للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

صورتان متناقضتان تحيّران

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

وبعد:

فلقد نال علماء الإسلام في المجتمع الإسلامي مكانةً كبرى، وحسبهم ثناء الله

عليهم في آيات قرآنية كثيرة، منها ما دلَّ على رفيع قدرهم، وفي ذلك يقول

الله - تعالى -: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ]

(المجادلة: ١١) .

وأنهم أقرب الناس له - جل وعلا - معرفةً به وخشيةً له. يقول الباري -

عز وجل -: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: ٢٨) .

وأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث، ومنها قوله

صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» [١] ولا شك أن قيامهم برسالة

الأنبياء في الدعوة والبلاغ هو مؤهلهم لهذه المكانة؛ فقد كان ذلك السمةَ العامةَ لكل

من انتمى لهذه المهمة الجليلة في كل زمان ومكان.

فقد أدوا رسالتهم في الحياة؛ فكانوا نماذج مشرفة للعلم والفضل، والسمو على

زخارف الحياة، وبَذَل الكثير منهم النفس والنفيس في سبيل الجهر بكلمة

الحق [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]

(آل عمران: ١٤٦)

وسجل التاريخ لهم صوراً مشرفة كُتبت بأحرف من نور، مثل الصحابة -

رضي الله عنهم - وعلماء التابعين وتابعيهم بإحسان، ومثل الأئمة الأربعة، وشيخ

الإسلام ابن تيمية، والإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام محمد

بن عبد الوهاب، وغيرهم رحمهم الله جميعاً.

وفي العصر الحديث عُرف كثير من العلماء بهذا الفضل أمثال (الشيخ محمد

بن إبراهيم آل الشيخ) ، و (الشيخ عبد العزيز بن باز) ، و (الشيخ ناصر الدين

الألباني) ، و (الشيخ محمد الأمين الشنقيطي) ، و (الشيخ محمد رشيد رضا) ،

و (الشيخ عبد الحميد بن باديس) ، و (الشيخ أحمد شاكر) ، و (الشيخ محمد

حامد الفقي) ، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المقام لذكر أسمائهم فضلاً عن ذكر

مواقفهم الجليلة.

وهذه المكانة لهم لم تأت من فراغ، وإنما كانت نتيجة لأدائهم ما كلفهم الله به

من رسالة البلاغ والنصح والإرشاد والتوجيه للأمة؛ فقد عملوا ما وسعهم الوقت

والجهد في التحذير من الأخطار المحدقة بالأمة، والتنبيه على ما يحتوشها من

تيارات إلحادية وتغريبية، والتحذير من كل ما يبعدها عن سواء السبيل.

ومما يؤسف له أننا في هذا العصر وإن لم نفقد أمثلة مشرفة لهؤلاء العلماء إلا

أن التيار الإلحادي والتغريبي والنهج العلماني السائد في كثير من البلدان الإسلامية

كان بالمرصاد للاتجاهات الإسلامية، فعمل جاهداً على تهميش العلماء وإضعاف

أدوارهم في الحياة، وسلطوا وسائل الإعلام للإساءة لهم وإظهارهم بصور مزرية،

وما ذاك إلا للكيد لهم، ومحاولة إضعاف رسالتهم، بل وصل إيذاء المنتمين

للاتجاهات الإسلامية إلى حد بعيد؛ بحيث يعاقب كل من ينتمي لأسرهم حتى

الدرجة الثالثة ظلماً وعدواناً، وللحيلولة دون وصولهم إلى مراكز التوجيه في تلك

المجتمعات؛ ووضع العراقيل في طريقهم بشكل مكشوف؛ تارة باتهامات معدة سلفاً،

وتارة بادعاء العمالة للخارج، وتارة بدعوى أنهم تيارات إرهابية متطرفة؛ وهم

نخبة متميزة في تلك المجتمعات بل من صفوة أبنائها المتخصصين في شتى الفروع

العلمية والتقنية، وكل ذلك مرفوض في شرع العلمانية والتغريب ما دام الأخيار

منتمين للتيار الإسلامي.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: لمصلحة من يُنحَّى الدعاة والعلماء

والمنتمون للاتجاهات الإسلامية عن الساحة؛ وبخاصة أنهم مشهود لهم بالعلم

والفضل والإبداع في تخصصاتهم العلمية؟

والجواب واضح حيث تتمثل تلك المصلحة التي لا يُبغى بها وجه الله في أمور

كثيرة منها:

- حرمان الأمة من هذا التيار الذي عادة ما يكون أحرص الناس على هداية

الأمة والعمل المخلص لما فيه تقدمها ونهضتها.

- محاولة تحجيم أثر الإيمان في المجتمعات الإسلامية، والعمل على فصل

الدين عن الحياة، وهذا أسلوب معروفة آثاره السلبية منذ ابتليت أمتنا الإسلامية

بتلك الحكومات العلمانية المتطرفة؛ فما حصلت أمتنا في عهودهم إلا على الهزائم

المنكرة، والتبعية المطلقة، والإخفاق الذريع في شتى مناحي الحياة.

- إثارة النزاع والخلاف بين فئات المجتمع بتصنيف أفراده إلى فئات مهمشة،

وفئات مقربة، وفئات مرضي عنها، وفئات ممقوتة؛ مما يجعل الحياة في نزاع

وشقاق دائم لا تتسنى معه نهضة حقيقية ولا تنمية مستديمة.

- ظهور ردود أفعال خطيرة من اتجاهات الغلو والانحراف العقدي حينما

يهمش الحاكمون بأمرهم الفئات الإسلامية وينحُّونها عن خدمة مجتمعاتها؛ فهم

يعملون من حيث يشعرون أو لا يشعرون في خدمة التيارات الإلحادية والمنحرفة

لتؤدي دورها في تغريب المجتمعات وتضليل أفرادها، والعمل على انحرافها عن

صراط الله المستقيم؛ بحيث لا ينجو من نتائج هذا الانحراف السيئة لا الراعي ولا

الرعية.

والغريب حقاً أننا نرى أصحاب الأديان الأخرى من يهودية ونصرانية

وهندوسية وغيرها أكثر ما يكونون تقديراً لعلمائهم والمنتمين للتيارات الدينية فيهم؛

من حيث فتح المجال لهم للعمل في كل فعاليات الحياة دون أدنى مضايقة. فدُور

أديانهم مفتوحة تؤدي رسالتها التوجيهية بغض النظر عن مدى صحتها، ورجال

الدين عندهم في مكانة سامية، ولهم تأثيرهم الملموس مما مكنهم من الوصول لشتى

المناصب الاجتماعية بل السياسية؛ حتى وصل نفر من رجال الدين عندهم إلى سدة

الحكم، وحكمت أحزاب دينية تلك الديار بأساليب ديمقراطية نزيهة تنأى عما هو

معروف في كثير من ديار الإسلام من تلاعب بالانتخابات لمصلحة الحزب الحاكم

أو المنتفعين في المجتمع.

ولا شك أن ذلك لم يأت من فراغ وإنما كان نتيجة طبيعية للمكانة المتاحة لهذه

الفئة من الناس؛ حيث لم ينلهم اضطهاد أو تهميش أو مضايقات، ولم يُستخدم

(القضاء) لتمرير الاتهامات ضدهم كما هو معروف في كثير من ديارنا، والله

المستعان.

ولعب الأدب والإعلام عندهم دوراً كبيراً ومؤثراً في إظهار رجال الدين

بصور مشرفة؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد رجل دين معروفاً هو

(مارتن لوثر) قد كُتب عن حياته وإنسانيته وإصلاحاته ما لا يقل عن ثلاثين رواية،

ومثله (كالفن) ، و (توماس الأكويني) ، وقد مُثِّلت سِيَرهم وأدوارهم الحياتية

بصورة مؤثرة يظهر فيها التبجيل والاحترام لكل من يشاهدها. ولذلك لا نستغرب أن

يكون لرجال الدين هناك أثرهم الإيجابي الملموس.

ومما يؤكد تلك المكانة لرجال الدين عندهم ما قرأناه في الأخبار مؤخراً من

صور توضح هذا التأثير في مجتمعاتهم، ومن ذلك على سبيل المثال:

- قيام الكنيسة الكاثوليكية في الفلبين بتأييد المعارضة ضد رئيس الدولة

(جوزيف أسترادا) لما أخذ عليه من مخالفات مالية معروفة، ولم يجد هذا التأييد أي

نكير من القوى الغربية.

- احتجاج الكنيسة الأرثوذكسية على الحكومة اليونانية حول رغبتها في

شطب اسم (الديانة) من بطاقة الهوية؛ لا سيما أن الكنيسة والدولة في اليونان لا

تزالان غير منفصلتين، وهذا منصوص عليه في الدستور اليوناني [٢] .

- وما أخبار رجال الدين الموارنة في لبنان عنا ببعيدة؛ فمنذ إعلان

(البطريرك صفير) دعوته لإخراج القوات السورية من لبنان لأنه يرى أنها تشكل

وصاية على لبنان أسهمت في أزماته الاقتصادية غير المسبوقة. ونقلت الصحف

ذهاب بعض الوزراء لطمأنة البطريرك وتهدئة خاطره، وأن رغبته محل الاعتبار؛

مما جعل البلدين يناقشان الموضوع، ونتج عن ذلك إعادة انتشار القوات السورية

كما هو معروف.

فهذه الأدوار لرجال الدين النصارى في العالم، وتدخلهم في شؤون دولهم لم

يعد خافياً على الجميع وهم المعروف عنهم جملتهم المشهورة: (دعوا ما لقيصر

لقيصر وما لله لله) ، لم يعد ذلك مجهولاً، وأصبح لهم كلمتهم في مجتمعاتهم؛ بينما

علماء الدين المسلمون في كثير من بلداننا مُهمَّشون. ومن بركات الحكومات

العلمانية في بلداننا نقل ذلك المقول النصراني المأثور إلى بلاد الإسلام ليعمل به

بالحديد والنار مع مخالفته للمنطلقات الشرعية الإسلامية ومنافاته للعقيدة ومناقضته

للإسلام، وهذا ما قرره كثير من العلماء عند بحثهم لهذه المسألة؛ حيث أوضحوا

مناقضة الإسلام لكثير من أعمالهم المعروفة ومنها:

١ - الاستهزاء بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه؛ فذلك مناقض للإسلام.

٢ - من اعتقد أن بعض الناس يسعهم الخروج على شريعة محمد صلى الله

عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى فهو أيضاً يناقض الإسلام.

فماذا يسمى تهميش الدين وتنحيته عن الحياة إن لم يسمَّ استهزاءاً به؟ وماذا

يسمى ترك الشريعة ونبذها والحكم بغير ما أنزل الله سوى الاستهتار بهذا الدين

ورميه في عرض الحائط؟ تلك صورتان للعلماء: عند المسلمين في عصورهم

الحديثة، وعند غير المسلمين أيضاً بين تبجيل وتخذيل وتقدير وتزوير.. فإلى الله

المشتكى.

كلمة أخيرة:

لكثير من أدبائنا وصحفيينا الذين دأبوا على الهمز واللمز بحق علماء الإسلام

ودعاته وإظهارهم بصور منكرة والافتراء عليهم بمناسبة وبغير مناسبة: نذكِّرهم

بأن أساتذتهم الذين يدعوننا دائماً للاقتداء بهم - ونعني الغربيين - هم بعكسهم تماماً

في مواقفهم من علماء مللهم؛ فلماذا لا يأخذون عنهم تقديرهم لعلمائهم وإشادتهم بهم؟

أم أن النقل لا يكون إلا فيما لا يفيد، وفيما لا يصلح؟ !

هذه هي الحقيقة، والشيء من معدنه لا يستغرب.

واللهَ نسأل للجميع الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه.


(١) أخرجه أحمد في المسند: (٥/١٩٦) .
(٢) جريدة الحياة، العدد: (١٣٦٢٩) في ٣/٤/١٤٢١هـ الموافق ٥/٦/٢٠٠٠م.