للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

التنصير.. هل أصاب الهدف؟

(١ - ٢)

قصة العلاقة بين الإسلام والنصرانية:

التنصير لم يكن غائباً

(١ - ٢)

إبراهيم محمد الحقيل

أرسل الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى المكلفين كافة: الجن

والإنس، العرب والعجم، القريب والبعيد؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور كما

قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (سبأ: ٢٨) ، وقال تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً]

(الأعراف: ١٥٨) ، وقال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ]

(الأنبياء: ١٠٧) . فوجب عليه البلاغ، ووجب على المسلمين من بعده تبليغ رسالته.

فإذا بُلِّغت الدعوة للناس فإن لهم منها موقفين:

الموقف الأول: قبولها والدخول في الإسلام، ومن اختار ذلك صار أخاً

للمسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم تحقيقاً لقوله تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]

(الحجرات: ١٠) . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلم من أهل

الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا» [١] .

الموقف الثاني: رفض الإسلام، ومن رفض الإسلام خُيّر بين القتال وبين

الخضوع لسلطان الإسلام، وخضوعه لسلطان الإسلام يكون بدفع الجزية عن يد

وهو صاغر كما قال تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ

يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى

يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] (التوبة: ٢٩) .

إن خضوع الناس للإسلام وأحكامه واجب على المسلمين تحقيقه عملاً بقول

الله تعالى: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] (البقرة: ١٩٣) ،

قال جمع من السلف منهم ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وزيد

بن أسلم، وغيرهم: أي: حتى لا يكون شرك بالله تعالى [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]

(البقرة: ١٩٣) أي: يخلص التوحيد لله عز وجل [٢] .

وقال قتادة: [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] (البقرة: ١٩٣) حتى يقال: لا إله إلا

الله، عليها قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليها دعا، وذكر لنا أن النبي

صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا

إله إلا الله [فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] (البقرة: ١٩٣) قال: وإنَّ

الظالم الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله، يُقاتَل حتى يقول: لا إله إلا الله» [٣] .

لماذا يجب إخضاع الناس لحكم الإسلام؟

الجواب عن هذا السؤال هو في قوله تعالى: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ]

(آل عمران: ١٩) فهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده وأمرهم أن يحكموا بشريعته،

وعند التخاصم يرجعون ويتحاكمون إليها: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا

بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا

جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ] (المائدة: ٤٨) ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «أي:

فاحكم يا محمد بين الناس: عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيِّهم بما أنزل الله إليك في

هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في

شرعك» [٤] .

وأمر الله تعالى أهل الكتاب بأن يقيموا كتبهم، وأن يعملوا بما فيها كما قال

تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ

إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ] (المائدة: ٦٨) ، وإقامتهم لكتبهم وعملهم بما جاء فيها يقتضي

إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والتزام شرائع الإسلام؛ لأن

كتبهم بشرت به، ودعتهم إلى اتباعه.

ولقد قضت الحقيقة بأن أهل الكفر ما نعموا بالعدل والأمن إلا تحت حكم

المسلمين؛ بينما النصارى ظلموا المسلمين الذين وقعوا تحت حكمهم ولا زالوا بل

ظلموا نصارى مثلهم ممن لا يدينون بمذهبهم، وحاولوا اجتثاثهم من الأرض،

ومحوهم من الوجود.

وشواهد التاريخ كثيرة جداً على هذه الحقيقة القاضية بأن أهل الكفر ما نعموا

بالعدل والأمن إلا تحت حكم المسلمين بينما النصارى ظلموا المسلمين الذين وقعوا

تحت حكمهم ولا زالوا بل ظلموا نصارى مثلهم ممن لا يدينون بمذهبهم. وحاولوا

اجتثاثهم من الأرض، ومحوهم من الوجود.

وسأدعم ذلك ببعض الأمثلة من التاريخ؛ وبأقوال بعض الغربيين من باب:

(وشهد شاهد من أهلها) ومن شواهد ذلك:

أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لما انسحب من حمص بعد أن فرض

عليها الجزية إلى اليرموك بكى النصارى في حمص وقالوا: يا معشر المسلمين!

أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف

عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا ولكنهم أي الروم غلبونا على أمرنا وعلى

منازلنا [٥] .

وكتب الإمام الأوزاعي إلى صالح بن علي بن عبد الله بن العباس لما قتل

مقاتِلة لبنان، وأجلى بعضهم لما خرجوا على الخليفة: «وقد كان من إجلاء أهل

الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم

ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخَذ عامةٌ بذنوب خاصةٍ حتى

يخرجوا من ديارهم وأموالهم وحكم الله تعالى ألاَّ تزر وازرة وزر أخرى، وهو

أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تُحفَظ وترعى وصية رسول الله

صلى الله عليه وسلم فإنه قال:» من ظلم معاهداً وكلفه فوق طاقته فأنا

حجيجه « [٦] .

وسيمر بك في هذا البحث المختصر بعض ممارسات النصارى الكثيرة ضد

المسلمين سواء في الأندلس لما انتزعوها من المسلمين وفرضوا عليهم الدين

النصراني وعذبوهم في سبيل محو الإسلام عذاباً أليماً، أو أيام الحروب الصليبية

التي يعترف الأوروبيون بوحشية أجدادهم فيها ضد المسلمين. أو أيام الاستعمار

الذي أعقب الحروب الصليبية؛ لتثبت هذه الحوادث التاريخية مع ما سبق ذكره أنه

لا عدل للبشرية إلا في ظل الإسلام فقط، وأن الفساد والظلم يعم أرجاء الأرض إذا

حكمت بغيره.

ومن شواهد ذلك مما كتبه نصارى غربيون: قول المؤرخ الغربي (أرنولد)

عن فتح مصر:» يرجع النجاح السريع الذي أحرزه غزاة العرب قبل كل شيء

إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي لما عرف

به من الإرادة الظالمة، ولما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت « [٧] .

ويقول أيضاً:» إن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك

عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين

جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح « [٨] .

ويقول الفرنسي ليوتي:» وإذا كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية يزعم

أن الإسلام يبعث على التدمير والفوضى والتعصب فإني بصفتي رجلاً قضيت بين

المسلمين مدة من الزمان في الشرق والغرب ولم أكتفِ بما قرأته عن الإسلام في

الكتب أقول: إن جميع تلك المزاعم لا نصيب لها من الصحة « [٩] .

إن المسلمين في فتوحهم ما كانوا يجبرون الأمم الأخرى على اعتناق الإسلام

بل يتركون لهم حرية التعبد ما داموا خاضعين لحكم الإسلام باعتراف الغربيين:

يقول جوستاف لبون:» إن العرب كانوا أكثر حكمة من كثير من رجال السياسة

الحديثة، عرفوا حق المعرفة أن أوضاع شعب لا تتناسب مع أوضاع شعب آخر؛

فكان من قواعدهم أن يطلقوا للأمم المغلوبة حريتها، ويتركوا لها الاحتفاظ بقوانينها

وعاداتها ومعتقداتها « [١٠] . ونقول: ليس ذلك حكمة فحسب بل دين يدينون لله به

امتثالاً لقوله تعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: ٢٥٦) .

ويقول أيضاً:» وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم

وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق

المغلوبين على أمرهم، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون

بثه في أقطار العالم، ولو عملوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع

لهم، فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في

القرون اللاحقة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وأسبانيا يعاملون

الشعوب بمنتهى الرفق تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين

عليهم في مقابل السلام الذي ضمنوه هم إلا جزية ضئيلة كانت على الأغلب أقل من

الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل. وما عرفت الشعوب فاتحاً بلغ هذا القدر

من المسامحة ولا ديناً حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف « [١١] .

بينما كان النصارى يُكرِهون الناس على التنصر كما فعل الأسبان بعد أن

خضع مسلمو الأندلس لسلطانهم؛ فإنهم لم يرضوا إلا تنصيرهم أو إجلاءهم عن

بلادهم، مع أن المسلمين أخذوا منهم عهداً قبل تسليم غرناطة أن لهم أن يدينوا

بدينهم ولهم البقاء في أملاكهم، فنكثوا عهدهم، وأوقعوا بالمسلمين أشد العذاب وقد

انتقدهم مؤرخوهم ومفكروهم قبل انتقاد المسلمين لهم؛ وفي هذا يقول فولتير: لما

فتح العرب أسبانيا لم يرغموا قطُّ النصارى الوطنيين على انتحال الإسلام، ولما

استولى الأسبان على غرناطة أراد الكردينال خمنيس أن ينصِّر كل العرب مدفوعاً

إلى ذلك بغيرة دينية أو طموح إلى إنشاء شعب جديد يخضع لصولته، وأرغم

خمسين ألف عربي على أن يحملوا رمز دين لا يؤمنون به.

وذكر فاريتي وهو من كبار مؤرخي أسبانيا أنه تم نفي ثلاثة ملايين من

العرب والعرب المتنصرين، وبلغ من هلك أثناء عملية النفي أو استرق زهاء مائة

ألف [١٢] .

موقف النصارى من الإسلام:

انقسم النصارى تجاه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين:

القسم الأول: آمنوا به، وصدقوه، وعرفوا أن ما جاءهم به هو الحق من

عند الله تعالى، قد بشرت به كتبهم كما قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام

إنه قال لقومه: [وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف: ٦) ،

وعلى رأس هذا القسم النجاشي رحمه الله تعالى الذي آوى المسلمين المهاجرين

ونصرهم ومنعهم من ظلم قريش وبطشها وقهرها.

وفيه ومن معه وأمثاله ممن آمنوا بنبيهم ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم

نزلت آيات كثيرة في مدحهم، والثناء عليهم وبيان عظيم ثوابهم قال الله تعالى:

[وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ

يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ]

(آل عمران: ١٩٩) .

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» ثلاثة يؤتَوْن أجرهم

مرتين.. «وذكر منهم:» ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمناً، ثم آمن بالنبي

صلى الله عليه وسلم فله أجران « [١٣] .

القسم الثاني: لم يؤمنوا به وهم فريقان:

١ - فريق خضعوا لسلطان الإسلام قبل القتال، وصالحوا النبي صلى الله

عليه وسلم ودفعوا الجزية، فكانوا من أهل الذمة؛ ومن هذا الفريق: نصارى

نجران، ونصارى دومة الجندل.

٢ - الفريق الثاني: لم يخضعوا لسلطان الإسلام، وقاتلوا المسلمين، وهؤلاء

خرج النبي صلى الله عليه وسلم لقتالهم، وأرسل السرايا إليهم؛ ومن هؤلاء:

نصارى مؤتة، ونصارى تبوك.

الحرب بين المسلمين والنصارى:

إن أول مواجهة قتالية بين المسلمين والنصارى كانت في مؤتة، ثم عزم النبي

صلى الله عليه وسلم على مواجهتهم في تبوك لكن الله تعالى لم يقدِّر قتالاً، ثم بعد

وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سارت الجيوش الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين

ثم في العهديْن الأموي والعباسي، فكانت المعارك الكبرى في الشام وغيرها:

أجنادين، واليرموك التي أزالت النفوذ البيزنطي النصراني عن كامل بلاد الشام،

وودَّع هرقل سوريا وداعاً لا لقاء بعده [١٤] ، ودخل المسلمون بيت المقدس عام ١٥

هـ، وتسلَّم مفاتيحها عمر رضي الله عنه وكتب كتاباً فرض عليهم فيه الجزية،

وحفظ لهم حقوقهم، وأوفى شروطهم؛ لأنها فتحت صلحاً على الصحيح [١٥] .

واستمرت الفتوح حتى توغل المسلمون في أوروبا ففتحوا الأندلس وأزالوا

حكم القوط النصارى عنها، ووصلت جيوشهم إلى وسط فرنسا، واستولى المسلمون

على معظم جزر البحر المتوسط من رودس إلى صقلية وجنوب شبه جزيرة إيطاليا،

وحاصروا رومية (روما) مركز البابوية الكاثوليكية، والقسطنطينية قاعدة

الأرثوذكسية، ولم يكن للمسلمين غاية سوى أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون

الدين كله لله، ولذا لم يقف أمامهم جيش ولم تستعص عليهم مدينة، وكأنهم يريدون

تحقيق البشارة النبوية بفتح روما والقسطنطينية. وكاد المسلمون أن يفتحوا أوروبا

كلها بما فيها روما لولا أن الله تعالى قدَّر هزيمتهم في معركة بلاط الشهداء التي

تسمى في كتب الغربيين (تور بواتييه) نسبة إلى موقعها وكانت عام ١١٤هـ

الموافق ٧٣٢م؛ حيث قاد المسلمين فيها عبد الرحمن الغافقي رحمه الله تعالى وقاد

النصارى شارل مارتل الذي يعتبره النصارى أعظم قائد أنقذ أوروبا من سقوطها في

أيدي المسلمين، وكان سبب هزيمة المسلمين فيها الانشغال بالغنائم فيما ذكره

المؤرخون [١٦] .

تنصير الأندلس:

يذكر المؤرخون أن ابتداء أمر النصارى مع المسلمين كان من الأندلس، ثم

سيَّروا حملات للشرق الإسلامي؛ لتكون الهجمات على المسلمين في الأندلس وفي

الشرق. قال ابن الأثير: كان ابتداء ظهور دولة الفرنج واشتداد أمرهم وخروجهم

إلى بلاد المسلمين واستيلائهم على بعضها سنة ٤٧٨هـ، فملكوا مدينة طليطلة

وغيرها من بلاد الأندلس، ثم قصدوا سنة ٤٨٤هـ جزيرة صقلية وملكوها؛ فلما

كانت سنة ٤٩٠ هـ خرجوا إلى بلاد الشام [١٧] .

فانطلاقة النصارى كانت من بلاد الأندلس لما رأوا انتصاراتهم فيها، وبقي

فيها منهم جيوش تقاتل مَنْ بقي من المسلمين، وجيوش أخرى انطلقت من أوروبا

إلى الشرق الإسلامي.

وقد سجل المؤرخون ما عمله النصارى من عظائم في حق مسلمي الأندلس؛

فقد أرادوا سحق الإسلام فيها، ونكثوا العهود التي عاهدوا المسلمين عليها حتى قال

مؤرخ أسباني في ذلك العصر:» إنه منذ استولى فرناندو على غرناطة كان

الأحبار يطلبون إليه بإلحاح أن يعمل على سحق طائفة محمد من أسبانيا، وأن

يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء إما التنصير، أو بيع أملاكهم والعبور إلى

المغرب، وأنه ليس في ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم بل فيه إنقاذ لأرواحهم،

وحفظ لسلام المملكة؛ لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون في صفاء وسلام مع

النصارى، أو يحافظوا على ولائهم للملوك ما بقوا على الإسلام، وهو يحثهم على

مقت النصارى أعداء دينهم « [١٨] .

ومع تزايد الضغوط التي يقوم بها رجال الدين النصراني على الساسة بلزوم

الضغط على المسلمين وعدم الوفاء لهم فإن الساسة خضعوا لتلك الضغوط، وربما

وافقت هوى في نفوسهم فعمدوا إلى سياسة المراوغة في الوفاء وتحوير العهود

والنصوص التي تضمنتها معاهدة تسليم غرناطة بما يوافق هوى النصارى،

وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم ثم خرقها نصاً نصاً [١٩] ، واستلاب الحقوق

والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة

شعائرهم، وانتهكت عقائدهم وشريعتهم [٢٠] .

وفي عام ٩٠٥ هـ عزم النصارى في الأندلس على تنصير المسلمين،

فجمعوا فقهاء غرناطة ودعوهم إلى التنصُّر، وأغدقوا عليهم التحف والهدايا،

فتنصَّر بعضهم والعياذ بالله وتبعهم جماعة من مقلديهم من عامة المسلمين، وقبلهم

تنصَّر جماعة من الأمراء والوزراء والأعيان خوفاً على أملاكهم، فباعوا دينهم

بدنياهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وقد تمركزت حركة التنصير في غرناطة وبالأخص في حي البيّازين؛ إذ

حُوِّل مسجده في الحال إلى كنيسة سميت باسم (سان سلبادور) لينتشر التنصير بعد

ذلك في سائر بلاد الفردوس المفقود [٢١] .

لم يكتف النصارى بذلك بل أرادوا محو أثر الإسلام من الأندلس، فأقدم

الكردينال خمنيس على جمع ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالي غرناطة

وأرباضها، ونظمت أكداساً هائلة في ميدان الرملة وأضرمت فيها النيران، ولم

يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم. ثم أمر خمنيس بإبادة كتب

العرب من بلاد أسبانيا عامة، فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن حتى قال

المؤرخ لبون: ظن الكردينال لما أحرق في غرناطة كل ما طالته يده من

مخطوطات العرب وكانت ثمانين ألفاً، عدا ما أحرق في المدن الأخرى أنه يحذف

إلى الأبد من كتاب التاريخ ذكرى أعداء دينه، ولكن الأعمال التي قامت على أيديهم

في تلك الأرض تكفي لتخليد ذكرهم على الدهر وإن نفدت آثارهم المكتوبة» [٢٢] .

وقد علق المؤرخ الأمريكي وليم برسكوت على هذا الإجراء من النصارى

فقال: «إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجي جاهل، وإنما حبر مثقف، وقد

وقع لا في ظلام العصور الوسطى، ولكن في فجر القرن السادس عشر، وفي قلب

أمة مستنيرة تدين إلى أعظم حد بتقدمها إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها» [٢٣] .

ولم يكن حرق الكتب العربية مجرد تعصب أعمى أدى إلى هذه الهمجية كما

قال، ولكنه خطة مدروسة تحت مشروع تنصير المسلمين في الأندلس؛ لأن بقاء

الكتب العربية يؤخر عملية التنصير من جهة، ومن جهة أخرى لا يأمن النصارى

مع وجود هذا التراث أن يرجع المتنصرون إلى دينهم مرة أخرى تأثراً بقراءته؛

فكان لا بد من اجتثاثه؛ وهذا الهدف صرح به المستشرق سيمونيت في معرض

دفاعه عن هذا الإجراء فكان من قوله في ذلك: إن ما قام به الكردينال من حرق

الكتب أمر لا غبار عليه؛ إذ هو إعدام للشيء الضار، وهو بالعكس أمر محمود

كما تعدم عناصر العدوى وقت الوباء، وإن الملكيْن الكاثوليكييْن قد أمرا عقب

تنصير المسلمين أن تؤخذ منهم كتب الشريعة والدين لكي تحرق في سائر مملكة

غرناطة، وألا يبقى لديهم سوى الكتب التي لا علاقة لها بالدين الذي نبذوه [٢٤] .

ويمكن تلخيص الأساليب التي قام بها النصارى في الأندلس لمحو الإسلام منها

وتنصيرها في الآتي:

١ - كانت بداية التنصير في الأندلس في عام (٩٠٥هـ) على شكل مواعظ

نصرانية تلقى على المسلمين يلقيها الأساقفة والقادة يدعونهم فيها إلى انتحال

النصرانية محاولين إقناعهم أن آباءهم كانوا نصارى [٢٥] . وقد أثَّرت هذه المواعظ

في بعض وزراء المسلمين وأمرائهم سواء كان هذا التأثر عن قناعة أم كان عن غير

قناعة لحفظ الأموال والضياع والمزارع، وتبعهم جمع من عامة الناس تأثراً بهم

وبمراكزهم القيادية.

٢ - الترغيب في النصرانية بالمتاع الدنيوي: فبعد عام تقريباً أي في عام

٩٠٦ هـ صدر مرسوم كاثوليكي إلى المسلمين القاطنين في مدينة بسطة، بإقالة

الذين تنصروا منهم أو يتنصرون من جميع الفروض والمغارم التي فرضت على

الموريسكيين [*] ، وتحريرهم منها سواء بالنسبة لأنفسهم أو منازلهم وأموالهم الثابتة

والمنقولة من يوم التنصير، وألا يدخل أحد منازلهم ضد إرادتهم، ومن فعل عوقب

بغرامة فادحة، وأن يُعفَوْا من سائر الذنوب التي ارتكبت ضد خدمة العرش، وأن

تحترم جميع العقود والمحررات التي كتبت بالعربية، وصادق عليها فقهاؤهم

وقضاتهم، وأن يعامل المتنصرون منهم كسائر النصارى الآخرين في بسطة، ولهم

أن ينتقلوا وأن يعيشوا في أي مكان آخر من أراضي قشتالة دون قيد أو عائق، إلى

غير ذلك من المنح والامتيازات [٢٦] .

٣ - اعتبار أن أطفال المسلمين نصارى وإجراء أحكام النصرانية عليهم ولو

لم يتنصر والدوهم، فأخذوا يعمّدون أبناء المسلمين بالقوة مدعين أن العرب في

الأصل كانوا نصارى [٢٧] .

٤ - تخيير المسلمين بين الدخول في النصرانية أو الخروج من الأندلس؛

ففي عام ٩٠٧هـ أصدر فرناندو وزوجته إيسابيلا أمراً ملكياً يتلخص في أنه لما

كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة فإنه يحظر وجود المسلمين

فيها؛ فإذا كان بها بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم خوفاً من أن يتأخر

تنصيرهم، كما يحظر اتصالهم بمن تنصروا لئلا يفسدوا دينهم، ويعاقب المخالفون

بالموت أو مصادرة الأموال. وأرسل المسلمون رسالة إلى سلطان مصر آنذاك

يصفون إكراههم على النصرانية، لكن ملك النصارى أرسل وفداً إليه يطمئنه بحسن

أحوال المسلمين في الأندلس مما كان من أسباب عدم نجدة المسلمين.

وقد واجه بعض المسلمين هذا الظلم والقهر بالتجمع في الجبال والإغارة على

النصارى، فأصدر النصارى قانوناً يحرم على المسلمين إحراز السلاح علناً أو سراً، وينص القانون على معاقبة المخالفين لأول مرة بالحبس والمصادرة، ثم بالموت

بعد ذلك. وقد تكرر صدور هذا القانون عدة مرات وفي أرجاء مختلفة من بلاد

الأندلس، وكان يطبق بصرامة وحزم.

ولم يسلم من تنصر من المسلمين؛ فحظر عليهم حيازة السلاح أيضاً كما حرِّم

عليهم أن يبيعوا أملاكهم إلا بترخيص من السلطات النصرانية، ومن تجاوز هذه

القوانين عوقب بالموت ومصادرة أملاكه؛ لأنه ثبت لدى النصارى كما في نص

المرسوم أن كثيراً من المتنصرين يبيعون أملاكهم ويحصلون على أثمانها ثم يعبرون

إلى المغرب وهنالك يعودون إلى الإسلام [٢٨] .

وكان المسلمون سراً المتنصرون علانية يرفعون الصلبان فوق منازلهم

وأكواخهم إيهاماً بأنهم نصارى وأملاً في أن لا يكشف أمرهم، لكن الحكومة

النصرانية كان عندها جداول بأسمائهم فلم تنفعهم هذه الحيل كلها، وكانت صفة

إجلائهم مؤلمة جداً فمنهم من دفعه اليأس إلى تخريب منزله أو إضرام النار فيه وفي

كل ما يملك، ومنهم من كان يصل به القنوط إلى قتل أولاده ثم الانتحار والعياذ بالله.

وكثير منهم ماتوا من الجوع والأمراض والجزع [٢٩] .

٥ - تنصير المسلمين بالقوة: كانت فترة التخيير بين الدخول في النصرانية

أو الخروج من الأندلس فترة عصيبة جداً على المسلمين، وتنصر كثير منهم،

وخرج من الأندلس كثيرون لكن القانون لم يطبق بحزم، وفي عام ٩٣٠هـ صدر

مرسوم جديد يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية

من أسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصير أو الخروج في المهلة الممنوحة

بالرق مدى الحياة، وأن تحول جميع المساجد الباقية إلى كنائس.

لم يرتضِ المسلمون هذا الظلم فرفعوا مظلمتهم إلى إمبراطور النصارى؛

فشكَّل محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق للنظر فيما ادعاه

المسلمون من أنهم يُنصَّرون بالقوة والإكراه. وقررت هذه المحكمة أن إكراههم على

النصرانية صحيح، وأنه ملزم لهم بدخول النصرانية على اعتبار أنهم يفرون

بالدخول في النصرانية من خطر الموت أو الطرد أو الرق ومصادرة الأملاك.

وقد علق على هذا الحكم الجائر غربي نصراني بقوله: «وهكذا اعتبر

التنصير الذي فرضه القوي على الضعيف، والظافر على المغلوب والسيد على

العبد، منشأ لصفة لا يمكن لإرادة معارضة أن تزيلها.

وإثر هذا الحكم صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين نُصِّروا كرهاً

على البقاء في أسبانيا باعتبارهم نصارى، وأن ينصَّر أولادهم؛ فإن ارتدوا عن

النصرانية قضي عليهم بالموت والمصادرة. كما قضي بأن تحول جميع المساجد

الباقية في الحال إلى كنائس» [٣٠] .

وقام ديوان التحقيق محاكم التفتيش بمهمة ملاحقة المتنصرين ومراقبة سلوكهم

بقصد حماية عقيدة الكاثوليك من ارتداد الناس عنها، وكذلك إجبار غير الكاثوليك

على التدين بها وهو ما يسمى في كتب الغربيين بالكثلكة.

وقد حاول المتنصرون من اليهود والمسلمين الهرب من بطش رجال ديوان

التحقيق وذلك بالتخفي في الجبال وفي ضياع الأشراف، فصدرت الأوامر الملكية

بتسليم الهاربين إلى ديوان التحقيق، وهُدد الأشراف بفقد وظائفهم والنفي من

الكنيسة إذا لم ينفذوا الأوامر مما كان سبباً في بث الرعب والذعر في صفوف

المتنصرين، فحاولوا الهرب من الأندلس كلها عبر شواطئ البحار والأنهار،

فأصدرت الحكومة النصرانية قراراً يحرِّم على ربان أية سفينة وأي تاجر أن ينقل

معه نصرانياً محدَثاً دون ترخيص خاص [٣١] .

٦ - محو شعارات المسلمين وعاداتهم بعد محو شعائر الإسلام: قام مندوبو

ديوان التحقيق بمراقبة المتنصرين في شعائرهم لضمان انتمائهم للدين الكاثوليكي،

ثم أُصدر قانونٌ يحرم استعمال الشعارات الإسلامية مثل اللغة العربية، وارتداء

الثياب العربية على هؤلاء المتنصرين، ومنع نسائهم من الحجاب وإلزامهن بلبس

المعطف والقبعات كما يفعل نساء النصارى، وأن تكون احتفالاتهم مطابقة لعرف

الكنيسة، ويجب أن تفتح المنازل أثناء الاحتفال وأيام الجمعة والأعياد الإسلامية

ليستطيع القسيس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والرسوم، كما

حرموا على النساء الخضاب بالحناء، وحرَّموا استعمال الأسماء والألقاب العربية.

ويعتبرون المتنصِّر قد عاد إلى الإسلام إذا امتدح دين محمد أو قال: إن يسوع

المسيح ليس إلهاً وليس إلا رسولاً، ويجب على كل نصراني أن يبلِّغ عما يرى

ويسمع من ذلك، كما يجب عليه أن يبلِّغ إذا رأى أحد المتنصرين يباشر بعض

العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم يوم الجمعة، أو يحتفل بارتداء ثياب

أنظف من العادة، أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله ولا يأكل ولا يشرب إلا عند

الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب

الخمر، أو يتوضأ ويصلي نحو الشرق ويركع ويسجد، أو يملِّس بيديه على رؤوس

أولاده، أو يغسل الموتى ويكفنهم أو يدفنهم في أرض بِكْر [٣٢] .

كان هذا الاجتثاث والمحو لشعائر الإسلام أولاً، ثم للشعارات والعادات التي

تربط بين المسلمين كفيلاً بإنهاء مظاهر الإسلام في الأندلس إلى أن صدر الأمر

الأخير بطرد العرب عام ١٦٠٤م أي عام ١٠١٠هـ تقريباً، فرحل في سنتين عن

أسبانيا نحو نصف مليون مسلم، وطويت صحيفة الإسلام في شبه جزيرة الأندلس؛

ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم [٣٣] .

وقد تزامن مع تعذيب الأندلسيين على أيدي النصارى إرسال حملات صليبية

إلى الشرق الإسلامي للقضاء عليه، وقد استمرت هذه الحملات مائتي سنة تقريباً

من ٤٨٩هـ إلى٦٩٠هـ.

حروب الفرنجة أو الحملات الصليبية:

أطلق الغربيون على هذه الحروب في تواريخهم أسماءاً عدة منها: «الحج

إلى الديار المقدسة» ، «الحرب في خدمة المسيح» ، «أعمال المسيحيين وراء

البحار» ، «الحرب من أجل تحرير القبر المقدس» [٣٤] .

وأما المؤرخون المسلمون كابن الجوزي وابن الأثير وابن كثير وغيرهم فكانوا

يسمونها: «حروب الفرنجة» أو الإفرنج [*] .

وقد ذكر المحللون لها أسباباً عدة وأهدافاً متنوعة كالانتقام من المسلمين

والاستيلاء على ثرواتهم وإنعاش اقتصاد النصارى وغير ذلك؛ ولكن المحرك

الحقيقي والدافع الأكبر هو الهدف الديني، وكانت الدوافع الأخرى سواء منها

الاقتصادي أو الانتقام من المسلمين فهي محرك لفئات من النصارى كان لا يهمهم

مقدساتهم في الشرق الإسلامي، فاستخدمها مدبرو هذه الحملات ومسيروها لدفعهم

إلى قتال المسلمين وحشد أكبر عدد ممكن لهذه الحملات. والعبرة في معرفة أسباب

الحروب هو نظرة قادتها ومحركيها ومسعِّريها؛ لأن الجيوش إنما تسير وتتوقف بهم، أما عامة الناس فليس لهم من الأمر شيء.

وقد استمرت الحملات الصليبية الكبرى قرنين من الزمان من حملة بطرس

الناسك عام (٤٨٩هـ) إلى سقوط عكا وما بعدها في أيدي المسلمين عام (٦٩٠

هـ) ؛ وبسقوطها انتهت دولة النصارى اللاتينية في الشرق الإسلامي، وبقي منهم

باقية عاشوا تحت حكم المسلمين.

بعد سقوط عكا وانتهاء الحكم الصليبي في الشرق الإسلامي حاول البابا

(نيقولا الرابع) تهييج النصارى في أوروبا بإلقاء المواعظ والخطب التي ذكرهم فيها

بسقوط ممالك الصليب في الشرق الإسلامي، وعقد المجامع الكنسية منادياً بإعادة

مملكة عكا وبيت المقدس؛ لكن الأوروبيين تعبوا من تسيير حملاتهم إلى الشرق

الإسلامي، وأحسوا بحجم الخسائر التي لحقتهم من جراء ذلك على مدى قرنين من

الزمن [٣٥] .

ثم حاول النصارى الأرمن ومن بقي معهم من النصارى تحت الحكم الإسلامي

في مصر والشام التحالف مع المغول وحصل ذلك لكنهم كُسروا غير مرة.

وتواصلت نداءات الباباوات في أوروبا لتسيير حملات أخرى إلى الشرق

الإسلامي خاصة بعد أن تولى بنو عثمان الخلافة الإسلامية وقويت دولتهم وهددوا

اليونان ومن خلفهم من الأوروبيين، لكن هذه النداءات لم تجد سامعاً.

وشن القبارصة والأرمن وغيرهم من النصارى عدة غارات على المسلمين

لكنها أخفقت، وكانت آخر محاولاتهم عام ٨٣٠هـ؛ وانتصر عليهم المسلمون

بقيادة الملك أبي النصر برسباي التركماني؛ إذ كسر القبارصة وأسر ملكهم

(جانوس) وخضعت قبرص للسلطنة المصرية الإسلامية ووضعت فيها حامية

مصرية.

آثار الحروب الصليبية على المسلمين:

تركت الحروب الصليبية كثيراً من الآثار السيئة على الأمة الإسلامية في

الشرق كان منها:

١ - المذابح العظيمة التي لحقت بالمسلمين من جراء تلك الحملات، وفي

الحملة الأولى أباد النصارى أهل أنطاكية، وذبحوا في القدس أكثر من سبعين

ألفاً [٣٦] ، وكم أعطى النصارى الأمان لأهل البلاد التي يحاصرونها ثم يغدرون بهم بعد التسليم ويبيدونهم كما فعل ريتشارد (قلب الأسد) غير مرة.

٢ - تخريب كثير من بلاد الشرق الإسلامي وتهجير أهلها منها، فقد خُربت

حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وقنسرين وطبرية وغيرها، واضطر المسلمون

أن يخربوا مدنهم بأيديهم أثناء الحصار حتى لا يستفيد منها الصليبيون، ولعلهم بعد

التخريب لا يستوطنونها [٣٧] .

٣ - تشريد كثير من المسلمين من بيوتهم، لأن هدف الصليبيين كان هدفاً

استيطانياً، فهم يفرغون المدن التي يستولون عليها من أهلها، ومن ثمَّ لا مأوى

لأهلها المشردين.

٤ - مهدت الحروب الصليبية لحركات الاستعمار الذي لا زال المسلمون

يعانون من آثاره ويرزحون تحت نيره؛ ذلك أن الصليبيين وخلال مائتي عام من

تسيير الحملات الكثيرة التي كان أكبرها ثماني حملات اقتنعوا أن الشرق الإسلامي

لا يمكن كسره عسكرياً؛ إذ إن روح الجهاد التي تُبعث مع كل اعتداء عليه كفيلة

بدحر أي قوة، وهزيمة أقوى جيش مما جعل النصارى يلجؤون إلى أساليب أخرى

من الغزو تمثلت في الغزو الفكري، والهيمنة الاقتصادية، وتفريق المسلمين

والتحريش فيما بينهم.

يقول (Kigk) : إن الحروب الصليبية فتحت أذهان الغربيين إلى مستوى

الحضارة في الشرق الأوسط، ذلك المستوى الذي كان يفوق بكثير حضارة الغرب،

ومع تفتيح أذهان الغربيين اتجه هؤلاء إلى غزو الشرق فكرياً بعد أن عجزوا عن

غزوه عسكرياً.

يقول (Oman) : إن هذه الحروب يعني الصليبية وضعت نواة الاستشراق إذ اتجه الرهبان لدراسة اللغة العربية والفكر الإسلامي لمعرفة اتجاهات المسلمين

في مختلف الشؤون، وقد أُسست كلية للرهبان عام ١٢٧٦م في (ميراما) لدراسة

اللغة العربية والعلوم الإسلامية، كما أنشئت الكراسي للُّغات الشرقية في باريس

ولوفان « [٣٨] .

ولجأ النصارى إلى التنصير بين المسلمين عن طريق الإرساليات التنصيرية

بعد أن ثبت إخفاقهم في المعارك الحربية، ومن مؤسساتهم لنجاح التنصير مدارس

» الفرنسيسكان «المنسوبة إلى القديس فرنسيس، و» الدومنيكان «المنسوبة إلى

القديس دومنيك في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي في سوريا، وكان المنصِّر

يُعَدُّ لهذه المهمة قبل أن يرسَل لمباشرتها. ومن أهم وسائل إعداده تعلُّمه اللغة

العربية، وشيئاً من الدراسات الإسلامية؛ وذلك هو الدستور الذي لا يزال سائداً

حتى الآن [٣٩] .


مشاريع التنصير:
وطبقًا لإحدى الدراسات التنصيرية فإنه ينشط في أنحاء العالم الآن ٣٨٧
مشروع تنصيري عالمي. و ٢٥٤ مشروع منها تحرز التقدم والنتائج المرجوة
ويعتبر ٢٥٤ مشروع من هذه المشاريع مشاريع واسعة النطاق وهي التي ينفق كل
واحد منها على العمل التنصيري عشرة آلاف ساعة عمل أو أكثر من عشرة ملايين
دولار سنويًا على مدى عشر سنوات.
و٣٣ مشروعًا من هذه المشاريع هي ما توصف بـ (المشاريع الضخمة)
وهي التي ينفق كل واحد منها مائة ألف ساعة عمل أو مائة مليون دولار سنويًا أو
ألف مليون دولار عبر عمرها، وأكبر هذه المشاريع الضخمة ينفق الآن ٥٥٠
مليون دولار سنويًا على أنشطتها التنصيرية في أنحاء العالم.
أموال التنصير:
من المعروف أن الكنيسة تمتعت دائمًا بمصادر ضخمة. ولكنها لم تحسن
استخدامها دائمًا. ومن ذلك أن مشروعًا تنصيريًا معينًا جمع له ٣٣٦ مليون دولاؤ
سنة ١٩١٨م ولكنه انهار خلال أسبوع واحد من قيامه، كما أن مشروعًا ضخمًا آخر
للتنصير جًمِعَ له مبلغ ١٥٠ مليون دولار في الولايات المتحدة ثم أنهار فجأة سنة
١٩٨٨م نتيجة فضيحة أخلاقية وإدارية تتعلق ببعض كبار المنصرين، والإشارة
هنا إلى القسين الأمريكيين (باكير) و (جيمي سواغارت) قائدي منظمة مجالس
الله.
- البيان -