للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقفات

[بداية النهاية]

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

الإحباط داء من الأدواء المهلكة التي قد تعرض لبعض السالكين في طريقهم؛

فهو يرى انتفاش الباطل، وعلوَّ سلطانه، وامتداد تأثيره. يلتفت يمنة ويسرة فيجد

أعداء الله تعالى يمكرون الليل والنهار بإمكانات مادية وتقنية بشرية هائلة، ثم يشعر

جازماً بأنَّ الأحداث والوقائع إنما تجري بتخطيط محكم، ودراسة متقنة، وأنَّ الناس

ما هم إلا دمى يعبث بها صنَّاع القرار من أهل الباطل، أو مجرد أحجار على رقعة

الشطرنج يتداول تحريكها وإسقاطها المتنافسون على القصعة المستضعفة

المهينة..! !

يرى ذلك كله، ثم يرى في الجهة الأخرى أنَّ الحق مهيض الجناح، ضعيف

السلطان، لا شوكة له ولا ظهور، كما يرى أن السنوات الطويلة التي قضاها في

الدعوة أو التعليم أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الجهاد في سبيل الله لم

تُؤتِ ثمارها كما يجب، بل قد تتوالى عليه الفتن، وتضيق عليه الدائرة، وربما

رأى من أمراض الصحوة الإسلامية ما يزيد من الفتِّ في عضده، والتقليل من

همته وعزيمته..!

والنتيجة الحتمية لهذه الحالة المتقدمة من الإحباط هي اليأس والاستسلام، ثم

القعود والركون إلى الدنيا، أو في أحسن الأحوال الانكفاء على الذات والاعتزال.

والإحباط هو بداية السقوط والنهاية، وهو آية من آيات ضعف الإيمان،

وضعف الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه. وأمَّا أهل الإيمان الراسخ فإن ثقتهم بالله

تعالى عظيمة، وتوكلهم عليه كبير، لا يزالون معتصمين بحبل الله المتين، لا

يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.

إنَّ الإيمان بمعية الله تعالى للمؤمنين من أعظم عناصر القوة، والمؤمن الحق

لا يعرف اليأس، ولا يستسلم لأحابيل الشيطان وتخذيله. وقوة الباطل وانتفاشه قوة

دافعة لأهل الإيمان تدفعهم لمواجهته، والصبر في مدافعته. قال الله تعالى:

[الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا

اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ] (آل عمران: ١٧٣) . وقال الله تعالى: [وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ

قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا

وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: ١٤٦) .

وانظر إلى سِيَر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تراهم أعظم الناس ثقة بالله

تعالى على الرغم من الإعراض الذي يواجَهون به، بل والأذى والاستهزاء

والحرب؛ فها هو ذا نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين بكل

ثبات وصبر، ولم يفُتَّ في عضده أنَّ من آمن به قلة قليلة جداً من الناس، ولم

يحبطه أن يكون أعز الناس إليه ممَّن كفروا بالله تعالى. قال الله تعالى: [قَالَ رَبِّ

إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ

لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً *

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا

رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً] (نوح: ٥-١٠) .

ومن عجائب الثقة بالله تعالى ما نراه في سيرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه

وسلم؛ ففي المدينة لمَّا تألب عليه الأحزاب في غزوة الخندق، ورمته العرب عن

قوس واحدة، وأصاب الناس بأس وشدة، وزلزلوا زلزالاً شديداً كان النبي صلى

الله عليه وسلم يربي أصحابه على الثقة بالله، والاطمئنان بالنصر العاجل والآجل،

والتصديق بموعود الله الذي وعدهم؛ فعندما عرضت صخرة للصحابة وهم يحفرون

الخندق أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول وقال: «باسم الله» ، فضرب

ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني

لأُبصر قصورها الحمر من مكاني هذا» . ثم قال: «باسم الله» ، وضرب أخرى،

فكسر ثلث الحجر، فقال: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر

المدائن، وأُبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا» . ثم قال: «باسم الله» ،

وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح

اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا» [١] .

والعجيب أنَّ الناس انقسموا إزاء هذا الوعد فريقين: فقد حكى الله عن

المنافقين قولهم: [وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ

وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً] (الأحزاب: ١٢) . وأما المؤمنون فقد جاء وصف حالهم

بقوله تعالى: [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ

وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً] (الأحزاب: ٢٢) . موقفان

متقابلان: موقف المريض الهزيل، وموقف المطمئن الراسخ في تصديقه، الثابت

على دينه، الذي لا تهزُّه الأعاصير، ولا تضعفه المحن.. وشتان ما بين الموقفين.

نعم.. تربى الصحابة رضي الله عنهم على الشموخ والأنفة! ففي غزوة أُحُد

لمَّا انكسر المسلمون، وقُتِلَ من أَجِلَّة الصحابة من قُتل تنزَّل القرآن الكريم ليؤكد

حقيقة في غاية الأهمية وهي أن الإنسان المؤمن يشعر بالعزة والرفعة والعلو دائماً،

ولا يتطرق الوهن أو اليأس إلى قلبه، حتى في حال الانكسار. قال الله تعالى:

[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: ١٣٩) .

إنَّ الإحباط لا يعرف طريقه إلى القلوب المطمئنة بذكر الله تعالى بل هي

شامخة بإيمانها، معتزة بدينها، قادرة على مواجهة الأمم كلها مهما بلغ سلطانها

وبلغت قوتها. أمَّا أصحاب النفوس الضعيفة التي عبث بها اليأس، وعمرها القنوط

فإنها تخاف من ظلها، ويحوطها الفشل والإحباط من كل جانب.. نسأل الله السلامة.

[رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ] (الأعراف: ١٢٦) .


(١) أخرجه أحمد في المسند (٣٠/٦٢٦) رقم (١٨٦٩٤) ، وضعف إسناده المحقق، ولكن حسنه ابن حجر في الفتح (٧/٣٩٧) .