للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

علم النفس

دوافع الفرد

بين المنهج الإسلامي والفكر الغربي

طارق عبد الحليم

لا شك أن المسلمين اليوم هم أحوج ما يكونون للنظر في تلك القواعد والأسس

التي تبنى عليها مناهجهم، والتي تمثل القالب الفكري الذي تعالج من خلاله

مشكلاتهم، وتواجه به التحديات الحضارية المحيطة بهم.

وهذه الحاجة ليست نابعة من التشكك في تلك الأسس والقواعد، فهي أمور قد

بنيت على قطعيات الشريعة من الكتاب والسنة، وما استخلص منهما، وهي من ثمَّ

غير قابله للنقض ولا متعرضة للنقص.

كما أن تلك الحاجة ليست ناشئة من مركب نقص؛ يواجه تلك الهجمة الغربية

التي تتهم كل ما لدى المسلمين من معطيات، فنحاول بالدعاوى أن نؤكد أن ما لدى

المسلمين هو الصواب وهو الحق، كما يفعل بعض الناس؛ بل إن الحاجة لمراجعة

تلك القواعد والأسس نابعة من ضرورة أن يتعرف المسلمون أنفسهم على قوة

وعظمة تلك الشريعة الغراء ثم أن يتعرفوا على مواضع تلك العظمة بالدليل والحجة، لا بمجرد الحديث والدعوى.

وحتى تؤتي تلك المراجعة ثمارها، فلا بأس من أن نقابل تلك الأسس

والقواعد بما يقابلها مما أفرزته قرائح البشر، وهدت إليه عقولهم، وأنتجته

سلوكياتهم وأخلاقهم بمعزل عن الهدي الإلهي، فيميز الصواب من الخطأ ويمحص

الحق من الباطل، وكما قيل (بضدها تعرف الأشياء) .

من هذا المنطلق، رأينا أن نقدم في مقالنا هذا مقابلة-ولا أقول مقارنة - بين

نظرلتين في مسألة من أهم المسائل التي تنبني عليها التصرفات الإنسانية، ومن ثم

توجه النشاط البشري خلال حضارة من الحضارات ... وهي مسألة (دوافع الفرد)

التي يسعى لتحقيقها خلال سني عمره، بالنظر في تلك المقاصد التي قررتها

الشريعة، ودونها علماء أصول الفقه، ومقابلة ذلك بما قرره أحد كبار العلماء في

علم النفس الفردي، هو (إبراهام ماسلو) ، والذي قدمه في صورة نظرية في

الدوافع البشرية عام ١٩٥٤ في كتاب (الشخصية والدوافع الإنسانية) ، وهي

النظرية التي تحكمت إلى حد بعيد في فكر كل من تناول موضوعها من بعده من

العلماء أمثال: هيرتز بورج (١٩٥٩) ، والدرفير (١٩٧٢) .

متسلسلة (ماسلو) في الدوافع الإنسانية ومقاصد الفرد:

قدم (إبراهام ماسلو) نظريته في دوافع الإنسان للمرة الأولى عام١٩٤٣ في

مجلة (المراجعات السيكلوجية) ثم فصلها بعد ذلك في كتابه (الشخصية والدوافع

الإنسانية) في عام ١٩٥٤، الذي طبع في أمريكا.

وفي هذه النظرية يفترض ماسلو أن الإنسان إنما يتحرك في حياته من خلال ... (احتياجات) مادية ونفسية معينة، تمثل الحافز القاهر الذي يجعله يطلب تلك ...

الاحتياجات ويسعى لتحقيقها واحدة تلو الأخرى.

وقد وضع ماسلو تلك الاحتياجات الإنسانية التي تدفع الفرد أمامها، على هيئة

متسلسلة تتكون من خمس حلقات أو طبقات تمثل كل منها نوعين من الاحتياجات

المادية أو المعنوية، فالفرد - كما يرى ماسلو-يبدأ بالبحث لتلبية الحاجات المادية

الأولية التي تحفظ عليه الحياة، وهي الحاجات الطبيعية (Physiological

Needs) من المأكل والمشرب وهي (الاحتياجات الدنيا) فإن تحققت ... تلك الاحتياجات انتقل الفرد إلى المستوى التالي لتحقيق ما أسماه ماسلو بالحاجات الأمنية (Security Needs) وهي المسكن والدخل المقبول الذي يكفل الاستمرارية، وفي المستوى الثالث يسعى الفرد لتحقيق حاجاته الاجتماعية (Social Needs) لتكوين العائلة واتخاذ الأصدقاء وممارسة الحياة الاجتماعية بأشكالها المتعددة، فإذا تحققت الحياة الاجتماعية بقدر مرضٍ، انتقل الفرد إلى طلب ما هو أعلى، فيسعى لتحقيق حاجات معنوية واقعية كاحترام النفس، وتحقيق الذات، والإحساس بالتقدير والنجاح، وسمو المكانة، والاستقلالية ... فإن بلغ ذلك ارتقى إلى المرحلة النهائية والتي يهدف فيها إلى إبراز طاقاته الكامنة كفرد مبدع، والحرص على الترقي ومداومة التقدم، وتظهر هرمية ماسلو في الشكل المرفق:

...

وقد ذكر ماسلو أن عملية الانتقال من مستوى إلى آخر في هذه الهرمية لا يتم

إلا إذا أشبعت الحاجات المتعلقة بهذا المستوى، بمعنى أن الفرد لا يسعى لكسب

احترام، المجتمع أو لتحقيق روابط اجتماعية مالم يحقق حاجة الطعام والشراب

والسكن. وتجدر الإشارة إلى أن تلك النظرية التي تعالج الدوافع النفسية لدى الفرد، إنما هي - كما يظهر من مضمونها - وليدة الفكر الغربي الذي يجعل (الفرد)

ومصلحته العليا أولى بالتقدمة؛ إذ هو الوحدة الاجتماعية الأولية (لا الأسرة كما في

المجتمع الإسلامي) ، ونجاح الجماعة إنما يهدف أولاً إلى تحقيق صالح الفرد، وإلا

فلا عبرة ولا دافع له كي يساهم في التقدم الجماعي، فالفرد في (الغرب) إنما

يحترم الجماعة ويعمل طائعاً في إطارها لأنه يعلم بفطرته وبخبرته خلال القرون أن

تلك هي الوسيلة الناجعة لتحقيق صالحه هو ... من خلال الجماعة، كذلك فإنها

نظرية يمكن أن يقال إنها (وصفية) ؛ أعني هي تصف واقع الفرد كما هو كائن،

ولا تعالج الطموح إلى الترقي أو السمو بالحاجات، وتقديم ما هو أنفع على غيره

كما إنها-بطبيعة الحال - تعالج مقاصد الفرد ودوافعه في حيز الحياة الدنيا، إذ ليس

لدى القوم كبير اهتمام بما عساه يكون في عالم الغيب، وما يتطلبه ذلك الأمر من

ضرورة دافعة تجعله يسعى قاصداً لتحقيق احتياجات محدودة تعين على بلوخ غايته.

مقاصد الفرد في المنهح الإسلامي:

في مقابل تلك النظرية الغربية في (الدوافع Motivation) يمكن للناظر في

أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها الكلية أن يستنبط نظرية في (الدوافع) التي

تحرك الفرد المسلم وتوجه حركاته وسكناته، ذلك أن بواعث المسلم ودوافعه تنبع

من تلك الفطرة المخلوقة السوية، التي لم يفسدها الانحراف أو الضلال، تلك -

الفطرة التي تتلقى المنهج الإلهي المقرر، الذي فصلت جزئياته في الشريعة،

فيصوغ لها قالبها النفسي الذي تتحرك من خلاله في حياتها الدنيا. فالمسلم إذن حين

يتحرك من خلال تلك الشريعة، وفي قالبها ذاته، إنما تتناغم بواعثه ومقاصده مع

ما تهدف إليه الشريعة وتقصده ... فمقاصد الشرع - في الإسلام - هي بشكل عام،

(مقاصد الفرد المسلم) ، وهي دالة بطريقة اللزوم على بواعثه ودوافعه، إذ العلاقة

بين دوافع الفرد ومقاصده هي علاقة الفرع بأصله، وهي علاقة موجبة طردية،

وإن لم يكن محل الحديث عن هذه العلاقة بشكل أوسع في هذا المقام، فإننا أردنا أن

نبين أننا اتخذنا من، مقاصد الشرع [١] قواعد تهدي إلى (بواعث الفرد) في

النظرية الإسلامية.

ينبعث الفرد المسلم في حركاته وسكناته ساعياً نحو تأمين حاجته من متطلبات

خمس رئيسية، تدور حولها سائر حاجاته الإنسانية وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وهذه الحاجات الخمس هي التي تبعث الفرد على إتيان أعمال

محددة لحفظها ومنع زوالها، إذ بها تتحقق أقصى مصالحه على وجه الكمال، سواء

في الدنيا أو في الآخرة،. كما أنه بعدمها يتعرض للتلف الآجل أو العاجل.

فلا عجب أن يكون الحرص على تحقيقها ومنع فواتها، هو الدافع الأصيل ...

للفرد منذ أن يبدأ وعيه وحتى النهاية، فالحرص على (الدين) هو الباعث الأول

للفرد، إذ به تتحقق هويته البشرية من حيث هو عبد لله الخالق، كما ينال ما يتمنى

من السعادة الأبدية في الآخرة.

والحرص على النفس هو كذلك أمر فطري يندفع إليه الناس دون حاجة للتعلم

أو التوجيه، والحرص على العقل دافع أصيل لدى الإنسان من حيث يحقق له

القدرة على السيطرة على مقدراته، والسعي نحو حماية الأهم من النفس أو الدين،

وحفظ النسل، الذي يؤمن للفرد شعور الاستمرارية والدوام. ورعاية النبتة التي

تحفظ له اسمه ووجوده، يمثل ولا شك دافعاً قاهراً للمرء ليحقق ما به قوام تلك

الحاجة الأساسية الأصيلة، والمال الذي هو زينة الحياة الدنيا، دافع حقيقي للمرء،

يعينه على إبقاء النفس ورعاية النسل، وإعلاء كلمة الدين.

وتختلف تلك الحاجات، في شدة أثرها على بواعث الفرد ودوافعه، قوة أو

ضعفاً، حسب رتبة العمل المقصود، في تلك الحاجة المحددة، فإما أن يكون الأمر

ضروري، فيقوى الباعث عليه حتى لا يفتأ المرء يسعى لتحقيقه ليل نهار، سراً

وعلانية، لا يجد راحة حتى يدركه، إذ كيف يتركه وهو أصل لا تستقيم الحياة -

الدنيا أو الآخرة - بدونه! أو أن يكون أمر حاجي، يرتفع به ضيق الحياة، وهي

من ثم دوافع تستحق السعي والطلب، مالم تعارض في هذا السعي بضرورة أولى

بالتقدمة، تبعث النفس على تحصيلها بعثاً. ثم أخيرًا تلك الأمور التي تسبغ على

الحياة سعتها، وتستدعي استكمال رفاهيتها ورغدها، وتحسن وجه الحياة في كافة

مناحيها، وهي لا شك دوافع للمرء تحفزه على طلبها إذ تحقق باستكمالها ما به

ضرورات بقائه، وحاجيات حياته.

وأخيراً، فإن قوة الباعث على تحصيل تلك الحاجات، تتوقف على أمور

ثلاثة أخرى، تتعلق بأثرها؛ أهي على الفرد أم الجماعة؛ أهي شاملة أم محدودة

في جزئية معينة، ثم أهي متحققة الوقوع أم موهومة، فما هو للجماعة، تميل نفس

الفرد إلى تفضيله عما فيه فائدة شخصية، وما هو شامل مقدم على ما يعالج جزئية

محددة، ثم ما هو متحقق الوقوع، لا شك فيه، تميل النفس إلى السعي نحوه أكثر

مما هو متوهم، لا يعلم: حقيقة هو أم خيال! .

من خلال ذلك العرض الموجز، لما عساه يكون قالباً للنفسية الفردية السوية،

في بواعثها ودوافعها نحو تحقيق أعمال تحقق صالحها ورضاها وتشعرها بالكفاية

والسمو الداخلي، تتم المقابلة التي أردنا إليها أولاً. ونلحظ من مقابلة تلك الحاجات

التي تمثل القالب النفسي للفرد في النظرة الإسلامية، بما قدمناه آنفاً من نظرية

الدوافع لماسلو، ذلك الفارق الشاسع سواء في هيكلها أو فرضياتها الأولية أو دقتها

وسعتها.

فالنظرة الإسلامية لدوافع الفرد تتميز بإحكام بنائها، وإحاطتها بكافة ما يعتمل

في النفس الإنسانية من عوامل، كذلك دقة تقديم الأوليات، حسب ما أدت إليه

التجربة البشرية على مدى الزمان والمكان.

وقد اعترض الكثير من الغربيين أنفسهم على متسلسلة ماسلو من حيث هي أغفلت أن الفرد في كثير- بل جل - عمله وحياته يقدم نفسه وحياته أمام حفظ كرامته أو معتقده، وأن الدراسات التطبيقية لم تدعم ذلك التسلسل المذكور.

كذلك فإن هذه النظرة تضع الفرد في محله الصحيح من الجماعة، من حيث

إن أفعاله تنبعث من الحاجة إلى تحقيق صالح الجماعة أولاً ... ثم صالحه من حيث

هو فرد فيها ثانياً، لا العكس كما ذكرنا عن النظرة الغربية الرأسمالية، ولا الترف

الشيوعي الذي يسخر الفرد لصالح الجماعة - في زعمهم - لا غير.


(١) راجع الموافقات للشاطبي ٢/٨ وما بعدها.