياتها تأثرت بجماعة الإخوان المسلمين،

ومع تبوؤ الدكتور الترابي زعامة الحركة بدأ يصبغها بصبغته الفكرية التي تأثرت

إلى حد كبير بالمدرسة العقلية.

وتتلخص أطروحات الترابي فيما يلي:

١ - نظرته للقرآن بأنه حوى القواعد الكلية الأصولية العامة، ولا ضابط في

تفسيره إلا ما يمليه عليه تجديد اللغة، وتغير الواقع الاجتماعي والإعمال العقلي لفهم

الدلالة دون قيود تحده.

٢ - السنة عنده معظمها ظني الورود والدلالة، وخبر الواحد لا يقوى على

الاحتجاج به.

٣ - إمكانية التجديد والنظر في أصول علم الحديث ومناهج الجرح والتعديل

ومعايير التصحيح والتضعيف، مع عدم التسليم بعدالة الصحابة.

٤ - إنكاره لبعض الحدود الثابتة كحد الردة مثلاً.

٥ - آراؤه بالنسبة للمرأة في توليتها للقضاء وحتى إمامتها للصلاة [٤] .

هذه الآراء أدت إلى انفصال الجناح السلفي في جبهة الميثاق (الذي يضم

جعفر شيخ إدريس، ومالك بدري، وعبد الرحمن رحمة، ومحمد مدني سبال)

وجبهة الميثاق هي الإطار الذي كان يقود الحركة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانت

جماعة الإخوان هي لبه، وعلى رأس قيادة الجبهة والجماعة الدكتور الترابي.

ولا نقصد بالأساس العقدي جانب العقائد فقط، ولكننا نقصد ما هو أشمل

وأوسع بكثير؛ حيث نعني به الميزان الذي يزن به الفرد أعماله والمعيار الذي به

تحدد الجماعة وتقيِّم أفكارها وأطروحاتها. إنها الركائز والأعمدة والميزان الذي لا

يقوم البنيان إلا به؛ فبه يتم تقييم الواقع المحيط وفق شروطه، وبمناهجه تضبط

أحكامه ويكون فيه التمييز بين الطوائف والتجمعات الموجودة، ولقد بحثت في

الكتب والمجلات التي تعبر عن الحركة الإسلامية في السودان: عن أفكارها

وتصوراتها العقدية فوجدتها قليلة قياساً بتجاربها الحركية الواسعة، وحتى في القليل

الموجود تكاد تخلو من التأسيس المنهجي والتأصيل الشرعي؛ ولذلك لا عجب إن

وجدنا في خضم الخلاف الذي حدث بين فريقي البشير والترابي مجادلات تثور

حول البيعة والشورى والإمامة. وعند عرض هذه المماحكات على المنهج الشرعي

التأصيلي لا نجد دليلاً شرعياً يستدل القوم به من الكتاب أو السنة، ولا نرى أقوال

علماء تقال، ولكن نجد تهويمات وشذرات ليس وراءها منهج علمي أو غير علمي

شرعياً كان أو غير شرعي، وهذا كله نتاج المدرسة التي ربَاها الترابي والحصاد

الذي زرعه.

النزعة الميكيافيلية عند بعض رجال الحركة الإسلامية في السودان:

إن السياسة في مفهوم الإسلام هي «معرفة الواقع تماماً ومحاولة النهوض بالمسلمين من خلال هذه المعرفة إلى الدرجة التي يريدها الإسلام، وليس المقصود

منها المراوغة والاحتيال وإتقان فن المداهنة والنفاق» [٥] .

وإن العمل السياسي في الإسلام يقوم على مرتكزات أهمها:

١ - عدم التنازل في المسائل الاعتقادية أو التي تتعلق بأصول الإسلام التي

حسمها الكتاب والسنة؛ أو أجمع عليها المسلمون.

٢ - أما المسائل الاجتهادية مثل السياسات الشرعية فتراعى فيها القواعد

الشرعية الكلية كقاعدة درء المفاسد وجلب المصالح، وقاعدة سد الذرائع، وقواعد

المصالح المرسلة وأصولها، والاستحسان وغيرها من القواعد المعروفة.

٣ - عدم فتنة الناس أو التلبيس عليهم، وهذه القضايا تتطلب وجود علماء

قادرين على ضبطها والموازنة بينها، والتفريق بين أصولها والمجمع عليه وبين

الاجتهادي منها.

أما بعض رجال الحركة الإسلامية في السودان فأرى أنهم خالفوا هذا المنهج

في بعض تصرفاتهم وطروحاتهم فمثلاً:

١ - النظام السوداني على استعداد لمناقشة فصل الدين عن الدولة وهذا ما

ردده علي عثمان طه نائب الرئيس.

٢ - إن أساس العلاقة بين الدولة والفرد هو المواطنة، وليس العقيدة كما

يقول الترابي.

وعندما نتأمل آيات سورة الأنعام: [وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ

وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] (الأنعام: ٥٢) قال الطبري مسنداً إلى ابن مسعود

رضي الله عنه: مر الملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب

وعمار وبلال وخباب ونحوه من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد! أرضيت

بهؤلاء من قومك؟ ! هؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ ! أنحن نكون تبعاً

لهؤلاء؟ اطردهم عنك؛ فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فنزلت هذه الآية. والفرد

منا يتأمل موقف القرآن الذي يجيء محذراً من أي اعتبار أو أي أهداف أو غايات

تبيح طرد المؤمنين!

الثاني: النظام السوداني:

نشأة النظام الحالي:

جاء عام ١٩٨٩م وعلى رأس الحكم في السودان حكومة الصادق المهدي

الضعيفة، وكانت الحركة الشعبية لجنوب السودان بزعامة جارانج توالي

انتصاراتها مستغلة جو الفوضى السائد في الخرطوم حتى أصبح الجنوب بأكمله

على وشك السقوط في أيديها.

ونما إلى علم قيادات الجبهة القومية الإسلامية حينئذ أن هناك مجموعات من

الضباط من اتجاهات مختلفة تخطط للقيام بانقلاب؛ وهنا تذكرت هذه القيادة أحداث

مايو ١٩٦٩م عندما استولت مجموعة من الضباط القوميين والشيوعيين على الحكم

وزجت برموز الحركة الإسلامية في السجون. فاتجهت النية لدى قيادة الجبهة إلى

تكليف العميد عثمان محمد حسن بقيادة الانقلاب لكنه تردد في اللحظة الأخيرة،

وبعدها تم تكليف العميد البشير بمغادرة منطقة عمله في غرب السودان ليحضر إلى

الخرطوم بشكل عاجل؛ ولدى وصوله إلى العاصمة تمت ترتيبات زعم فيها أنه

تقرر اختياره للمشاركة في فترة دراسية في جمهورية مصر العربية لتشتيت

العناصر الاستخبارية داخل الجيش؛ وكان لا بد من تقديم ساعة الصفر لتنفيذ

الانقلاب حتى لا تطول إقامة البشير في العاصمة بلا مُسوغات مقبولة، وسجل

البشير بيانه الانقلابي الأول في الاستوديو التلفزيوني الخاص بمنظمة الدعوة

الإسلامية وهي إحدى منظمات الجبهة القومية الإسلامية، واجتمع البشير بالترابي

ليلة الانقلاب وتم الاتفاق على أن يذهب الترابي للسجن للتمويه، وحين تم الانقلاب

أبلغ البشير فروع القوات المسلحة أنهم قرروا التحرك بناءاً على تعليمات من القيادة

العامة للجيش للإطاحة برئيس الوزراء الصادق المهدي، وكان اسم البشير قد تردد

بشدة في عام ١٩٨٥م إثر خبر نشرته مجلة الدستور التي كان يصدرها حزب البعث

السوداني في لندن وذكرت فيه أن البشير يتزعم حلقة من الضباط الموالية للجبهة

الإسلامية المكلفة بتنفيذ انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة.

كانت آلية عمل النظام تسيرها كوادر الجبهة من وراء الستار بينما بقيت

مجموعة الضباط التي قامت بالانقلاب مجرد واجهة فقط أمام العالم الخارجي، وكان

من الطبيعي أن يبدأ هؤلاء الضباط في التململ من ذلك الوضع حينما أخذت

خبراتهم تتراكم في العمل السياسي، في حين اشتد الحصار على النظام الحاكم من

قِبَل المعارضة المدعومة من دول الجوار والولايات المتحدة و (إسرائيل) ،

وتأزمت العلاقة مع مصر، كل ذلك بينما الأداء السياسي كان سيئاً للمجموعة

الحاكمة؛ لظهور التناقض والقرارات المتضاربة في العلن بين التنظيم الحاكم من

وراء الستار ومجموعة الواجهة؛ مما حدا بالترابي إلى أن يتخذ قراراً بالظهور

علانية هو وأفراد تنظيمه واشتراكهم في الحكم تحت مسمى حزب المؤتمر الوطني

وقانون التوالي، وعبر هذا الحزب وتشكيلاته أراد الترابي أن يظل ممسكاً بدفة

الحكم في السودان متحكماً في توجيهه واستئثاره بصنع القرار، ولكن وربما للمرة

الأولى يظهر عجز الترابي عن مسايرة الواقع وعن فهم متغيراته، وهو الذي اشتهر

عنه سبقه للأحداث، وواصل تحديه للمجموعة المناوئة لزعامته التي لم تجد

صعوبة في إزاحته من القيادة وتحجيم نفوذه ووضع الإطار المناسب لدوره الذي لا

يتعداه في المستقبل.

الثالث: التدخل الخارجي:

١ - الدور الأمريكي في تفجير النظام السوداني:

إن السؤال المطروح هو: ما حقيقة الدوافع الأمريكية في النظر إلى السودان؟

يقع السودان في موقع قريب من منطقة القرن الإفريقي، وتمثل هذه المنطقة

أهمية حيوية للتحكم في الملاحة في البحر الأحمر: هذا البحر الذي تمر به نسبة

كبيرة من تجارة العالم إضافة إلى ناقلات النفط القادمة من الخليج إلى أوروبا

وأمريكا، والمعروف أن تدفق البترول والتحكم فيه وفي أسعاره كان دائماً

ورقة ضغط أمريكية على أوروبا واليابان والصين تلوح بها في وجه هؤلاء الكبار

الذين يريدون الخروج عن السياسة الأمريكية وأهدافها في العالم؛ فضلاً على أن

أمريكا تعد منطقة القرن الإفريقي عمقاً استراتيجياً لقواتها الموجودة في

الخليج.

كما يمثل البحر الأحمر عمقاً حيوياً لـ (إسرائيل) ؛ حيث يطل السودان

عليه، وأمن (إسرائيل) يعد من أولويات السياسة الأمريكية وأهدافها الاستراتيجية

، والتحيز الأمريكي لليهود ليس كما يظن بعض الناس أنه نتيجة فقط لتغلغل اللوبي

اليهودي الأمريكي وتأثيره على صانعي القرار الأمريكي فقط، ولكن العامل الآخر

هو التأثير البروتستانتي النصراني على السياسة الأمريكية.

* إن السودان مدخل مهم إلى منطقة البحيرات العظمى؛ حيث قامت أمريكا

بمحاولة ترتيب الأوضاع هناك، فقامت بدعم قبيلة التوتسي التي استولت على

الحكم في رواندا وأوغندا، وحاولت ذلك في زائير (الكونغو) . وفي تقرير

للبنتاجون نشر موخراً اعتبر أن منطقة البحيرات العظمى هي مصدر استراتيجي

مهم لا يمكن الاستغناء ولا التنازل عنه باعتبار أن هذه المنطقة تمثل حلقة الوصل

الرئيسة بين الدول الإفريقية ودول الشرق الأوسط، إضافة إلى أن من يتحكم في

هذه المنطقة سيحدد إلى حد كبير الآثار الاستراتيجية والسياسية لمنطقتي الشرق

الأوسط وإفريقيا. وأكد التقرير أن النهج الاستقلالي الذي تسعى دول المنطقة إلى

تبنيه ممثلاً في السعي إلى إنشاء السوق الإفريقية المشتركة سوف يؤثر على

المصالح الأمريكية، وأن السودان والحكم الإسلامي فيه سوف يحدث بلبلة في

المنطقة، وأن الهدف الأمريكي هو إحداث تغيير سياسي سريع في السودان وعلمنة

الحكم ليرتبط مع بقية دول البحيرات العظمى في إطار تحالف قوي يضم أوغندا

وإثيوبيا وإرتيريا والكونغو والسودان الجديد.

* التحكم في منطقة حوض النيل لإخضاع الدول الواقعة عليه للسياسات

الأمريكية.

* وقف المد الإسلامي وانتشاره في إفريقيا: فقد صرحت أولبرايت في

٥/ ١٩٩٨م: أن ترك هذه المنطقة (تقصد شرق إفريقيا) دون توجيه استراتيجي

أمريكي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج في مقدمتها قيام عدة دول إسلامية في الشرق

الإفريقي. وفي حديث لوزير الخارجية السوداني مصطفى إسماعيل نشر مؤخراً

قال فيه: «إن السياسة الأمريكية الآن تحاول أن تصنع عدواً لتخيف به الآخرين،

وآلياتها الإعلامية والسياسية تصب في هذا الاتجاه، ومن ثَمَّ فهي تدعو الأطراف

الأخرى في ضوء ذلك للاعتماد عليها، وأمريكا تصوِّر السودان الآن على أنه

العدو» .

في ضوء هذه الأهداف السابقة بدأت أمريكا في رسم السياسات التي تمكنها

من الوصول إلى هذه الأهداف:

والمتتبع للسياسة الأمريكية في أي بقعة أو بؤرة من بؤر التوتر في العالم

يلحظ خاصية هامة يجب علينا فهمها والاهتمام بها وهي: الاستدراج البطيء

والتعامل الهادئ مع الخصم، الممزوج بالتصعيد التدريجي أي سياسة الشد

والاسترخاء حتى إذا تهيأت الظروف دفعت الأحداث إلى إحكام الطوق والحصار

العسكري بالأساطيل والجيوش والحلفاء، ثم تتبع أسلوب ساعة الحسم.

إن عدم فهم هذه الخاصية وإدراكها يوقعنا في الحيرة والاضطراب ووصف

السياسة الأمريكية بالتناقض والارتباك وهي ليست كذلك في كل وقت؛ ولكن يحدث

أحياناً خلاف بين صانعي القرار الأمريكي حول وصول الوضع إلى ساعة الحسم،

وهنا قد يحدث نوع من الاجتهادات المختلفة تؤثر بدورها على المواقف التي تتخذها

أمريكا؛ وذلك مثل ما حدث بالنسبة للسودان في قرار إعادة الدبلوماسيين الأمريكيين

إلى السفارة الأمريكية في الخرطوم؛ فبعد أسبوع واحد تراجعت الخارجية الأمريكية

عن القرار.

وطبقاً للقاعدة السابقة فإن حديثنا عن السياسة الأمريكية تجاه السودان يسير

على أربعة محاور:

المحور الأول: سياسة الاسترخاء؛ ومن ذلك:

* صدور تقارير صحفية تفيد اعتزام الإدارة الأمريكية بحث إمكانية إسقاط

النظام السوداني من قائمة الدول الراعية للإرهاب تمهيداً لإتمام الصفقة النفطية بين

الحكومة السودانية ومؤسسة أوكسيدنتال النفطية الأمريكية.

* الترحيب الرسمي الأمريكي باتفاق السلام الموقع في ٢١/٤/١٩٩٧م بين

الحكومة السودانية وست من فصائل المعارضة الجنوبية.

* زيارة وفد أكاديمي أمريكي للسودان وبحث المشاكل التي تعوق تطوير

العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان.

* إقرار صندوق النقد الدولي اتفاق المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادي

ابتداءاً من أواخر يونيه ١٩٩٧م.

* إعراب الإدارة الأمريكية عن انزعاجها مما نسب إلى الرئيس الإريتري

حول وجود مشاركة إريترية في القتال الدائر بشرق السودان.

* وفي تصريح لمسؤول في مجلس الأمن القومي الأمريكي أن أمريكا لا تؤيد

الدعوة لتقسيم السودان، وترغب في أن يحافظ على وحدته ضمن صورته الحالية

المعترف بها من المجموعة الدولية.

* السماح للسودان باستيراد المواد الغذائية من الخارج؛ حيث إنها غير

مدرجة في العقوبات.

المحور الثاني: سياسة الشد:

* صدور عدة تقارير أمريكية من وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن

القومي قدمت إلى الكونجرس في الفترة من سبتمبر إلى نوفمبر ١٩٩٦م والتي

أجمعت على اعتبار السودان بين الدول الأشد خطراً.

* تصريحات مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي في ديسمبر

١٩٩٦م، تؤكد أن استراتيجية الإطاحة بالنظام السوداني هي أفضل الخيارات

المتاحة.

* في ٢٤/١١/١٩٩٧م قررت الولايات المتحدة سحب البعثة الدبلوماسية من

السودان.

* تصريح مادلين أولبرايت أثناء جولتها في المنطقة أن الولايات المتحدة

تسعى لإسقاط النظام في الخرطوم سلماً أو حرباً.

المحور الثالث: إحكام الطوق:

* في عام ١٩٩٦م تم تخصيص مبلغ ٢٠ مليون دولار في صورة مساعدات

عسكرية لثلاث دول إفريقية تتعاون لإسقاط النظام السوداني وهي: إريتريا،

وأوغندا، وإثيوبيا؛ وهو ما أكدته السفارة الأمريكية.

* في ١٥/١٢/١٩٩٧م اتهم البشير أمريكا بأنها حرضت حركة التمرد على

إلغاء ما تم التوصل إليه، وألقت بكل مبادئ الإيغاد في سلة المهملات دعماً

لاستمرار القتال.

* عملت إدارة كلينتون على شل الصف الإفريقي عبر صنع لوبي بين الدول

الموالية لواشنطن يتبنى فكرة إقرار آلية متعلقة بتشكيل قوة عسكرية من هذا اللوبي

تتولى التدخل لفض ما تسميه واشنطن بالصراعات في القارة؛ وهي الآلية التي

تشرف عليها واشنطن في أوغندا.

* الجولات المتتالية للمسؤولين الأمريكيين في المنطقة بدءاً من كلينتون

ومروراً بأولبرايت وانتهاءاً بسوزان رايس مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون

القرن الإفريقي، ويسعى هؤلاء المسؤولون إلى القضاء على أي تعارض في

الأهداف وإلى تخفيض حدة التنافس بين زعماء المنطقة.

حاولت أمريكا ترتيب لقاء يجمع بين جارانج والمنشقين عنه في نيويورك ولكن

المفاوضات بين الأطراف وصلت إلى طريق مسدود.

المحور الرابع: مؤشرات لحظة الحسم:

بعد إتمام الحصار على السودان كان الوضع مهيأ لزحف عسكري من تحالف

المعارضة مدعوم بجيوش دول الجوار (إثيوبيا وإريتريا وأوغندا) وخاصة بعد أن

أصبحت مصر على الحياد بعد المحاولة التي لم تنجح لاغتيال الرئيس حسني

مبارك في إثيوبيا، وبدا النظام السوداني شبه معزول، وظهر أن هذا التوقيت هو

الأنسب لتوجيه تلك الضربة القاصمة للنظام. ولكن سرعان ما حدثت تطورات كان

من أبرزها تورط أوغندا في الصراع الذي اندلع مجدداً في الكونغو، واندلاع قتال

ضارٍ بين الحليفين في القرن الإفريقي: إثيوبيا، وإريتريا. وتغير الموقف

المصري من النظام السوداني بعد أن أعاد حساباته الاستراتيجية وأصبح يقف حجر

عثرة في وجه هذه المخططات.

وهنا بدأت أمريكا تُغيِّر سياساتها تجاه السودان لتبدأ مرحلة جديدة من أهم

خصائصها:

* تقليل الاعتماد على دول الجوار نظراً لتشتتها وتشرذمها.

* محاولة إضعاف الدور المصري في السودان، وممارسة الضغوط على

النظام المصري لرفع يده من القضية السودانية.

* تحريك الأساطيل الأمريكية تجاه السودان، واستخدام أساليب القصف

الصاروخي لضرب منشآت حيوية؛ كما حدث في ضرب مصنع الشفاء في

الخرطوم.

* إرسال المبعوثين إلى الجنوب؛ كما حدث في زيارة عضوي الكونجرس

إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ثم عودتهم ومطالبتهم الإدارة الأمريكية

بالتدخل.

* التحرك نحو إيجاد مناطق معزولة ضد الطيران السوداني على غرار شمال

العراق وجنوبه تمهيداً لانفصاله.

تعيين مبعوث خاص بالسودان، وذلك للتركيز على هذه القضية والدلالة على

أنها بؤرة الاهتمام الأمريكي. إن الحالة السودانية أكثر شبهاً بالمسألة العراقية

بالنسبة للولايات المتحدة؛ فهي بين خيارين:

الاحتواء: وجعل السودان في حالة حصار دائم ليساعد على انهيار النظام

وتفكيكه، أو ثورة الشعب عليه. وسياسة الاحتواء الأمريكية: هي ممارسة

الضغوط القوية على الخصم من جميع الاتجاهات حتى ينفجر من الداخل، وهذه

السياسة باتت الخيار المفضل الذي تتبعه الإدارة الأمريكية مع الجماعات الإسلامية

سواء بنفسها مباشرة أو عن طريق عملائها في المنطقة، وتجلى ذلك واضحاً في

أحداث انشقاق حزب الوسط من جماعة الإخوان المسلمين، وما حدث في انفجار

الخلافات داخل المجموعة الحاكمة في النظام السوداني.

التفكيك: أي تجزئة السودان إلى دويلات عدة تحت أي صيغة أو مسمى من

المسميات مثل حق تقرير المصير، أو الكونفدرالية. وقد ذكرت جريدة الأسبوع

المصرية في ٢٢/١٢/١٩٩٧م أن أولبرايت استشارت جيمي كارتر الخبير في

الشؤون السودانية والقرن الإفريقي (الرئيس الأمريكي الأسبق) فأشار بتفتيت

السودان للسيطرة على المنطقة وإزالة النظم المعادية، وبالذات التي لها توجه ديني.

٢ - الدور المصري:

حملت السياسة الأمريكية تجاه السودان وفي القرن الإفريقي دائماً تهديداً مبطناً

لمصر؛ فقد لعبت واشنطن دوراً هاماً في إبطال المبادرات المصرية في الصومال،

وأبدت امتعاضاً واضحاً تجاه الدعم المصري الليبي لإريتريا. والجولة الإفريقية

الأخيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت لم تشمل القاهرة تعمداً منها

لإلغاء أي دور مصري في إفريقيا أو عدم تحبيذه، وتبع ذلك لقاؤها بـ (جون

جارانج) وإعلانها استعداد واشنطن تقديم مساعدات رسمية للمشروع الانفصالي في

جنوب السودان، ومعارضتها الصريحة للمساعي المصرية الليبية المشتركة العاملة

على إيجاد صيغة للمصالحة السودانية. لقد استخدمت الحكومة المصرية جارانج

وأطراف المعارضة السودانية الأخرى لبعض الوقت في لعبة الشد والجذب مع

الخرطوم، ولكن جارانج شخص لا يعتمد عليه، وكان من المفترض لأساطين

رجال السياسة المصرية أن يدركوا طبيعة شخصيته وأهدافه، ولكنهم خُدعوا فيه؛

فعند أول بادرة تنكر للمبادرة المصرية الليبية وتمسك بمبادرة الإيغاد عند لقائه

بأولبرايت.

ثمة دلائل عديدة على أن التصعيد الأمريكي الأخير ضد السودان رغم التهديد

المباشر للسودان موجه في جوهره ضد مصر؛ فالعداء الأمريكي للسودان هو بشكل

من الأشكال تحصيل حاصل، ولكن الذي يبعث على الاندهاش في النشاط الأمريكي

أن مصر وأمريكا دولتان حليفتان تجمعهما سياسة وتفاهم مشترك وتنسيق طويل

المدى، بل إن تصريحات أولبرايت الأخيرة تجاه المبادرة المصرية الليبية جاءت

في الوقت الذي تجري فيه مناورات مصرية أمريكية متعددة القوات، والتي تسمى:

(النجم الساطع) هي في حد ذاتها مؤشر على عمق العلاقات المصرية الأمريكية؛

فكيف الجمع بين هذه وتلك؟ بعض الجواب يكمن في اللقاء الذي ضم الرئيس

المصري ووزير الدفاع الأمريكي وليم كوهين في القاهرة قبل يوم واحد من

تصريحات أولبرايت العدائية، ووفقاً لمصادر صحفية فقد طرح وزير الدفاع

الأمريكي على مبارك فكرة تطبيع عسكري بين مصر و (إسرائيل) من أجل

إعطاء مزيد من الدفع لعملية السلام والتطبيع في المنطقة. والتطبيع في المفهوم

الأمريكي الإسرائيلي هو إخضاع مصر عسكرياً، وهو الأمر الذي يتناقض مع

الحلم الأزلي للنظام المصري في الهيمنة على المنطقة. وبما أن الهيمنة الإسرائيلية

على المنطقة هي ركيزة أساسية في الاستراتيجية الأمريكية في هذه البقعة في العالم؛

فإن تهديد مصر في جنوب السودان يستهدف أساساً التلويح بالتحكم في مياه شعب

مصر وطعامه وإجبار مصر على الإذعان أمام الدور والقوة الإقليمية للدولة العبرية.

بمجيء حكم الإنقاذ في مايو ١٩٨٩م اختلفت الأسس الفكرية للنظامين؛

فالنظام المصري قائم على العلمانية وإبعاد الدين عن السياسة؛ بينما جاءت ثورة

الإنقاذ وأفرادها يتعاطفون مع الإسلام ويتحالفون مع فصيل من فصائل التيار

الإسلامي، وكان من الطبيعي أن يحدث الصدام. وجرت محاولة اغتيال الرئيس

المصري في أديس أبابا لتشتعل العلاقة، وتدخل منطقة حلايب مرة أخرى ورقة

للإثارة وهي منطقة حدودية تدخل في حدود مصر ولكن يديرها السودان منذ

الاستقلال، والوضع فيها ظل كذلك حتى إذا تجدد النزاع بين الحكومتين أطلت هذه

القصة برأسها. والأصل أنه لا توجد حدود طبيعية بين الدولتين، بل إن المنطقتين

على جانبي الحدود أشبه بوحدة واحدة: نفس البشرة، والعادات والتقاليد، حتى

اللهجة الواحدة، لكن الاستعمار قبل أن يرحل زرع هذه البؤر المتوترة ليس بين

مصر والسودان فحسب، بل بين معظم الأقطار الإسلامية، كما أسهم اتهام مصر

للسودان بإيواء المتطرفين الإسلاميين واتخاذهم السودان قاعدة لهم ساهم ذلك في

ازدياد حدة التوتر. كما اتهمت السودان مصر بأنها تستقطب زعماء المعارضة

السودانية الذين يعقدون اجتماعاتهم في القاهرة.

ولكن بعد تصريح أولبرايت في أثناء زيارتها لأوغندا بأن الولايات المتحدة

ستغير النظام السوداني سلماً أو حرباً ساهم هذا التصعيد في تخفيف حدة التوتر بين

الدولتين؛ حيث رأت مصر خطورة استراتيجية على أمنها القومي من ناحية

الجنوب ووجود الفوضى في منطقة حوض النيل والبحر الأحمر، كذلك سارع

السودان إلى الارتكاز على مصر للمساعدة في صد هجمات المعارضة التي أخذت

بعداً دولياً، ولذلك تمت زيارة الفريق الزبير صالح نائب رئيس الجمهورية

السودانية في ذلك الوقت إلى القاهرة وتبعها زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى

السودان مع فريق عمل وبحث الموضوعات المعلقة ومن بينها مسألة إيواء الهاربين،

كما بحث إمكانية تزويد السودان بمحطات للرصد ووسائل دفاعية في الجنوب،

وقد أثمرت هذه المعونات في إحباط محاولة جارانج احتلال مدينة (واو) حين

تمكن جارانج من استقطاب أحد زعماء المعارضة المنشقة عليه في السابق

(كاربينو) ؛ ولكن الجيش السوداني تمكن من رصد الاتصالات التي جرت بين

أطراف التمرد وإبطالها نتيجة للدعم المصري.

وبهذا بدا الدور المصري عاملاً حاسماً في إحباط المخططات على الجنوب.

وللمرة الأولى تقريباً منذ توتر العلاقات بين البلدين نوقش ملف العلاقات مع

السودان في اجتماع موسع لمجلس الوزراء المصري بحضور الرئيس مبارك أوائل

مايو الماضي، وللمرة الأولى أيضاً يخرج الاجتماع بتوصية تقول: «إن الأولوية

للعلاقات مع السودان» فقد حرص وزير الخارجية المصري على انتقاء عبارات

تدل على التحسن الحقيقي في العلاقات، وتكشف ضمناً أن هناك اتفاقات أبرمت

على الرغم من عدم الإعلان عنها؛ فقد قال عمرو موسى في لقاء مع الصحفيين،

وآخر مع أعضاء لجان الشؤون الخارجية والعربية والأمن القومي بالبرلمان

المصري: «نحن مقبلون ومقدمون على وضع هذه العلاقات في أولوية عالية» ،

واعترف بوجود «لقاءات مكثفة وعمل مستمر الآن بين الجانبين انطلاقاً من

الحرص الكامل على مصالح السودان الشقيق وعلى العلاقات المصرية السودانية

الخاصة والمتميزة، ومحاولة تنقية المسار حتى لا يتعرض لعملية تشويش؛ لكن

هذا التقارب بين النظامين بدا بطيئاً جداً؛ حيث إن النظام المصري ينظر إلى

السودان بمنظارين:

- أنه نظام إسلامي متطرف، ومجرد وجوده يدعم مكانة الجماعات التي

يخوض معها النظام المصري حرباً لا هوادة فيها، ويسميها متطرفة.

- أما النظرة الثانية فهي مصالح مصر الاستراتيجية في السودان والتي

تهددها الحرب الأهلية، وعدم استقرار النظام في الخرطوم.

هذه المعضلة تحدَّث عنها الرئيس مبارك في لقائه بالمفكرين أثناء معرض

الكتاب في القاهرة في يناير ١٩٩٧م؛ حيث قال بالحرف الواحد:» أنا أمام معادلة

صعبة (مش عارف) أتصرف فيها (إزاي) «ويبدو أن القاهرة توصلت أخيراً

لحل هذه المعضلة بالضغط على النظام السوداني لتغيير ولائه للإسلام عن طريق

إدخال المعارضة بأي صورة داخل النظام، ويأتي في هذا السياق استقبال الحكومة

لـ (جارانج) لأول مرة علناً في القاهرة. والملاحظ أن الحكومة المصرية تحاول

ترتيب لقاء يجمع أركان المعارضة مع الحكومة السودانية للتوصل إلى اتفاق على

غرار ما حدث مع أطراف الصراع الصومالي.

وعلى درجة تخلي النظام في السودان عن توجهاته الإسلامية يستمر التحول

التدريجي في العلاقة بين الطرفين. وفي الوقت نفسه تقوم الحكومة المصرية

بإحباط أي محاولة لزعزعة نظام الحكم بالقوة في السودان وإحداث فوضى بالمنطقة.

ولم يكن من قبيل المفاجأة انحياز زعماء الدول المجاورة للسودان وخاصة

مصر وليبيا إلى صالح الرئيس البشير في نزاعه الأخير مع الترابي فليس ذلك حباً

فيه واطمئناناً له بل كرهاً للترابي والنهج الإسلامي الذي يتبعه، ويرون فيه تهديداً

وخطراً على أنظمتهم واستقرار بلادهم؛ فالرئيس حسني مبارك أعلن أكثر من مرة

أنه لا توجد أي مشكلة بينه وبين الرئيس السوداني، وإنما مشكلته مع الدكتور

الترابي الذي اتهمه بدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة وإمدادها بالمال والسلاح

والوقوف خلف محاولة الاغتيال التي استهدفته.

والرهان المصري الليبي على الرئيس البشير هو الرهان الرابح ولو في

المستقبل المنظور؛ فالرئيس السوداني يتزعم المؤسسة العسكرية التي تعتبر

المؤسسة الوحيدة المستقرة والفاعلة ليس في السودان وحده وإنما في جميع دول

العالم الثالث، ولذا خرج الرئيس المصري لاستقبال ضيفه في المطار وهو الذي

رفض لسنوات عدة استقباله برغم إلحاح البشير لزيارة مصر؛ فما الذي جدَّ سوى

إزاحة الترابي الذي كان على ما يبدو العقبة المهمة في تحسين هذه العلاقات؟

وسارع مبارك إلى جولة في الدول المجاورة لكسب الدعم للبشير ومساندته في

توجهاته الأخيرة.


(١) حركة الإخوان المسلمين في السودان، حسن مكي محمد أحمد، دار القلم، الكويت.
(٢) الحركة الإسلامية في السودان، التطور والمكسب والمنهج، حسن الترابي، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية الخرطوم.
(٣) أزمة الإسلام السياسي، الجبهة القومية في السودان نموذجاً، د حيدر إبراهيم علي، مركز الدراسات السودانية، الإسكندرية.
(٤) ولسنا هنا في مقام عرض تفصيلي لآرائه من كتبه، ومن أراد التفصيل فعليه بكتابات الدكتور محمد الطحان، وكتاب الشيخ محمد أحمد حامد،» نقض ديني لدعوة الترابي التجديدية «وكتاب الأستاذ أحمد مالك» الصارم المسلول في الرد على الترابي «.
(٥) التصور السياسي للحركة الإسلامية، رفاعي سرور، الناشر: بيت الحكمة للإعلام والنشر والتوزيع.