للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[نظرات في العقيدة القتالية في الإسلام]

محمود سلطان

في كتابه «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» يشير الباحث المغربي محمد

عابد الجابري، إلى أن «النهضة العربية الأولى التي انطلقت بظهور الإسلام،

لتفتح البلدان المجاورة، ولتشيد حضارة عربية إسلامية متميزة، إنما قامت بعد أن

استنزفت الحرب الطويلة كلاً من دولة الفرس، ودولة الروم» ! ! أو لسبب آخر

هو ما أسماه الجابري بوجود «ما يشبه الفراغ السياسي في المنطقة» [١] .

والجابري إذ يؤكد على ذلك فإنه يرفض أن تكون لمنظومة القيم الإيمانية التي أصَّلها

الإسلام في وجدان المقاتلين دوراً في الفتوح الإسلامية.

والجابري ليس استثناءاً؛ إذ إن نفراً من الباحثين العرب العلمانيين يذهبون

إلى ما يذهب إليه [٢] . ولعلنا نسأل: هل هذه هي الحقيقة الوحيدة في نهضة

الماضي كما يزعم المبطلون؟ ! إنه لمن الثابت أن العقيدة القتالية في الفكر

العسكري الإسلامي ترتكز إلى تضافر ما يسمى بـ «الشروط الموضوعية» أي

فهم واستيعاب أبعاد الواقع «الجيو سياسي» الذي ستدار المعركة في كنفه مع

«الشروط العقائدية» ، أي المخزون الإيماني المتجذر في الوجدان الجمعي للأمة

والذي يجعله الإسلام العامل الأكثر حسماً في توجيه مسارالحرب إما نحو النصر،

وإما نحو الهزيمة.

ولئن كان الخطاب القرآني يعلي من شأن الشرط الموضوعي: [وَأَعِدُّوا لَهُم

مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ] (الأنفال: ٦٠) . وكذلك كان النبي صلى

الله عليه وسلم القائد مؤصلاً لهذا المفهوم على الصعيدين السياسي والعسكري حين

أبرم عقود البيعة «بيعة العقبة» وعقود الصلح «صلح الحديبة» ، وفاوض قادة

«غطفان» و «نجد» في غزوة الأحزاب، واختار موقع نزول الجيش يوم

«بدر» بعد إعمال أساليب استثمار الخصائص البيئية والجغرافية للموقع عسكرياً

امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» [٣] ، بل

إن كتب السيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بعمليات جمع وتحليل

المعلومات عن العدو؛ إذ استجوب صلى الله عليه وسلم غلامين من «سقاة قريش»

أسرهما نفر من أصحابه كانوا يلتمسون الخبر له عند ماء بدر، ويسجل ابن

هشام الاستجواب على النحو الآتي: «قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:» كم

القوم؟ «قالا: كثير، قال:» ما عدتهم «؟ قالا: لا ندري، قال:» كم ينحرون

كل ليلة؟ «، قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً» ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«القوم فيما بين التسع مئة والألف» [٤] ، ونحو ذلك من الوقائع التي تعكس إعلاء

الخطاب السياسي الإسلامي في عهد النبوة من قيمة «الاعتبارات الموضوعية»

المؤثرة في حاضر ومستقبل الجماعة المسلمة، ولئن كان الأمر كذلك، فإنه في

الوقت نفسه، يرفض الاعتقاد بأنها «المعيار» المطلق، أو «القيمة» المثلى

التي يستند إليها في استشراف ما ستؤول إليه الأوضاع بعد أن تضع الحرب

أوزارها.

والتراث العسكري الإسلامي يحتفظ لنا بتجربتين تعكسان فساد الرؤية

المرتكزة على «الأرقام» والحسابات «العقلية» وحسب في تأطير مقومات

النصر من جهة، وأسباب الهزيمة من جهة أخرى: الأولى «يوم بدر» ؛ إذ كان

المسلمون كما وصفهم القرآن آنذاك «أذلة» في إشارة إلى ضعف العدد والعدة

والحصار الحديدي الذي فرضته قريش سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على المسلمين

والمدعوم بحقد وكراهية القبائل الأخرى المنتشرة بطول الجزيرة العربية وعرضها،

ومع ذلك كان النصر حليف هذه الفئة المستضعفة: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ

أَذِلَّةٌ] (آل عمران: ١٢٣) ، والثانية «يوم حنين» إذ كان التفوق العسكري

لصالح المسلمين «اثني عشر ألف مقاتل» والمدعوم بصعود معنوي هائل بلغ

الذروة إثر فتح مكة وإخضاع «قريش» القوة العسكرية الرئيسة في الجزيرة

لسلطة الدولة الإسلامية الوليدة، ورغم ذلك لحقت بهم الهزيمة في بادئ الأمر:

[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ

ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] (التوبة: ٢٥) .

ومن هنا فإن العقل العسكري الإسلامي شديد الخصوصية والتميز عن نظيره

المصاغ وفق معايير ونظم مادية إلحادية محضة؛ إذ إن الأول ينزع إلى رفض

الانصياع الكامل لسلطة التفوق العسكري بوصفه شرطاً ينفرد وحده في توجيه مسار

الحرب؛ إذ إنه يؤمن بأن إلحاق الهزيمة بالعدو ليس مناطاً بالفلسفة الكمية وحدها،

ولكنه مناط بربط الأخيرة بهذا الثابت القرآني الخالد: [ِإن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ

وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: ٧) . فهو يجمع بين ما هو موضوعي «التوظيف

الاستراتيجي للواقع» وما هو إيماني في عقيدته القتالية، وهو ما يفسر انتصاراته

الساحقة والمتلاحقة حتى وإن كان يتبوأ موقع «الاستضعاف» وعدوه يتبوأ موقع

«التمكين» [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ

النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ] (الأنفال: ٢٦) ، والتأييد من قِبَل الله مرهون

باستيفاء ما أشار إليه القرآن والسنة المطهرة من شروط، والتي يمكن إجمالها في

أن تستقي الحرب مشروعيتها من إعلاء كلمة الله، وإخلاص النية في ذلك، وفق

الضوابط الأخلاقية التي أصَّلها الإسلام فيما يمكن تسميته بـ «فقه الحرب» .

والتأييد يأتي في شكل قانون من نمط آخر يتعالى على ما هو مألوف في حياة

البشر من قوانين يفكك الثابت من النقائض، ويعكس ما تشير إليه من دلالات وهي

على حالها، معلناً أكذوبة عبادة «القوة» أو عبادة «الآلة» العسكرية أو أنها

تكفل وحدها إحراز النصر: [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي

أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ] (الأنفال: ٤٤) .

ولذلك كان المفكر الفرنسي «روجيه جارودي» وقبل أن يشهر إسلامه شديد

الوعي بهذه التجربة العسكرية الإيمانية الفريدة؛ إذ نجده يقول: «إن انتشار

الإسلام لا يشابهه أي انتشار سبقه أو أتى بعده، من غزوات كانت يقوم بها بدو

آسيا، وكذلك من احتلال قام به الأوروبيون لغزو البلاد الضعيفة بالمدفع والبندقية

والرشاش، فلم تكن الجزيرة العربية آهلة بالسكان، ولم يمتلك العرب مثل ما كان

في بلاد فارس أو ييزنطة من الأسلحة والتقنيات العسكرية؛ فالإمبراطورية

الإسلامية إذاً لم تقم على مبدأ القوة الذي يمنحها تفوقاً عسكرياً ساحقاً، ولا يمكن

فضلاً على ذلك تطبيق أي من النظريات ذات المنحى الماركسي الضيق والموجز

التي تحاول أن تبحث عن سبب التاريخ وثوراته وتحولاته قياساً على التقنيات

والعلاقات الاقتصادية وصراعات الطبقات التي تنشأ عنها» [٥] .

ثم يقر جارودي بما سبق أن أشرنا إليه حين يقول: «إن هذا التوسع

الإسلامي السريع، والذي أدى غداة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خلال اثني

عشر عاماً من عام ٦٣٣ ميلادية حتى عام ٦٤٥ ميلادية إلى تثبيت تفوق المسلمين

في فلسطين وسوريا وما بين النهرين ومصر، وهو انتشار لم يستطع إيقافه إلا

العوائق الطبيعية فقط كسلاسل الجبال في آسيا الوسطى وفي إيران الشرقية

وصحارى سيرتيابيك والنوبة. إن سبب هذا الانتشار السريع يرجع إلى أسباب

داخلية مرتبطة بجوهر الإسلام نفسه ولا يمكن تفسيره بأسباب خارجية أو حتى

بضعف أو تفكك الإمبراطوريات المهزومة مثل الرومانية في الشرق، والفارسية

وقبائل القوط الجنوبية في آسيا الوسطى ولا حتى لأسباب عسكرية فقط» [٦] .

ومن ثم فإن محاولات «مركسة» التاريخ الإسلامي (التفسير الطبقي للفتوح)

أو علمنته «تهميش الدور الطليعي للدين في نهضة الماضي» إنما ينطلق عن

وعي يفتقر إلى الحس التاريخي الناضج القادر على سبر غور الحقائق التاريخية

أنها رؤى تتخذ من «الظاهر» فقط مادتها التحليلية. وصدق الله تعالى حيث يقول:

[يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: ٧) .


(١) محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، يونيو ١٩٨٩، ص ٢٤، ٢٥.
(٢) يقول د عبد المنعم ماجد إنه «لا يوافق بعض المستشرقين في قولهم إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الديني، فمن غير المعقول أن يخرج البدوي وهو لا يهتم بالدين لنشر الإسلام» انظر كتابه التاريخ السياسي للدولة العربية، الطبعة الرابعة، الأنجلو المصرية، ١٩٧١م، ص ١٣٦.
(٣) انظر: مرويات غزوة بدر، ص ١٦٤ ١٦٥.
(٤) راجع ابن هشام، ج ٢، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، ١٩٩٠م، بيروت، ص ٢٥٩، ٢٦٠.
(٥) روجيه جارودي، الإسلام دين المستقبل، ترجمة عبد المجيد بارودي، دار الإيمان للطباعة والنشر، بيروت، دمشق، ب ت، ص ٢٤.
(٦) المصدر نفسه، ص ٤٠، ٤١.