للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[الغزو اللاتيني في كردستان العراق]

فرست مرعي الدهوكي

كانت إحدى الطامات الكبرى التي ألحقها العلماني الأول مصطفى كمال

أتاتورك في ثلاثينيات القرن العشرين أمره بإلغاء كتابة اللغة العثمانية (التركية)

بالأبجدية العربية؛ حيث أدخل عوضاً عنها الحروف اللاتينية، وهذا ما جعل

الجيل التركي المعاصر ينقطع عن جذوره الإسلامية العثمانية؛ بحيث لا يستطيع

التركي الآن قراءة رسالة كتبها أبوه أو جده في الربع الأول من القرن العشرين،

ناهيك عن قراءة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهذا ما جعل التراث الذي

سطره العثمانيون طيلة ستة قرون من عمر الخلافة ١٣٠٠ ١٩٢٤م يذهب سدىً،

ولعله إلى حين إن شاء الله.

والحقيقة أن تغيير الكتابة التركية لم يأت بسبب المأزق الذي وقعت فيه هذه

اللغة بقدر ما كان خطة مدبرة طبقها (أتاتورك) بكل دقة لفصل تركيا عن الجسم

الإسلامي وامتداداتها المشرقية وإلحاقها بالغرب الأوروبي. والدليل على ذلك تغيير

يوم العطلة الأسبوعية الإسلامية (الجمعة) ، لتكون عطلة النصارى يوم الأحد

عوضاً عنها، وفرض لبس القبعة الأوروبية محل الطربوش العثماني، إلى جانب

إخراج المرأة التركية من حجابها الشرعي، واتخاذ العلمانية (اللادينية) المذهب

الرسمي لدولته.

والحق يقال: إن تركيا بهذا الإجراء خسرت تاريخها وماضيها الناصع، ولم

يستفد الجيل الحالي أية لغة أوروبية، وإنما تعلَّم الحروف الأوروبية، وهذا العمل

لا يأخذ من تلميذ الابتدائية أكثر من ثلاثة أسابيع لتعلمه [١] .

وفي السياق نفسه يحاول بعض المثقفين الأكراد من ذوي الاتجاهات العلمانية

(الماركسية والليبرالية) تطبيق فكرة أتاتورك الآنفة الذكر وإنزالها في عالم الواقع

في محاولة كتابة اللغة الكردية بالأبجدية اللاتينية عوضاً عن الأبجدية العربية التي

هي سائدة الآن في كردستان العراق وإيران دون كردستان تركيا وسوريا؛ حيث

طغت هناك اللاتينية بواسطة التأثير التركي، ولا ننسى أن الأدب الكردي من شعر

ونثر تراثي إنما دُوِّن بالحرف العربي، وكذلك الصحافة الكردية؛ فقد استعملت في

غالبيتها الحرف العربي على مدى مائة عام تقريباً [٢] .

وكانت هذه الفكرة قد راودت بعضاً من أبناء الكرد منذ عدة عقود بتأثير

الموجة الأتاتوركية، ولكن قلة عدد هؤلاء اللاتينيين وسيطرة علماء الدين الإسلامي

على الساحة العلمية والثقافية في كردستان خلال النصف الأول من القرن العشرين

حالت دون استطاعتهم الجهر بفكرتهم هذه، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير

هي تغلغل الفكر البلشفي الماركسي في كردستان في ثلاثينيات القرن العشرين

والاقتداء بالاتحاد السوفييتي الذي قام باستبدال الأبجدية العربية السائدة عند مسلمي

القوقاز وآسيا الوسطى بالأبجدية الروسية.

وكانت حجة هؤلاء هي انتماء اللغة الكردية إلى عائلة اللغات الهند أوروبية

بعكس العربية التي تنتمي إلى عائلة اللغات السامية، ولأن العربية قاصرة عن

التعبير عن كل الأصوات والأحرف الكردية [٣] .

ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة اللغوية موجودة في اللغة الفارسية، ولكنها

استطاعت أن تطوِّع قسماً منها لتبعد عن أصوات فارسية لا وجود لها في اللغة

العربية، فيلاحظ أن الباء المهموسة وهي التي ترى في حرف (P) الإنجليزي

موجودة في الفارسية، غير معترف بها في العربية، فلجأ الفرس إلى كتابة هذا

الصوت بوضع نقطتين أخريين زيادة على النقطة الموجودة في الباء، ليصبح

المجموع ثلاث نقاط [٤] ، وجرى هذا في الحرف الإنجليزي (CH) ، حيث

أضاف اللغويون الفرس نقطتين أخريين زيادة على النقطة الموجودة في الجيم

ليصبح المجموع ثلاثاً، وهكذا دواليك في الحروف الأخرى التي لا نظير صوتياً لها

في العربية، وهذا الأمر عمل به اللغويون الكرد؛ فاللغتان الفارسية والكردية

تنتميان إلى عائلة اللغات الهند أوروبية؛ حيث تنتمي الفارسية إلى الفصيلة الجنوبية

الغربية، بينما تنتمي الكردية إلى الفصيلة الشمالية الغربية [٥] .

ومن جهة أخرى فإن انتماء لغةٍ مَّا إلى عائلة لغوية لا يعني بالضرورة

استخدام أبجديتها، وإلا لكان من الطبيعي استخدام الأتراك للأبجدية الألتية Altaic

على أساس انتماء لغتهم إلى عائلة الأورال تاي. وهذا ينطبق على اللغات الإفريقية

التي لا تنتمي إلى عائلة اللغات الهند أوروبية ومع ذلك فقد استخدمت هي الأخرى

الأبجدية اللاتينية، بينما لا زالت اللغات الفارسية والأوردية والكردية تستعمل

الأبجدية العربية، إضافة إلى أنه ليس من الضروري وجود ارتباط بين شكل

الحرف ونطقه، وإنما هناك علاقة غير واضحة يُكسِبها المجتمع لا الحرف نفسه

قدراً من الاتفاق والترابط؛ والدليل على ذلك أن صوت الراء يكتب بأشكال متعددة،

فيكتب في الإنجليزية على شكل (R) وفي العربية (ر) وفي الروسية (P) ،

فلو كان هناك اتفاق بين شكل الحرف والصوت لكتب بصورة موحدة في اللغات

المختلفة [٦] .

ومن الجدير ذكره أن اللغة اللاتينية هي إحدى اللغات الأوروبية القديمة التي

تنسب إلى سهل (لاتيوم) المحيط بالعاصمة الرومانية القديمة الإيطالية حديثاً روما،

ومنه أخذت تسميتها، وقد تفرعت منها عدة لغات أوروبية حديثة وهي: الإيطالية،

الفرنسية، الأسبانية، البرتغالية، الكتلونية، وأغلب الدراسات والأدب المدون

بهذه اللغة وثني إباحي يقوم على تمجيد الطقوس الوثنية والإباحية بجانب تقديس

المنحوتات العائدة للأباطرة الرومان والفلاسفة الإغريق؛ مع التركيز على مبدأ القوة

وسيادة العنصر الروماني على بقية شعوب العالم القديم آنذاك، والتي سماها

الرومان بالبرابرة، وهذا ما طبقه أحفادهم الأوروبيون عندما قسموا العالم إلى شمال

وجنوب، أو شعوب متمدنة راقية وشعوب متخلفة بدائية.

وعلى أي حال فقد بدأ بعض المثقفين الكرد من المنتمين إلى التيارات الفكرية

المتنوعة من ماركسية واشتراكية وليبرالية بالكتابة الأبجدية اللاتينية في الآونة

الأخيرة في بعض الصحف والمجلات العائدة لأحزابهم وجمعياتهم العاملة في

كردستان العراق، بقصد جس نبض القراء الكرد، ومعرفة ردود فعلهم الأولية على

هذا المشروع، ومدى محاولة المضي فيه حتى النهاية في حالة عدم وجود ردود

فعل سلبية تجاههم؛ حيث لا يخيفهم شيء سوى ردة فعل الاتجاهات الإسلامية

والمحافظة التي تريد البقاء على التراث الكردي القديم بصورته الحالية، ولكن مع

الأسف فإن الاتجاهات الأخيرة قد خَفَتَ صوتها في الآونة الأخيرة نتيجة اتهامها

بالعمالة للفكر الإسلامي أو وصمها بالتعصب والانغلاق وعدم الانفتاح على الفكر

العالمي، والهدف الأخير لهؤلاء العلمانيين ليس إخراج اللغة الكردية من بعض

الإشكاليات التي تعانيها مثل بقية اللغات بقدر ما هو قطع كل صلة للكرد بماضيهم

الإسلامي المجيد، ومحاولة دفع الكرد شيئاً فشيئاً نحو بوتقة التغريب والعلمنة،

علماً بأن للعلماء الأكراد باعاً طويلاً في الدفاع عن حياض اللغة العربية.

والحقيقة أن كتابة الكردية باللاتينية أصبحت موضة شائعة بسبب التقليد

الأعمى للغرب في كل حركاته وسكناته؛ مثل تقليده في المظاهر الأخرى كالأزياء

وشرب الخمر والأكل باليد اليسرى، إلى غير ذلك من هذه المظاهر المستنكرة التي

تدل على استلاب الشخصية المسلمة وتبعيتها لأعداء دينها وعقيدتها.

وانطلاقاً مما تقدم يبدو أن هناك عدة عوامل تصب في نجاح المشروع

اللاتيني في كردستان العراق، ولعل من أبرزها كثرة وجود المنظمات الغربية

(التنصيرية) التي تتخذ من الإنسانية مظهراً، والتي ليس لها هدف محقق في واقع

الأمر إلا تغريب الكرد ومحاولة إخراجهم من دينهم، ومحاولة قطْع كل رابطة لهم

بأشقائهم العرب المسلمين أو باللغة العربية، ولا سيما أن الكرد تعرضوا إلى

صنوف شتى من الظلم والقهر على أيدي بعض المحسوبين على العرب! بجانب

محاولة الغرب تغريب الجيل الكردي الحالي من خلال السماح له بالهجرة المنظمة

وغير المنظمة إلى الغرب، ومنحه التسهيلات المادية والمعنوية من خلال السماح

لهم بالحصول على اللجوء السياسي أو الإنساني على أقل تقدير.

وإنني في هذه المقالة أطلب من إخواني المسلمين وبالأخص العرب منهم

مساعدة الشعب الكردي للخروج من أزمته التي طالت، والتي تعرَّض خلالها إلى

أشد صنوف التنكيل والعذاب والضرب بالأسلحة الكيمياوية وغيرها من أعتى

وسائل الإجرام على يد بعض الأنظمة التي لا ترقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وهذا

كان أحد الدواعي التي استند إليها هؤلاء المتغربون اللاتينيون لإخراج الكرد من

دينهم على أساس أن ظالميهم أو الذين وضعوهم في معسكرات التعذيب والاعتقال

كانوا ينتمون اسماً إلى الإسلام! لذا فلا مناص بزعمهم من الالتجاء إلى الغرب

والاحتماء به، والإذعان لكافة عاداته وتقاليده؛ وإن تطلَّب الأمر معتقداته؛ والعياذ

بالله.

ولكن هل من مستجيب لنصرة الأكراد المسلمين قبل الكارثة؟ ألا هل بلغت؟

اللهم فاشهد!


(١) طالب عبد الرحمن: نحو تقويم جديد للكتابة العربية في كتاب الأمة (٦٩) قطر، ص ١٣٧.
(٢) منذر الموصلي: رؤية عربية للقضية الكردية، لندن، رياض الريس، ١٩٩١م، ص ٣٢.
(٣) جلال الطالباني: كردستان والحركة القومية الكردية، بيروت دار الطليعة، ص ٤٨.
(٤) أحمد كمال الدين حلمي: المرجع في اللغة الفارسية، الكويت، دار البحوث العلمية، ١٩٧٥م، ص ١٣.
(٥) فلاديمير منيورسكي، الأكراد وملاحظات وانطباعات، ترجمة معروف خازندار، بيروت، دار الكاتب، ١٩٨٧م، ص ٥٤، ٥٥.
(٦) طالب عبد الرحمن: نحو تقويم جديد، ص ١٤١، ١٤٢.