للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

احذروني.. أنا من الرؤوس الجهال!

خالد أبو الفتوح

[email protected]

عندما تضع شمعة مشتعلة في ضوء ساطع فإنك بمشقة تلحظ أنها مضيئة،

ولكنك كلما ابتعدت عن مركز النور واقتربت بها إلى الظل ازداد ضوؤها لمعاناً،

فإذا تخطيت إلى منطقة ظلمة ازداد سطوعها، ويتصاعد ضوء الشمعة سطوعاً كلما

دخلت بها إلى منطقة أكثر إظلاماً.. ضوء الشمعة هو هو لم يتغير، ولكن تغيرت

البيئة المحيطة بها.. أليس كذلك؟

هكذا هُدَى الرسالة، وهكذا المقتبسون من هُدَاها؛ فالرسالة نور ساطع

(مبين) : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً]

(النساء: ١٧٤) ، والمؤمنون بها مقتبسون من هذا النور كل بقدره: [وَمَن لَّمْ

يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ] (النور: ٤٠) ، وهكذا (لمعان) النقاط

الضوئية الضئيلة الضعيفة (المقتبسون من الرسالة) عندما يخفت ضوء مركز

الإشعاع الساطع (الرسالة نفسها) ، فكلما بَعُدَ الإنسان عن مركز النور (علم

الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه) زماناً ومكاناً ازداد ضعف إبصاره لذلك

النور، وازداد تبعاً لذلك ظهور الضوء الخافت.

فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «يَدْرُسُ الإسلامُ كما يدرس وَشْيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة

ولا نسك ولا صدقة، ولَيُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في

الأرض منه آية..» [١] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً

ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبِق عالماً اتخذ

الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا..» [٢] .

وما دام الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا الحديث فهو واقع لا

محالة، ولكن بعض الطيبين يظنون أن ذلك الاندراس واتخاذ الرؤوس الجهال يكون

قبيل قيام الساعة فقط، ولا شك أن هذا الظن صحيح في حالة الاندراس التام

والجهل المطبق، أما في غير هذه الحالة فالاندراس يحدث واتخاذ الرؤوس الجهال

يتم، ولكن بتدرج ونسبية [٣] ، فاندراس وشي الثوب وهو بِلَى نقش الثوب الذي

ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لاندراس الإسلام لا يتم فجأة وبدون

مقدمات وإن تسارع في ظروف معينة كما أن قبض العلماء لا يتم في لحظة واحدة؛

وهذا ما تؤكده رواية أخرى: «ولكن يذهب بالعلماء، كلما ذهب بعالم ذهب بما

معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم فيَضِلوا ويُضِلوا» [٤] .

وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما واضح في أن هؤلاء

الرؤوس الجهال ليسوا مجرد أدعياء علم، بل إنهم يتصدون لمسائل حيوية ووقائع

نازلة في حياة الناس، وإنهم يعملون على تشكيل حركة الناس من منظور الدين،

فهم متَّخذون ومسؤولون ومفتون ... ثم هم: ضالون مضلون!

وهنا تظهر النسبية؛ فقد يكون هذا (الرأس) عالماً ببعض النصوص

الشرعية ولكنه غير محيط بها كلها، وقد يكون حافظاً لها ولكنه غير فقيه في فهم

معانيها، وقد يفقه معانيها الجزئية ولكنه غير عالم بمقاصد الشريعة الكلية، وقد

يكون عالماً بمقاصدها ولكنه جاهل بأحوال الناس [٥] ، وقد يكون عالماً بأحوال

الناس ولكنه لا يملك الأهلية لتنزيل الحكم على مناطه الصحيح، وقد يكون ماهراً

في باب من أبواب العلم خاملاً في أبواب أخرى، وقد تُعكس هذه الأحوال، أو

يكون فيه بعض هذا أو ذاك ... وهكذا نرى أنه يمكن أن يكون عالماً من ناحية

وجاهلاً بل رأساً في الجهل من نواحٍ أخرى، وبعبارة أخرى يمكن القول: إنه قد

يوجد نصف رأس جهل أو ربع رأس جهل.. وهكذا.

والتدرج والنسبية واضحان أيضاً في تناقص عدد العلماء نسبة إلى عدد

المستفتين، ولحاجة الناس إلى من يفتيهم فإنهم يكملون النقص بسؤال من هو أقل

علماً، فيصبح هؤلاء رؤوساً، وهؤلاء (الرؤوس) لا بد أنهم مميزون عن عامة

الناس بنوع من علم وإلا ما اتخذوهم رؤوساً، ثم تكثر حاجة الناس أكثر ويتناقص

عدد العلماء أكثر بالوفاة أو بالانصراف عن التعلم فينزل الناس (بمعيار العالم) في

اتجاه الجهل، فتصبح (الرؤوس الجاهلة الأولى) درجة رفيعة في العلم! ...

وهكذا حتى يكون العالم عند الناس رأساً في الجهل إذا نسبناه إلى العلم الحقيقي، أو

بمعنى آخر: يكون ضوء الشمعة الصغيرة عند الناس بمثابة نور الشمس الساطع.

ومن هنا ندرك أنه ينبغي على كل ملقٍ (كاتب أو متحدث) ألا يتيه ويُعجب

بما يأتيه من ثناء ومدح على ما كتب أو ألقى؛ بل عليه أن يعرف قدره وقدر

إخوانه وقدر ما ينبغي أن تكون عليه إمكانات وقدرات من يتصدى لمثل هذه المهمة؛

فرواج ما كتبه أو ألقاه يعني أن ضوء الشمعة يسطع ليس إلا، وهو قد يعني من

جهة أخرى أنه ما سطع إلا لأن حلكة الظلمة شديدة ومساحتها واسعة.. أقول هذا

وأنا أول المتهمين لنفسي، لا تواضعاً ولكن ذكراً للحقيقة ليعلمها من يجهلها،

ويتذكرها من غفل عنها.

فإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فما الذي أقحمني في هذا المنزلق فأركبني هذا

المرتقى؟

أقحمني أني رأيت مَنْ هو أجهل مني يتصدى ويتصدر ويغوص ويلوص في

كل مسألة، غير عابئ بأثر الكلمة، وغير مقدر لما ينبغي أن يكون عليه من يتبوأ

هذا المقام؛ فقناعتي الشخصية كانت وما زالت أن كثيراً مما يلقى ملفوظاً أو مكتوباً

خاصة في صفحات الجرائد والمجلات لا يستحق ثمن المداد الذي طبع به، ولا

الوقت الذي بذل في إخراجه ثم في سماعه أو قراءته، وأنه لم يأخذ قوته وقابليته إلا

من كونه مادة مسجلة أو حروفاً مطبوعة، بل إني على قناعة بأن بعض المستمعين

والقراء يستطيع إلقاء أو كتابة بعض المواد التي لا تقل (حسناً) عما تلقيه أسماء

لامعة، إذا صقل هؤلاء المتلقون مواهبهم وامتلكوا الجرأة على التعالم والتفيهق!

ووجدوا الفرصة والتشجيع من أولي الأمر الفكري والثقافي!

إذن: فما المطلوب من الملقي (أو العالم) والمتلقي (أو المريد) ؟

المطلوب في رأيي من الملقي:

أن يتخلى عن غروره وثقته المفرطة بنفسه، ويعرف قدره، وأن يتخلق بأدب

القرآن: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء: ٣٦) ، فهكذا عرفنا

(العلماء) من سلفنا الصالح، لا يتورعون عن قول: (لا أعلم) ولا يجدون فيها

منقصة البتة، أما في أزمان الظلمات فلا توجد هذه العبارة في قاموس المسطِّرين

والمتحدثين، وانظر إلى قول ابن عبد البر رحمه الله: «صح عن أبي الدرداء أن

(لا أدري) نصف العلم» ، وسلوك الإمام مالك بن أنس رحمه الله: «قال الهيثم

بن جميل: سمعت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين

منها بـ (لا أدري) » [٦] ، ثم انظر إلى حال واقعنا العلمي والثقافي لتعلم الحقيقة،

وهي أنه كلما ازداد علم العالم اتسعت دائرة (لا أعلم) ، وكلما نقص علمه تآكلت

دائرة (لا أعلم) ؛ لأن الأول يعلم عمق بحر العلم وامتداده، والآخر يظنها البقعة

التي يرى لا غير!

ومطلوب من الملقي أيضاً أن يعمل على رفع الوصاية الفكرية وإنهاء

الحضانة الثقافية عن قرائه وتلامذته، إن لم يكن حرصاً منه على إيصالهم إلى

البلوغ الفكري والعلمي وانتفاع الدعوة بهم، فإبراءاً لذمته وتخفيفاً للمسؤولية الملقاة

على عاتقه بتحمل تبعات انسياقهم الأعمى خلفه.

أما المتلقي والمتعلم فمطلوب منه عدة أمور:

مطلوب منه أن يستخدم ما ميز الله به الإنسان عن غيره، أن يستخدم عقله

في التفكير والتمييز والتمحيص والسؤال، والسعي الدؤوب نحو تنمية ملكاته

وتنشيطها واستثمارها.

ومطلوب منه التوازن بين الإقبال على السلوك المستنبط من قوله تعالى:

[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: ٤٣) ، وقوله تعالى: [وَلَوْ

رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء:

٨٣) من جهة، والفرار من سلوك أهل الضلال المذكور في قوله تعالى: [اتَّخَذُوا

أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] (التوبة: ٣١) من جهة أخرى، فمقتضى

العبودية لرب العالمين أن تقف محايداً من كلام البشر وأفهام البشر، وألا تقبل منهم

أو ترفض إلا ببرهان أو بينة تصلهم بالنور النازل من السماء، أو بحجة العقل

ورصيد الخبرة ... هكذا تربى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنهم

كانوا يناقشونه صلى الله عليه وسلم (نقاش استفسار لا اعتراض) عندما يرون في

كلامه أو أفعاله ما لا يتفق مع الأصول التي تعلموها منه؛ فعن أنس رضي الله عنه

قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً!

قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق

يديه» [٧] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «صلى بنا النبي صلى الله

عليه وسلم الظهر ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ووضع يده

عليها، وفي القوم يومئذ أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وخرج سَرَعَانُ الناس،

فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه ذا

اليدين، فقال: يا نبي الله! أنسيت أم قَصُرَتْ؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر،

قالوا: بل نسيت يا رسول الله! قال: صدق ذو اليدين، فقام فصلى ركعتين..» [٨]

وقصة تأبير النخل معروفة مشهورة.

والحياد تجاه كلام البشر وأفهامهم ليس فقط مقتضى العبودية لله عز وجل بل

مقتضى العقل الراجح؛ فالعاقل لا يعرف الحق بالرجال، بل يعرف الحق فيعرف

أهله، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أوْلى بها.

وعليه: فمطلوب ثالثاً من المتلقي أن يكون كالنحلة تدور على الأزهار

لترتشف من كل زهرة رحيقها، وفي الوقت نفسه: تتجنب شوكها؛ ثم تخرج عسلاً

فيه شفاء للناس، فينبغي أن يقف هذا المتلقي غير مسبق النظرة في نقطة الصفر

الحيادية: لا يقبل من أحد بالكلية غير المعصوم صلى الله عليه وسلم ولا يرفض

من أحد بالكلية، إلا ما دل على قبوله أو رفضه برهان أو بيِّنة؛ فليس في عالم

البشر خير محض ولا شر محض.

أخي القارئ.. تذكر دائمًا: أنك إذا كنت عاقلاً فأنت مكلف، وإذا كنت مكلفاً

فأنت مسؤول.

الآن انتهيتُ، فهل اقتنعتَ؟ أعد القراءة في ضوء أن كاتب المقال من

الرؤوس الجهال! ! .. فكِّر، ميِّز، قارن، ناقش.. لقد أبرأت ذمتي ... الشكوى

لله!


(١) أخرجه ابن ماجة، ك/ الفتن، ب/ ٢٦، والحاكم في مستدركه، ٤/٤٧٣، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/ ٨٧.
(٢) أخرج البخاري، ك/ العلم، ب/ ٣٤، ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد بن حنبل.
(٣) انظر كلاماً نفيساً للحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: ١٣/٣٠٠.
(٤) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، ك/ العلم، ب/ ٤٢، وعبد الرزاق في مصنفه ١١/ ٢٥٤، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (١/٢٠١) أن الحديث أخرجه البزار عن عائشة رضي الله عنها، وقال: «فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، ووثقه عبد الملك بن سعيد بن الليث» .
(٥) قال الإمام أحمد رحمه الله: «ولا ينبغي أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: الخامسة: معرفة الناس» ، انظر: إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله، ٤/ ١٥٢.
(٦) سير أعلام النبلاء للذهبي: ٨/٧٧.
(٧) متفق عليه.
(٨) متفق عليه.