للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

أمة حيّة.. أمة ولاّدة

يرى بعض الباحثين في التاريخ الإسلامي أن انفصال السلطة عن الأمة في

الدول الإسلامية المتعاقبة لم يكن سيئاً من جميع جوانبه؛ إذ إن التقلبات

والاهتزازات التي كانت تصيب أنظمة الدولة نتيجة فقدان السمة المؤسساتية فيها لم

يكن يطول الأمة المسلمة التي كان لها آلياتها الخاصة ومؤسساتها المستقلة والمتنامية،

كنظم القضاء والتعليم والأوقاف والجهاد في سبيل الله والحسبة، ولذلك «فإن

حضارة أمم الإسلام ظلت حية نشطة معظم الوقت تقريباً» [١]

ومنذ دخول الأمة في نفق الغثائية وانقضاض القوى المتربصة بها عليها

يحرص أقطاب هذه القوى على قياس «درجة الحياة» في الأمة المسلمة من حين

إلى آخر، وذلك بالقيام بعمليات «جس نبض» مدروسة ومخطط لها بعناية

لشعوب هذه الأمة، وبناءاً على طبيعة «رد الفعل المعاكس» الصادر من هذه

الشعوب يعرفون الواقع الحقيقي وليس المفترض الذي تعيشه هذه الشعوب، من

جهة وعيها وتصوراتها وأفكارها وعواطفها وإرادتها، ومن ثم: يضعون خطواتهم

القادمة بناءً على تصور واقعي وليس متخيلاً لما وصلت إليه هذه الشعوب، ومن

هنا ندرك الأهمية القصوى للدور الحيوي الذي تلعبه هذه الشعوب أفراداً

ومجموعات في معركة الصراع الذي تعيشه أمتنا مع أعدائها.

ولعل من عمليات جس النبض هذه ما قام به مؤخراً مجرم الحرب الصهيوني

(شارون) ، عندما قام بزيارة اقتحامية منظمة ومعد لها سلفاً للمسجد الأقصى

المبارك، ظانّاً هو ومن وراءه أن الصمت البادي من الشعوب الإسلامية المغلوبة

على أمرها صمت أبدي، وفي أقصى الحالات لن يكون صراخ هذه الشعوب إلا

أنيناً يدل إن خرج على احتضار الفريسة، وهذا ما صرح به شارون نفسه عندما

قال: (إنه كان يتوقع ردود أفعال، ولكنه لم يتصور أن تكون ردود الأفعال بهذه

القوة) !

نعم.. جاءت ردود الأفعال قوية على غير المتوقع من الشانئين، بل من كثير

من المتفائلين والمتعاطفين، جاءت تمزق شهادة الوفاة التي كان يُعِدُّها أعداء هذه

الأمة لها، لتكتب من جديد شهادة بالدم أن هذه الأمة بحمد الله حية لا تموت، وأن

حبل اتصالها التاريخي غير منقطع؛ لأنها ببساطة أمة الشهادة على الناس، ولأن

حضورها مستمر حتى قيام الساعة. [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ

عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: ١٤٣)

لم تكن قوة رد الفعل وحدها ما يلفت النظر، بل حملت التحركات الشعبية

المتوالية عدة دلالات رمزية لا تُغفَل ولا يستهان بها، من ذلك:

- ارتباط هذه التحركات في مجملها بالرموز الإسلامية، سواء أكانت مساجد،

أو شخصيات إسلامية التوجه ذات مكانة علمية أو دعوية عند الناس، أو في

صورة تبني الشعارات الإسلامية الواضحة، وفي ذلك دلالة على أن روح هذه الأمة

وشخصيتها المستقلة المتميزة مرتبطة بإسلامها.

وهذا يؤكد واجب العلماء والدعاة في ريادة الأمة وتوجيه مسيرتها، فَهُم قلبها

النابض، ودمها المتدفق.

- انتشار هذه التحركات من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه، بل تعديها إلى

الأقليات الإسلامية التي تعيش في الغرب، ولا يقل عنها دلالة انتشارها بين

فلسطينيي (٤٨) ، ليؤكد جميع هؤلاء للعالم أن هويتهم الحقيقية هي الإسلام،

وليؤكدوا أيضاً إخفاق مشروع الدولة القومية المعاصرة في القضاء على شعور

الوحدة والانتماء الإسلامي.

- وإذا كانت هذه التحركات ارتبطت برموز إسلامية، إلا أن المتحركين

الفعليين لم يكونوا جميعاً أصحاب توجه إسلامي عقائدي، بل كانوا في الغالب

أصحاب عاطفة إسلامية متأججة، بل لقد خرجت صيحات (الجهاد) أحياناً من

شخصيات وتجمعات محسوبة عادة على الاتجاه المعاكس للتيار الإسلامي، ولكنها

هنا اقتربت جداً من شعاراته وإن اختلفت معه في منطلقاته، وقد يكون دافعها إلى

هذا الاقتراب: إما العاطفة، وإما التقاء المصالح، وإما الانتهازية وركوب الموجة؛

وفي ذلك كله دلالة على يقظة الحس العام؛ وإن كان يحمل في طياته خطورة

الارتكاز على هذا الحس وحده، ولكن ينبغي النظر في كيفية توظيفه واستثماره.

- تعددت مظاهر هذه التحركات كل حسب موقعه وإمكاناته واستطاعته: من

مواجهات بطولية يومية للشعب المسلم الفلسطيني مع العدو في الداخل، وبذله لدمه

رخيصاً في سبيل المقدسات الإسلامية، إلى مظاهرات مليونية أو آلافية في بعض

البلدان، إلى مقاطعة أو محاصرة للرموز الغربية والأمريكية بما يشبه عمليات تأميم

شعبية، إلى تبرعات بالملايين للشعب المسلم الفلسطيني في الداخل مع التمييز

الواعي للجهة التي ستصلها هذه التبرعات، إلى تحركات فردية ذات دلالة عظيمة،

كالذي قام به الطفل المصري أحمد شعراوي بصورة عفوية عندما ترك أهله وسافر

وحده إلى الحدود المصرية الفلسطينية رغبة منه في مشاركة أطفال فلسطين في

انتفاضتهم.

ولكن هذه المظاهر على اختلافها أعطت دلالات قريبة من أهمها بخلاف

إظهار التعاطف والتآلف والوحدة:

-حق الشعوب الإسلامية في المقاومة وقدرتها على ذلك، وأن هذه الأحداث

الأخيرة رجعت بعقارب الزمن ثلاثين عاماً على الأقل في اتجاه يقظة الأمة،

وتقدمت بتلك العقارب أعواماً عديدة باتجاه وعي الأمة.

إن هذه الأحداث كما أنها تضيء بارقة أمل إلا أنها أيضاً تلقي بمزيد من

المسؤولية على عاتق من يريدون قيادة الأمة نحو فلاحها، ومن هذه المسؤولية:

البحث في كيفية توقع عمليات جس النبض والاستعداد لها والتعامل معها، وكيفية

الاستفادة من المظاهر السابق ذكرها، وأيضاً: كيفية سد النقص ومعالجة الأخطاء

التي قد تعتريها، وصولاً إلى ترشيدها.

فهناك تحديات كبيرة أمام هؤلاء؛ ومنها:

- ربط الشعوب الإسلامية بمنابع العزة والتمكين: كتاب الله تعالى وسنة نبيه

صلى الله عليه وسلم، وتربيتها على الجدية والعطاء، وإحياء روح الغيرة على

الشعائر والمقدسات الإسلامية.

- إدراك تنوع ميادين المعركة ووسائلها، والتي ليس من أقلها: الإعلام،

والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع.

- البحث عن وسيلة تجنبنا تحول حركة الشعوب إلى مظاهر سلبية قد تؤثر

عليها وعلى قضيتها.

- البحث في استنباط أساليب فعالة للمقاومة والضغط الشعبي، ووجود آليات

شعبية متاحة يستطيع كل فرد من خلالها تقديم العون لقضيته.

- كيفية اتساق هذه الأعمال والجهود في منظومة واحدة تخدم القضية.

- كيفية القضاء على الإحباط والفتور وانقطاع النَّفَس مع إعطاء هذه الأعمال

طاقة متجددة منتظمة ومستمرة (النفَس الطويل) .

- كيفية إخراج هذه التحركات بصورة مدروسة ومقصودة، وعدم الاكتفاء

بانتظار أن تكون رد فعل على استفزازات الآخرين، أو مجرد تحركات عفوية أو

فوضوية.

- كيفية نشر الوعي بهذه الأمور بين الأفراد ليستطيعوا توجيه مشاعرهم

وجهودهم وتوحيدها.

إننا في النهاية نذكِّر بأن هذه الأمة أمة حية، كما أنها أمة ولاَّدة، فيها من

الطاقات والإمكانات ما لا يستهان به إن أُحْسِنَ إخراجه وتوظيفه.

[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: ٢١) .


(١) د / حسين مؤنس، (الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها) ، ص ١٧٧.