للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حوار

[حوار مع الدكتور محمد الراوي]

أجرى الحوار: وائل عبد الغني

ضيفنا في سطور

* يعمل حالياً عضواً في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر بعد عمر

بارك الله فيه جاوز السبعين.

* تخرج في كلية أصول الدين جامعة الأزهر.

* خدم القرآن الكريم أستاذاً وخطيباً وإذاعياً.

* عمل قرابة ربع قرن أستاذاً ثم رئيساً لقسم التفسير بجامعة الإمام محمد بن

سعود بالرياض.

من مؤلفاته:

* الدعوة الإسلامية دعوة عالمية.

* كلمة الحق في القرآن الكريم موردها.. دلالتها.

* حديث القرآن عن القرآن.

* الرضا.

* الإنسان في القرآن.

البيان: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فأهلاً برجل

نحسبه من أهل القرآن ولا نزكيه على الله، ومرحباً بمن عَمُر عُمُرُه بالقرآن على

صفحات مجلتكم.. مجلة البيان.

فضيلةَ الدكتور! بما أنكم من المتخصصين في القرآن وعلم التفسير؛ فهل لنا

أن نسأل عن درس التفسير: لماذا لم يعد له رونقه وحضوره على الساحة الإسلامية

العامة كما كان من قبل؛ حيث حرك الدعوات وسيَّر الحركات، كدروس ابن

الجوزي وابن تيمية قديماً وابن باديس حديثاً؟

* من رحمة الله بالأمة الإسلامية أن حفظ هذا الكتاب، وهو القرآن وتكفل

بحفظه، ولم يدع حفظه لأحد من خلقه كما قال تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا

لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: ٩) .

من تدبر القرآن وكأنه نزل الآن فلا يحتاج إلى تكلف في فهمه ولا عسر ولا

مشقة، متى تفتحت له القلوب واستعدت النفوس، وتهيأ الجو المناسب لتوجيه الأمة

إلى العمل بكتاب الله؛ لأن التفسير الحقيقي للقرآن هو نفس القرآن؛ فالقرآن يفسر

بعضه بعضاً، والبيان إنما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما ثبت عنه

قولاً وعملاً وإقراراً.

إذا نظرنا للمسألة من هذه الناحية بالذات أدركنا أن هذا البريق لا يمكن أبداً أن

يضعف في يوم من الأيام، أما إذا كان التوجه للقرآن لأسباب شتى غير العمل به،

فهنا يمكن أن يردَّ ما قلت، أما عندما يراد العمل به فسيكون في متناول الجميع بلا

عسر ولا حرج ولا مشقة ولا تكلف؛ فالأمر كله مرتبط بالقرآن نفسه، ولا يمكن

أن يتبدل مع الزمان أو يغيب، كما قال تعالى: [قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ

مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ

بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: ١٥-١٦) . وقال: [إِنَّ فِي ذَلِكَ

لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: ٣٧) فهو نور وهداية

لمن فتح ملكاته واتبع سبيل ربه، والأمر لا يتوقف في هذا على المفسِّر وحده.

البيان: إذن كيف ترون الأمر؟ لأن هناك مشكلة بلا شك في عدم تمحور

الناس حول كتاب الله تعالى كما كانوا من قبل، وأحسب أن درس التفسير ذا القبول

العام يمكن أن يعيد الناس إلى الجادة؛ فلماذا اندرس إذن؟

* صدقني المشكلة ليست في درس التفسير بقدر ما هي مشكلة الناس! الناس

اتخذوا هذا القرآن مهجوراً؛ وهذا القرآن لا يمكن أبداً أن يعطي من اتخذه مهجوراً،

ولا أعني بالهجر مجرد قول المشركين: [لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ

تَغْلِبُونَ] (فصلت: ٢٦) .

وإنما هجره بالبعد عن تحكيمه واتباعه كما يجب أن يكون، واتباع الأهواء؛

فتدبر معي قوله تعالى: [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ

أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]

(القصص: ٥٠) .

هذا هو شأن القرآن نزل ليُتدبر وليعمل به، ومتى غاب التدبر والعمل يصبح

الكلام عن القرآن كلام تعالم وبحوث تُملأ بها الأدراج وتؤخذ عليها الشهادات،

فيصبح الناس في وادٍ والقرآن في وادٍ آخر.

البيان: ولكن المشكلة كما تقولون فيمن يبلِّغ هذا القرآن؟

القرآن في ذاته بلاغ، ومن فضل الله أنه يتلى على الناس صباح مساء حتى

من إذاعات الأعداء، ولكن المشكلة في الهجر؛ هجر الاتباع وهجر العمل به،

الحفَّاظ يملؤون الآفاق، وكليات القرآن وأقسام التفسير وعلوم القرآن كثيرة، لكن

القرآن نزل ليحكم سلوك الناس وروابطهم وأعمالهم؛ فهل يسمح له بذلك؟

البيان: لكن هناك حلقة أو حلقات مفقودة في ربط الناس بالقرآن، وأحسب

أن درس التفسير بمقوماته الناجحة والتي نسأل عنها يمكن أن يلعب دوراً كبيراً قد

لعبه من قبل في هذا الباب؟

* درس التفسير ليس هو كل شيء بعدما أصبحت الوسائل الآن أمام نظر

الناس متعددة ومتنوعة في جميع الاتجاهات.

والمشكلة التي ينبغي أن تُبحث هي: كيف نجعل هذه الوسائل على اختلافها

خادمة لرسالة القرآن في جعله موجهاً لحياة الناس؟ هذا لا يتوقف على التفسير

وحده في ظل الوسائل العصرية المتعددة والمتشابكة التي تحتاج إلى تفكير

موضوعي في كيفية الإفادة منها؛ وللأسف فإن هذه الوسائل أصبحت تشوش علينا

أكثر من كونها تخدمنا.

بالأمس كان الرجل يجلس على شاطئ الأطلسي غرباً وخليفة المسلمين في

الشرق والرابط بينهما هو القرآن، واليوم لدينا وسائل اتصال على تنوعها من

إذاعات موجهة وقنوات فضائية، لكنها فرغت من مضمونها فكان البون شاسعاً.

القرآن وحده كافٍ لو سمحنا له أن يطرق القلوب وأن يؤدي رسالته فينا، ولا يكون

نصيبه منا هو تشييع الموتى وإقامة الجنائز والإشعار بالتبرك، وإذا صُرِفَ القرآن

عن غايته فماذا يفيد الذي يدرسه؟

البيان: وكيف يمكن للأمة أن تستفيد من القرآن وهي في وضعها وحالها كما

ترون؟

لا يمكن أن تستفيد الأمة بالقرآن إلا إذا راجعت موقفها منه، وبحثت كيف

استفاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟ كيف عملوا به؟ كيف كان

هو وسيلة الاتصال مع ما بعدت به الديار؟

الأمر يحتاج لأمة تتضامن لتعمل وتأخذ بالأسباب، ولا يصلح الأمر إلا

بأسباب الصلاح التي جعلها الله كذلك، والله تعالى جعل لكل شيء سبباً فلا نضع

سبباً مكان آخر.

ومن أولى الأسباب في أداء رسالة القرآن فينا أن نصحح أمر الإنسان، وأن

نعلم أنه هو الأصل في أي نهضة أو حضارة أو تصحيح؛ فالإنسان الصالح تصلح

به الأمور الفاسدة، والإنسان الفاسد تفسد به الأمور الصالحة.

والقرآن لم ينزل إلا من أجل الإنسان والمحافظة عليه في سلوكياته وروابطه

وعمله واعتقاده، وفي علمه ومعرفته بحكمة خلقه وغاية وجوده، إذا نجحنا في أن

نعيد الفرد ليتربى على القرآن وينهل منه كما نهل الصحابة رضوان الله عليهم إذ

كانوا يتعلمون الآيات عشراً عشراً يدرسونها ويحفظونها ويعملون بها، فأخذوا

القرآن فهماً وقولاً وعملاً.

أقول إذا نجحنا في هذا نكون قد نجحنا بتوفيق الله في تقديم المثل الحي الذي

يشار إليه، فيقال هذا نبت القرآن، ونكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح.

البيان: ولكن القرآن يحتاج إلى موقِّف يفسر للناس معانيه؟

* في رأيي الأهم هو المنهجية التي يتعامل بها الناس مع القرآن. نعم! دور

المفسر مهم في بيان الدلالة، ولكن لو نظرت إلى آيات القرآن لوجدت أن أغلبها لا

تحتاج إلى بيان الدلالة لو وُجِدت القلوب المقبلة المتفتحة، وهذه هي معجزة القرآن:

أنه ميسر ليس فيه تعقيد.

اقرأ معي قول الله تعالى: [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً

وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ

العَالَمِينَ] (غافر: ٦٤) .

هل ترى كلمة واحدة تحتاج إلى تفسير؟ خاصة وأنت ترى دلالتها في الواقع:

الأرض قرار وأنت تمشي عليها وتأكل منها، وتنبت منها، وتدفن فيها.

البيان: لأهل القرآن المشتغلين العاملين به حلاوة وروح قلَّ أن تجدها في

غيرهم؛ فما السر في ذلك؟

السر هو العقيدة الحية التي يتربى عليها المرء وهو يعايش القرآن، والقرآن

كله كتاب عقيدة من أوله حتى آخره مدنيه ومكيه.

لكن العقيدة حين يعالجها القرآن تجد فيها حياة وحركة تكاد ألاَّ تنفصل عن

حياة الناس، ولو تدبرنا القرآن لوجدناه يوجه مظاهر الكون التي نراها كلها إلى

الاعتقاد. انظر على سبيل المثال كيف ربط الحر وهي ظاهرة كثيراً ما يعاني منها

الإنسان بحقيقة أخرى هي النار؛ وهذا توجيه دائم متكرر في القرآن؛ فحين قال

قائل في غزوة تبوك: [لاَ تَنفِرُوا فِي الحَرِّ] (التوبة: ٨١) .

جاء الربط مباشرة بالعقيدة: [قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ] (التوبة: ٨١)

لتظل هذه الظاهرة تذكِّر دائماً بالنار التي ينبغي أن يظل اتقاؤها وازعاً في حياة

الناس وإن شغلتهم الشواغل.

وقوله تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ

اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المُوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]

(فصلت: ٣٩) كم يتكرر هذا المشهد أمام الإنسان يرى الماء أمامه ينبت به

الزرع، لكن القرآن ينقل هذه الصورة ليحقق اعتقاداً إن غاب عن المجتمع غاب

معه السلام الحقيقي والأمن الحقيقي؛ وهي قضية البعث؛ ولذلك تجد في أكثر من

آية: [كَذَلِكَ النُّشُورُ] (فاطر: ٩) إلى [إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى]

(الروم: ٥٠) .

استخدم حركات الكون أمامك ليربطك بالله: [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي

ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ] (النور: ٤٤) .

حقائق وجود الإنسان خذ منها قوله تعالى: [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن

رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق: ٦-٨) انظر كيف جعل: [إِنَّ

إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق: ٨) كافة لطغيان الإنسان.

انظر حين يأخذك في رحلة في سورة الأنعام أو في الروم أو في غافر تجده

يأخذك في الرحلة ثم يقول: [ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ]

(الأنعام: ١٠٢) ومن قبلها يريك الحبة كيف تنبت ويجعلك تشاهدها:

[إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى] (الأنعام: ٩٥) ثم يريك الليل والنهار:

[فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً] (الأنعام: ٩٦) .

يريك النجوم، يريك نزول الماء وإنبات الزرع وتنوع النابت منه وبعد ذلك

كله يقول: [ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ] (الأنعام: ١٠٢) الذي خلق وقدر وأوجد: [ذَلِكُمُ

اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]

(الأنعام: ١٠٢) . ربط بين أن الأمر والخلق له وحده وبين توحيده بالطاعة

والعبادة: [أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ] (الأعراف: ٥٤) .

هذه المعايشة ربما غابت عن غير أهل القرآن في زحمة همومهم، وربما زاد

منها تعلق النفوس بأسباب الحياة الحديثة (التكنولوجيا والمادة) مع أن الله خلق

المادة وأوجد العقل، هذا الحضور نحن محتاجون إليه في كليات حياتنا وجزئياتها،

وهو ما يجده الإنسان في القرآن دون كتب العقيدة؛ فكتب العقيدة مع ما أدته من

دور مشكور في حفظ عقائد الإسلام وتصفيتها من الشوائب إلا أنها قدمت العقيدة

بأسلوب لا يخلو من جفاف؛ فهي قد قدمت العقيدة لكنها لم تقدم روحها العملية

الموجودة في القرآن، وهذه معجزة من معجزاته.

البيان: لكن القرآن عقيدة، وشريعة، وسلوك؛ والقرآن اهتم بها ثلاثتها؟

* العقيدة تمثل روح القرآن كله؛ وما كان للشريعة والسلوك أن ينتظما دون

عقيدة، والقرآن سواء مكيه ومدنيه اهتما بالعقيدة، وما يقال من أن المكي اهتم

بالعقيدة والمدني اهتم بالتشريع هو من باب التقريب لا من باب التحقيق؛ لأني لا

أرى آية في القرآن تخلو من العقيدة.

وأضرب لما قلت بمثل قضية الخطبة، انظر كيف ينتظم أمرها بالعقيدة:

يقول الله تعالى: [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي

أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِراًّ إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفاً

وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ

فَاحْذَرُوهُ] (البقرة: ٢٣٥) والآية في سورة البقرة وهي مدنية، وما كان أمر

الخطبة يتزن في النفوس لولا اللمسة الأخيرة: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ

فَاحْذَرُوهُ] (البقرة: ٢٣٥) هذه اللمسة جعلت التشريع أمامك يتزن ظاهراً وباطناً.

أعود فأكرر: هذه العقيدة الحية المبثوثة في آيات الله وفي آيات القرآن في

تشريعه في أحكامه وآدابه هي التي تكسو المتبع للقرآن بثوبها والله تعالى قد أمر

نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصرح بما أمره الله به حيث أمره بأمور ثلاثة هي:

[إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ

المُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ] (النمل: ٩١-٩٢) وتلاوة القرآن مع قرينتيها هي

من أعظم أسباب الهداية.

البيان: لكن مثل هذه الحقائق: مَنِ الذي يجليها للناس؟ أليس هو المفسِّر؟

* طلبة العلم موجودون بوفرة ونحسبهم صادقين؛ لكن التوجه الذي أسرت

فيه الأمة بغارة لا نظير لها في تشابكها، في الأرض والهواء والماء وفي الكلمات

وفي المعاني، هذه الهجمة الشرسة دون سابقة دخلت غرف النوم وغزت صميم

الأسرة وتكوين المجتمع. أنا لست متشائماً؛ لأن القرآن باق، وأعني بالقرآن

القرآن والسنة؛ لأن الله تكفل بحفظهما، ولكن الإنسانية التي أعرضت عن القرآن

ستدفع الثمن غالياً جداً لهذا الانحراف الكلي؛ لأن مدنية العصر مع اعترافنا بما فيها

من إيجابيات قد خاطبت في الإنسان شهوته وأهملت فطرته.

البشرى ماثلة أمامي في آيتين من القرآن:

الأولى: قوله تعالى: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]

(محمد: ٣٨)

والثانية: قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ

يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي

سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] (المائدة: ٥٤) .

فتربة القرآن خصبة ولاَّدة للأجيال.

والأمة الإسلامية على الرغم من الحصار فما زالت روح الإيمان تسري فيها؛

نعم! هي مليئة بالمشاكل؛ لكن مشاكل غيرها أكثر، فمشاكلنا ببساطة يمكن توجيه

الشعوب فيها في ساعات حاسمة تأتي فيتوجه الكل إلى الله، لا ننكر أن ثيابنا من

نسجنا، وأن ما نزل بنا من أنفسنا فينبغي ألا نلقي اللوم على غيرنا، والمخرج مما

نحن فيه هو القرآن.. القرآن كما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وتعلمه أصحابه

رضي الله عنهم.

البيان: هذا يجعلنا نسأل عن الجانب الأكاديمي: كيف نوظفه في خدمة

القرآن؛ فهو بالرغم من توسعه أفقياً فإنه لم يَرْقَ بنفس المستوى رأسياً؟

* المشكلة هنا في فلسفة التعليم عندنا، وارتباط التلقي فيها بالحفظ دون الفهم

وقدح الأذهان، والحفظ هنا ارتبط بعلة أخرى هي أن غايته نيل الدرجات

والشهادات، فأصبح العلم الأكاديمي نظرياً جامداً بعيداً عن مشاكل الأمة.

والقرآن علم وعمل هكذا وعاه السلف؛ ولهذا أرى أن الأسلوب العملي «العلم

للعمل» هو الأسلوب الناجح بإذن الله.

التطبيق العملي لآيات القرآن، والبحث عن الحلول للمشاكل اليومية للأمة

ينبغي أن يكون شغل الأكاديميين الشاغل. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

يقرؤون آيات الجهاد مثلاً ثم يرون التطبيق العملي للآيات مباشرة فكأنما عُجِنوا بماء

القرآن.

وإذا كانت الأمة الإسلامية غارقة اليوم في المشاكل والهموم فلماذا لا يوجه

الباحثون كل هذه المشاكل لبحثها من القرآن لنيل الدرجات العلمية؟ وفكرة المشروع

التي يطبقها الغرب ونادى بها البعض هي فكرة جديرة بالتطبيق في هذا المجال.

أما الدراسة التي تتم داخل حجرات مغلقة، والتي تفصل الطالب عن واقعه فهذه لا

تفيد كثيراً.

البيان: هناك قضية مهمة تقابل الناس اليوم في تعاملهم مع القرآن، وهي أن

كثيراً من الألفاظ قد فُرِّغت من مضمونها أو حُرفت عن معناها كما أشرتم، مثل

لفظ: السلام أو العلم أو الجهاد، في ظل واقع متراكم؛ ألا ترون أن هذا يؤثر على

التعامل المباشر مع القرآن؟

* الإقبال على القرآن ذاته يصحح كثيراً من المفاهيم، وإن كان الأمر يحتاج

جهداً دؤوباً من العلماء وطلبة العلم في ربط هذه الألفاظ بمعانيها القرآنية ونشرها

بين الناس. من المؤسف جداً أن كثيراً من كلمات الإسلام طُمست في حياة الناس!

وظلم هذه الكلمات جعلنا لا نحسن التصرف في كثير من الأمور. من هذه الكلمات

على سبيل المثال: الجهاد؛ مفهوم الجهاد وحده يستوجب عشرات اللقاءات من مثل

هذا اللقاء لكشف الخلط الذي حدث فيه؛ فهو أكبر من أن يوصف؛ لأن الجهاد الذي

أمر به الإسلام مصلحة لجميع المخلوقات، والمخلوقات جميعاً مصلحتها في أن

تكون كلمة الله هي العليا؛ لأنه عبارة عن دفع شر وإقامة خير في مجمله، لذلك من

الظلم البين أن يتبع العالم (إسرائيل) حين تلصق لفظ الإرهاب كما هي عادتها في

التحريف والتزييف بالمفهوم الشرعي للجهاد.

لا شك، فإن هذا الخلط يستوجب على الأمة هبَّة تستجلي فيها مفاهيمها بعيداً

عن التلقي من غير القرآن.

البيان: قلتم منذ قليل: إن الله تعالى قد جعل لكل شيء سبباً؛ وقضية السببية

من القضايا المهمة في واقع المسلمين اليوم، ألا ترى أنها قد ظُلمت بين التواكل

الذي ظلم به الإسلام وبين ردة مادية تُنزِل الغيب منزلة المعدوم؟

* لا بد للأسباب أن تكون مرتبطة بأمر راسخ هو العقيدة، وعقيدتنا هي

الأصل في تكويننا، هذه القضية قد جلاَّها القرآن أيما تجلية، وحياتنا مليئة

بالمواقف التي تحتاج لأن توزن بميزان القرآن.

والقرآن يضفي على الأسباب سَمْتَه، ويطلق الإنسان من أسرها حين يعلِّمه

أن الأخذ بالأسباب طاعة والتفريط فيها معصية، ويضبط هذا بجعل الركون إليها

من دون الله مضيعة ومفسدة، وقد ضرب القرآن كثيراً من الأمثلة لذلك مثل قوله

تعالى: [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] (الشعراء: ٨٠) ، فالتداوي سبب مأمور به

لكن الركون إلى الطبيب أو الدواء في طلب الشفاء شرك وظلم قد نهانا الله تعالى

عنه.

ومرتبة أعلى من هذا أن الله تعالى قد جعل أسباباً تفضي إلى طاعته تعالى

وهي لم تكن أسباباً إلا أن الله جعلها كذلك ليدلنا على قدرته، وكون أنه مسبب هذه

الأسباب؛ فأمر الله تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن يضرب بعصاه

البحر، وهو أمر عجيب في النتيجة التي يوصل إليها؛ لأن العادة تقتضي أن

ضرب الماء بالعصا يطاير الماء في وجه الضارب؛ فهذه سبب لتلك، ولكن حين

يسبب الله السبب ويأمر به يكون الأخذ به طاعة وفلاحاً وإن بدا بادي الرأي غير

ذلك.

وضرب المثل بالعصا لقوم موسى المغرِقين في المادية هو رد لهم ولأمثالهم

عن غلوهم في المادة ليتقرر في النفوس حقيقة أن الله تعالى [لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ]

(الأعراف: ٥٤) وهي حقيقة يجب أن تستقر داخل نفس كل مسلم.