للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[الانتخابات الأمريكية وأثرها في التغيير]

حسن الرشيدي

مع احتدام الصراع بين فرسي سباق الرئاسة الأمريكية برز السؤال الأكثر

إلحاحاً: هل هناك تغيير سوف تشهده السياسة الأمريكية وتوجهاتها؛ خاصة بالنسبة

للسياسة الخارجية وما يتعلق منها بالشرق الأوسط؟

للإجابة على هذا السؤال يجب الإحاطة بكل العوامل التي من الممكن أن تؤثر

في التوجهات السياسية الأمريكية، وهي في نظرنا عاملان: طبيعة الرئاسة

الأمريكية نفسها ومكانتها داخل مؤسسات صنع القرار في أمريكا، والعامل الآخر

الاتجاهات التي تشكل الفكر السياسي الأمريكي.

الرئيس الأمريكي ودوره في صناعة القرار السياسي الأمريكي:

تعتبر مؤسسة الرئاسة واحدة من ضمن عدة مؤسسات تتحكم في صناعة

القرار السياسي الأمريكي؛ فهناك المؤسسات الدستورية (الرئاسة، والكونجرس،

والجهاز القضائي) ، كما توجد أيضاً الأجهزة التنفيذية (كالجهاز الإداري، ومجلس

الأمن القومي، ووكالة المخابرات الأمريكية ووزارة الدفاع، والجهاز الدبلوماسي) ،

والمجموعة الثالثة التي تتحكم في القرار السياسي الأمريكي: هي الهيئات

والجماعات المؤثرة (الأحزاب السياسية والجماعات الضاغطة، والمؤسسات

الاقتصادية، ووسائل الإعلام، والاتصال، والجامعات، ومراكز البحوث) .

ويتحدد وضع الرئيس داخل النظام الأمريكي من عدة أمور منها التشريعي،

والتاريخي، والواقع الأمريكي نفسه:

* فالدستور الأمريكي يجعل من الرئيس المؤسسة الوحيدة التي تتمتع بجميع

سلطات الحكومة، وهو وحده الذي يملك سلطة حق التقرير منطلقاً من قول

(إبراهام لنكولن) الذي أعلن به قراره عندما لاحظ مخالفة وزرائه السبعة له:

«إن سبعة في هذا المجلس يقولون: لا. وإن واحداً (يعني بها نفسه) يقول: نعم.

إذن (نعم) تغلبت على (لا) » .

وينص الدستور على أن الرئيس هو القائد الأعلى لجيش الولايات المتحدة

وأسطولها، ورغم أن الكونجرس يتمتع بسلطة إعلان الحرب فإنه من الناحية

العملية لم يعلن الحرب إلا في خمس مناسبات؛ بينما نفذت القوات الأمريكية

وبأوامر من الرئيس عشرات العمليات العسكرية دون إعلان رسمي من الكونجرس،

وهو ما دفع الكونجرس لإصدار قرار سلطات الحرب عام ١٩٧٤م في محاولة

لكبح سلطات الرئيس في مجال إعلان الحرب، ويتضمن القرار المذكور أن يبلغ

الرئيس الكونجرس في مدى ٤٨ ساعة إذا ما أرسل قوات عسكرية إلى بلد آخر،

وأن يسحبها بعد ٦٠ يوماً إذا لم يقر الكونجرس مبادرة الرئيس.

«ولكن من الناحية العملية فإن القرار العسكري والعمليات الحربية التي

تترتب عنه تظل بيد الرئيس إلى حد كبير؛ وذلك لأن فترة الستين يوماً كافية لتنفيذ

قرار أو عمل عسكري يكون بالغ التأثير والتدبير بحكم التقدم التكنولوجي الهائل

الذي تتميز به القوات المسلحة الأمريكية، كما أن الرئيس يمتلك إمكانيات تقنية

وعملية لإقناع الكونجرس بأي قرار عسكري ينوي الإقدام عليه» .

* وتبين التجربة التاريخية لعدد من الرؤساء الأمريكيين أن التكوين

والشخصية يلعبان دوراً حاسماً في توجيه السياسة الأمريكية؛ فشخصية مثل الرئيس

(روزفلت) التي تتميز بالقوة كان لها أكبر الأثر في توجهات الإدارة الأمريكية.

وبالمقابل كان لشخصية الرئيس (جيمي كارتر) التي تتسم بالميل إلى عدم

المواجهة سواء إزاء الخارج أو مع المساعدين كان لها دور في بروز العجز في

القدرة على التعامل مع القضايا المختلفة؛ بينما أثر التكوين الديني على شخصية

الرئيس (رونالد ريجان) ؛ إذ كان يطلق عبارات وتقويمات أخلاقية على الأحداث،

وشهدت فترة رئاسته صدور عدة قرارات على مستوى داخلي وخارجي لتشجيع

النشاط الأصولي المسيحي، وكان يرفع الإنجيل خلال حملته الانتخابية.

أما من ناحية الواقع الفعلي لسلطة الرئيس؛ فهناك جدل كبير يسود أوساط

الباحثين في علوم السياسة الأمريكية؛ حيث يبرز اتجاهان:

الأول: يعتبر أن سلطة الرئيس مقيدة بكوابح الدستور التي وُضعت للحد من

نزوعه للهيمنة؛ كإجراءات المراقبة، واستقلال السلطتين التنفيذية والتشريعية.

كما أن الأجهزة السياسية التنفيذية رغم كونها تابعة رئاسياً لسلطته فهي في

الحقيقة تعمل وفق آليات تجعلها مستقلة عن إرادته إلى حد كبير بسبب تدخل

قوى ومجموعات اللوبي التي تنسج شبكة من العلاقات التحتية والخفية كالعلاقات

بين أعضاء الكونجرس ومسؤولي الأجهزة البيروقراطية، والتحالفات بين

جماعات سياسية واقتصادية كالمؤسسة العسكرية والشركات الكبرى وأجهزة

المخابرات، وهو ما حدا بالرئيس أيزنهاور في الخمسينيات للإشارة إليه عندما

تحدَّث عن وجود تحالف عسكري صناعي؛ ومما يعزز هذا الاتجاه أن الولايات

المتحدة دولة ضخمة، ومن باب الاستحالة أن يتمكن شخص من الإحاطة بقضاياها

الداخلية والخارجية والهيمنة على مقاليد قرارها السياسي، وهو ما يبرز بشكل

خاص في إشكالية التوفيق بين السياسة الخارجية والقضايا الداخلية.

الاتجاه الثاني: يعتبر أن سلطة الرئيس هي المحور الأساسي للنظام الأمريكي،

ويستند في ذلك إلى الناحية التاريخية التي ذكرناها سابقاً.

ولكن يبدو أن الرأي الأول هو الغالب بالنسبة لدارسي السياسة الأمريكية؛

حيث يؤيده الواقع الذي يبدو فيه دائماً الرئيس كحلقة ضمن إطار كبير يدور خلاله

ولا يتعداه.

الفكر السياسي الأمريكي:

هناك ثلاثة مؤثرات شكلت معاً الفكر السياسي الأمريكي؛ هذه المؤثرات

تداخلت فيما بينها وامتزجت لتخرج لنا نسيجاً متواصلاً تتوارثه الطبقة السياسية

الأمريكية عبر العقود المختلفة بعد أن شكلت ذاكرة الأمة الأمريكية.

هذه المؤثرات هي: فكر الآباء المؤسسين - التأثير البروتستانتي في

السياسة - صانعو الفكر الأمريكي.

أولاً: فكر الآباء المؤسسين:

تعتبر أمريكا دولة حديثة المنشأ؛ ورسخ لدى مؤسسيها أفكار ومبادئ استمرت

حتى الآن ترمي بظلالها في الوجدان، والفكر السياسي الأمريكي، ومن هذه

المبادئ:

مبدأ: المصلحة الذاتية المستنيرة:

وهذا المبدأ هو المفتاح والعامل المحرر لنشاط أمريكا على الساحة العالمية؛

وهو يمثل وجهة النظر للسياسة الخارجية الأمريكية من منظور المدى الطويل،

وعلى وجه التحديد؛ فلقد كانت درجة الأفضلية الممنوحة لانتصار استراتيجي

طويل المدى بالنسبة إلى ميزة عابرة مرحلية هي التي اتخذت مقياساً للاستنارة

والمصلحة القومية؛ فإذا تشبث قادة دولة بمكاسب قليلة الأهمية وفورية متغاضين

عن المصالح الأكثر جوهرية التي يمكن تحقيقها بواسطة التضحية بمكسب مرحلي؛

فإن معنى ذلك أنهم (ليسوا مستنيرين) بما فيه الكفاية، وأن معرفتهم بالأهداف

العظمى للطبقة الحاكمة في السياسة الخارجية ضئيلة، وهم لهذا يُخفقون في تطبيق

مبدأ (المصلحة المستنيرة) ، وحينما تترجم مسلَّمة (المصلحة الخاصة المستنيرة)

في السياسة الخارجية إلى لغة الاستراتيجية؛ فإنها تعني الاحتفاظ بحرية المناورة

للولايات المتحدة في أي ظرف من الظروف. ويقول جورج واشنطن مطوراً مفهوم

حرية المناورة: «لماذا نترك أرضنا لكي نقف على أرض أجنبية؟ لماذا نعرقل

سلامنا ورخاءنا بحبائل ومعاداة مصالح أوروبا ومنافساتها في مصالحها وأمزجتها

وأهوائها إذا جعلنا مصيرنا ملتحماً بأي جزء من أوروبا؟ إن سياستنا الحقة هي أن

نوجه سفينتنا بعيداً عن التحالفات الدائمة مع أي جزء من العالم الأجنبي» .

ويمضي قائلاً: «إنه يجب اعتبار أي تحالف مع دولة أجنبية مؤقتاً، أي لا تلتزم

به الولايات المتحدة إلا إذا كان هذا التحالف مفيداً لتنمية مصالحها، ولكن بمجرد أن

يصير هذا التحالف عبئاً على الولايات المتحدة ويزج بها في غمار الصراع من أجل

المصالح الأجنبية؛ فإن من الواجب تصفيته وإحلال تحالف آخر مكانه إذا كان ذلك

ضرورياً؛ حتى ولو كان ذلك مع عدو الأمس إذا دعت الحاجة إليه للدفاع عن

مصالح الولايات المتحدة الخاصة» .

مبدأ «القدر المرموق» :

أو المصير الذي سبق به القضاء، أو قضاء الله السابق.

في هذا المبدأ تتجلى العقيدة الدينية النصرانية في السياسة الأمريكية؛ حيث

تصور النموذج الأمريكي على أنه (رسالة إلهية إلى العالمين) !

لقد كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة شديدي التدين، وقد وجدوا

بالإضافة إلى تسويغ أفعالهم باعتبارات العقل والضرورة الاقتصادية.. إلخ أن من

الواجب التصديق على أن كل ما أنجزته الثورة الأمريكية من جانب سلطة إلهية

غير أرضية هي إرادة الخالق، وكل ذلك أدى إلى ولادة مبدأ: (القدر المرموق) .

وبما أن الجمهورية الأمريكية - أي النظام الأمريكي وفقاً لتعاليم (الآباء

المؤسسين) - أفضل ما تم إيجاده قبل هذه الجمهورية أو النظام؛ فلا بد أن تكون

في رأي هؤلاء الآباء نموذجاً ومثالاً لسائر الجنس البشري، نموذجاً على جميع

الأمم أن تقتدي به.

ويؤكد (مورجنتاو) بناءً على ذلك قائلاً: «وهنا يمتزج المفهوم التنصيري

عن العلاقة بين وضعنا الداخلي وبين سياستنا الخارجية ليشكلا شيئاً ثالثاً هو

الحملات الصليبية؛ فنحن باعتبارنا (مبشرين) برسالة التجربة الأمريكية كنا نقدم

مساعدتنا للآخرين وهم أحرار في قبولها أو رفضها. أما نحن وباعتبارنا فرساناً

طيبين فسنفرضها فرضاً على بقية العالم بالنار والسيف إذا كان ذلك ضرورياً،

وستكون الحدود العقلية لهذه الحملة الصليبية هي حدود القوة الأمريكية؛ فإن حدودها

الممكنة ستكون حدود الكرة الأرضية. لقد تحوَّل النموذج الأمريكي إلى صيغة

فكرية للخلاص الشامل ستلتزم بها الأمم ذات التفكير الصحيح طوعاً. أما الأمم

الأخرى فيجب أن تخضع لها كرهاً» .

ومن الحقائق الفعلية كما يسلم (مورجنتاو) : «أن فكرة الرسالة الأمريكية

إلى شعوب العالم الأقل حظاً، هي بكل تأكيد أيديولوجية سياسية أي هي إضفاء

طابع عقلاني وتسويغي على السياسات التي تجري ممارستها لأسباب أخرى هي

أسباب أنانية في المحل الأول» .

ويقول المؤرخ الأمريكي البارز (جوليوس وبرات) بمزيد من التخصيص:

«إن (القَدَر المرموق) أصبح تسويغاً لأي استيلاء على أرض إضافية يكون لدى

الولايات المتحدة النية والقدرة على أخذها» .

مبدأ الحرب العادلة:

هذا المبدأ نشأ عن مفهوم إشباع حاجات الشعوب الأخرى من خلال جذبها إلى

طريقة الحياة الأمريكية بقوة السلاح؛ فوفقاً لنظرية الرسالة الأمريكية يتم القيام بهذه

الأفعال لا لأي غرض آخر سوى تحرير هذه الشعوب؛ ولذلك فأي حرب - على

وجه الإطلاق - تخوضها الولايات المتحدة هي من وجهة النظر الأمريكية حرب

تحرير؛ ولذلك فهي حرب عادلة. يقول البروفيسور (روبرت تكر) من جامعة

جون هوبكنز: «يمكن اعتبار أي استعمال للعنف وأي وحشية حرباً عادلة» .

مبدأ (مونرو) :

في عام ١٨٢٣م في رسالة الرئيس (مونرو) إلى الكونجرس قال: «إنه من

الآن فصاعداً؛ فإن بلاد القارة الأمريكية لا يمكن اعتبارها موضوعاً للاستعمار من

جانب أي دولة أوروبية، ومن حقنا ألا ننظر إلى أي تدخل يستهدف إخضاعها

أوالتحكم بأي طريقة أخرى في مصيرها من جانب أي دولة أوروبية إلا في ضوء

أنه انعكاس لنوايا غير ودية تجاه الولايات المتحدة» .

كان هذا المبدأ أول بداية حقيقية عملية لتدخل أمريكا في العالم، وإن اقتصر

على قارتي أمريكا أو نصف الكرة الغربي؛ فإنه طبق المبادئ السابقة باعتبارها

نتيجة لها، وأظهر السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة عندما تنظر إلى أي جزء

من العالم وكأنها منطقة نفوذ لها.

خطاب (مسيرة الراية) :

في ١٦ سبتمبر ١٨٩٨م أُلقي خطاب ممتلئ بالحماسة في مدينة (أنديانا

بوليس) دفاعاً عن السياسة الجديدة للولايات المتحدة، وقد عرف هذا الخطاب في

التاريخ الأمريكي باسم: (مسيرة الراية) وكان مُعد هذا الخطاب هو (ألبرت

بفريدج) الذي كان مرشحاً لمجلس الشيوخ في انتخابات ذلك العام؛ وكان يعتمد

على تأييد الدوائر الصناعية والمالية ذات النفوذ، وقد أعلن: «أن مسألة التوسع

الاقتصادي أكبر من أن تكون مسألة حزبية؛ إنها مسألة أمريكية تقول: هل

سيواصل الشعب الأمريكي زحفه نحو السيادة التجارية على العالم؟ وهل سنحتل

أسواقاً جديدة لما ينتجه مزارعونا، وما تصنعه مصانعنا، وما يبيعه تجارنا؟ إننا

اليوم ننتج أكثر مما نستطيع استهلاكه، ونصنع أكثر مما نستطيع استعماله؛ ولذلك

يجب أن نجد أسواقاً جديدة لمنتجاتنا» .

لقد كان مستقبل السياسة الاقتصادية الأمريكية حيوياً بالنسبة إلى دائرة رجال

الأعمال، وفي الشهر نفسه في ذلك العام ظهر في المجلة الأمريكية الشمالية مقال

بقلم (تشارلس كونانت) في مجلة نيويورك للتجارة عنوانه: (الأساس الاقتصادي)

جاء فيه: «إن الميل الذي لا تمكن مقاومته إلى التوسع الذي يؤدي بالشجرة

النامية إلى أن تفجر أي حاجز هو الميل الذي ساق القوط والوندال والساكسون في

موجات متعاقبة لا يمكن مقاومتها للتغلب على أقاليم روما المتدهورة. هذا الميل

يبدو الآن فعالاً مرة ثانية؛ ولذلك فلا بد من منافذ جديدة لرأس المال الأمريكي،

ولفرص جديدة للمشروع الأمريكي. إن قانون المحافظة على النفس وكذلك قانون

البقاء للأصلح يدفعان شعبنا في طريق هو بلا جدال تحوُّل عن سياسة الماضي؛

ولكنه طريق لا يحيد عن أن ترسم حدوده شروط الحاضر ومتطلباته» .

استنتاج روزفلت: ...

في عام ١٩٠٤م أثرى (تيودور روزفلت) نظرية العلاقة بين الدول الأمريكية

بتفسيره الخاص لمذهب (مونرو) ، وقد عرف هذا التفسير في التاريخ

باسم: (استنتاج روزفلت) أعلن فيه: «إن تدخل الولايات المتحدة في الشؤون

الداخلية لأمريكا اللاتينية سيعتبر أمراً مسوغاً قانونياً إذا وجدت هذه البلاد نفسها

عاجزة عن القيام بحل مشكلاتها الداخلية، أو إذا قامت من جانبها بأفعال قد تؤدي

إلى تدخل الدول الأوروبية في شؤون بلدان في القارة الأمريكية، وإن أي بلد يحسن

شعبه السلوك يستطيع أن يعتمد على صداقتنا المخلصة القوية، فإذا أظهرت إحدى

الأمم أنها تعرف كيف تسلك بكفاءة ولياقة معقولتين في المسائل الاجتماعية

والسياسية، وإذا حافظت على النظام وأدت التزاماتها فهي ليست بحاجة إلى أن

تخشى تدخلاً من الولايات المتحدة. أما ارتكاب الأخطاء على نحو متكرر أو حدوث

عجز ينجم عنه تحلل لروابط المجتمع المتحضر فقد يتطلب في أمريكا كما يتطلب

في أي مكان آخر تدخلاً في النهاية تقوم به أمة متحضرة، كما يتطلب في نصف

الكرة الغربي تمسك الولايات المتحدة - مهما يكن ذلك على كره منها - بأن تلعب

دور قوة شرطة عالمية في الحالات الصارخة من ارتكاب الخطأ، أو العجز» .

هذا الاستنتاج الخطير يؤكد أن الولايات المتحدة هي الوحيدة التي لها الحق

المطلق في تحديد شرعية أية أفعال معينة تصدر عن بلاد تكون للولايات المتحدة

مصلحة فيها! !

ثانيا: التأثير البروتستانتي في السياسة الأمريكية:

مع نشأة حركة الإصلاح الديني التي قادها (مارتن لوثر) في القرن السادس

عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما حدث تغيير جوهري للنصارى في موقفهم

من اليهود؛ ولذلك يصف بعضهم هذه الحركة بأنها ساهمت في بعث اليهود من

جديد. فلقد دعا (لوثر) إلى وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم

الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها، فأصبح كل بروتستانتي حراً في

دراسة الكتاب المقدس وفهمه وتفسيره؛ وفي ظل هذا الفهم ازداد الاهتمام بالعهد

القديم (التوراة) تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة

النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناولها الباباوات

الواحد عن الآخر والتي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر العقيدة المسيحية، وهكذا

أصبح العهد القديم يشكل جزءًا مهمًا من مصادر العقيدة البروتستانتية وأصبح هو

المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، ومصدرًا للتعاليم الخلقية والمعلومات التاريخية.

ومن المعلوم أن أغلب التوراة هي عبارة عن سجل لتاريخ بني إسرائيل في

فلسطين؛ وبذلك بدا الذهن البروتستانتي مهيأً للاعتقاد بأنه لم يكن في فلسطين إلا

الأساطير والقصص التاريخية الواردة في العهد القديم والتي منها ارتباط اليهود

بفلسطين وضرورة عودتهم إليها.

وعندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا كان معظم المهاجرين الجدد من

البروتستانت الذين فروا من الاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت،

وكان هؤلاء يحملون معهم تراثهم الديني مستمداً من العهد القديم الذي أخذ يلعب

دوراً رئيساً في تشكيل الفكر الأمريكي في ذلك الوقت، ومما قوى من أهمية هذا

الدور هو ربط هؤلاء المستوطنين بين تجاربهم التي مروا بها منذ رحيلهم من

أوروبا وإنجلترا - بالذات - وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا

من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين؛ فهم مثلهم مثل اليهود فروا من الظلم بحثاً عن

الأرض الموعودة التي تدر لبناً وعسلاً، وجابهوا الصعاب في رحلتهم عبر المحيط

كما حدث لليهود في صحراء سيناء؛ كما أنهم جُوبهوا بمقاومة السكان الأصليين كما

جُوبه اليهود بمقاومة أهل فلسطين، وعندما كانوا يعلنون الحرب على أصحاب

البلاد الأصليين كانوا يستحضرون العهد القديم؛ حيث ثمة تشابه بين تجاربهم في

حربهم مع الهنود الحمر وتجربة اليهود في حربهم ضد الفلسطينيين.

لقد عانوا من الانقسام ومن تجارب الحرب الأهلية المريرة كما حدث مع

اليهود القدماء عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين: إحداهما في الشمال، والأخرى

في الجنوب. لقد كان هؤلاء المستوطنون يعلمون أن الأرض التي استولوا عليها

من سكانها الأصليين ليست أرضهم؛ كما أنهم يعلمون أن ما يقومون به من عمليات

اضطهاد وقتل وتشريد للسكان الأصليين يتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية؛ فكانوا

لذلك بحاجة إلى شيء يسوِّغ لهم أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية

والأخلاقية ولو مزيفة، فلم يجدوا لها التسويغ إلا في العهد القديم.

فكما أن اليهود القدماء سوَّغوا احتلالهم لفلسطين بالادعاء بأنها الأرض

الموعودة التي وهبها الله لشعبه المختار كما يقولون؛ فإن هؤلاء المستوطنين فعلوا

الشيء نفسه بالادعاء بأن الله اختار العنصر الأنجلوسكسوني الأبيض لقيادة العالم.

ويكتب (هيرمان ملفيل) في بداية القرن التاسع عشر متحدثاً عن الشعب الأمريكي؛

حيث قال: «نحن - الأمريكيين - شعب خاص، شعب مختار، وإسرائيل

العصر الحاضر» .

وفي الثمانينيات من القرن العشرين تنامى التيار المسيحي المؤيد لليهود؛

خاصة بعد أن امتد نفوذه إلى عقول الملايين وجيوبهم، وامتلك شبكات تلفزيونية

وإذاعية هائلة وبتقنية متقدمة للغاية استخدم معها أساليب الاستعراض التلفزيوني فيما

أطلق عليه: (الكنيسة التلفزيونية) أو: (الديانة في الأوقات المناسبة) .

وعندما عقدت منظمة (إيباك) اليهودية مؤتمرها السياسي السنوي في

عام ١٩٨١م ألقى السيناتور (روجر جبسون) كلمة أمام المؤتمر قال فيها:

«إن من أسباب تأييدي الحيوي الذي لا يتغير لإسرائيل هو ديني المسيحي ... ،

إن المسيحيين وبخاصة الإنجيليين هم أفضل أصدقاء إسرائيل منذ

ولادتها الجديدة عام ١٩٤٨م، أعتقد أن أسباب البركة في أمريكا عبر السنين أننا

أكرمنا اليهود الذين لجؤوا إلى هذه البلاد، وبورك فينا؛ لأننا دافعنا عن إسرائيل

بانتظام، وبورك فينا؛ لأننا اعترفنا بحق إسرائيل في الأرض» .

وهذا أيضا (جيري فالويل) - زعيم منظمة الأغلبية الأخلاقية، والصديق

الشخصي لمناحيم بيجين وإسحاق شامير - يجسد الصلة المتنامية بين البروتستانتية

واليهودية حين قال في كتاب صدر له بعنوان: (جيري فالويل واليهود) : «إن

إسرائيل تحتل الآن مكان الصدارة في نبوءات الكتاب المقدس، وإني أؤمن أن عهد

الوثنيين يقصد المسلمين قد ولى بسيطرة اليهود على الأرض المقدسة في عام

١٩٦٧م، وإني على قناعة بأن معجزة إنشاء دولة إسرائيل في عام ١٩٤٨م كان

بفضل العناية الإلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأن الإله وعد مراراً في العهد

القديم بأنه سيجمع الشعب اليهودي في الأرض التي وعدها إبراهيم، وأعني بها

أرض إسرائيل الآن، ولقد أوفى الإله بعهده» .

و (جيري فالويل) هذا يقوم بإنتاج برنامج ديني اسمه - ساعة من أزمان

الإنجيل - يتم إذاعته من ٣٩٢ محطة تلفزيونية، ومن حوالي ٥٠٠٠ محطة إذاعية

كل أسبوع، كما أنه يقوم بتنظيم رحلات إلى إسرائيل للمسيحيين الذين ولدوا من

جديد كما يزعم.

لقد نجح هذا التيار المسيحي في الحصول على ما يريد في أغلب الأحيان

بسبب تنظيمه وتوحيد جهوده من خلال منظمات وجمعيات منتشرة في طول أمريكا

وعرضها يزيد عددها على أكثر من ٢٥٠ منظمة وجمعية، من أبرزها منظمة

(الأغلبية الأخلاقية) ، ومؤسسات (روبرتسون) الإعلامية التي تمتلك محطة

تلفزيون الشرق الأوسط في جنوب لبنان، ومؤسسة (السفارة المسيحية الدولية) ،

ومؤسسة (المعبد) ، وجماعة (حق الدين) ، وغيرها.

ولم يقتصر الدعم الأمريكي لإسرائيل على المستوى الشعبي، بل امتد إلى

المؤسسات الصانعة للقرار السياسي وعلى رأسها مؤسسة (الرئاسة) .

فهذا الرئيس (توماس جيفرسون) واضع وثيقة استقلال أمريكا يقترح أن

يمثل رمز الولايات المتحدة الأمريكية على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار

غيمة، وفي الليل عمود من النار بدلاً من الرمز المعمول به حالياً؛ وواضح من

هذا الشكل المقترح أنه يتفق مع النص الوارد في التوراة الذي يقول: [كان الرب

يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب يهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نور

ليضيء لهم] .

ولعب الرئيس (ويلسون) دوراً رئيساً في صدور وعد بلفور؛ حيث شارك

في الاتصالات التي سبقت صدور الوعد، وفي عام ١٩١٨م قال (ويلسون) :

«أعتقد أن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في

فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا» ، كما بعث برسالة إلى الحاخام

(ستيفان وايز) رحب فيها بالتقدم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في الولايات

المتحدة وفي البلدان الحليفة، وكان يقول دائماً: «إن ربيب بيت القسيس

(يقصد نفسه) ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في إعادة الأرض المقدسة إلى

أهلها» .

لم يرافق التأييدَ الشعبيَّ الأمريكي الجارف للحركة اليهودية موقفٌ عملي

واضح للحكومة الأمريكية؛ لأنه في الفترة قبل الحرب العالمية الثانية كانت

بريطانيا تقدم كافة التسهيلات والمساعدات لليهود على أكمل وجه، ولكن (روزفلت)

رئيس أمريكا أبدى في هذه الفترة تعاطفاً مع اليهود؛ فقد اتخذ نجمة داود شعاراً

رسمياً للبريد والخوذات التي يلبسها الجنود وعلى أختام البحرية الأمريكية، وعندما

تولى (ترومان) منصب الرئاسة خلفاً لروزفلت طلب من رئيس الوزراء

البريطاني إدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين، وفي عام ١٩٤٦م قال ترومان:

«إن تأييد وطن قومي لليهود كان دائماً من صلب السياسة الأمريكية المنسجمة

مع نفسها» .

وكان (ترومان) هذا أول من اعترف بدولة إسرائيل بعد دقيقة من قيامها،

وتوالى بعد ذلك الدعم والمساعدات، فعلى سبيل المثال بلغت المنح التي قدمتها

أمريكا لإسرائيل - من عام ١٩٥٠م وحتى ١٩٥٩م -: (٤٠٣٥ مليون دولار،

وقروضاً بلغت ٣٦٩ مليون دولار، ومساعدات فنية بـ ٣٥ مليون دولار، وأجهزة

علمية قيمتها ١٠ ملايين دولار، واستثمارات بـ ٩٥ مليون دولار، وحصيلة بيع

السندات الإسرائيلية وصلت إلى ٣٤٧ مليون دولار) ، هذا عدا الإعفاءات من

الضرائب والرسوم التي تمنحها الحكومة الأمريكية على ما يصل من اليهود، وما

يتم جمعه عن طريق الجمعيات، والمنظمات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل.

وبينما نلاحظ أن فترة الرئيس كنيدي كانت من الفترات النادرة التي تم فيها

ضبط السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، حيث كان يرى: «أن

الانحياز الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب؛

بل يهدد العالم بأسره» ، والتفسير المنطقي لهذا أن الرئيس كنيدي كان الرئيس

الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا.

وفي عهد (جونسون) حصلت إسرائيل على صفقات كبيرة من الأسلحة

والمعدات التي مكنتها من هزيمة الجيوش العربية في عام ١٩٦٧م، وفي عام

١٩٦٨م صرح جونسون أمام جمعية (بنات برث) قائلاً: «إن بعضكم إن لم يكن

كلكم لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماماً؛ لأن إيماني المسيحي ينبع

منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً؛ مثل قصص الكفاح البطولي

ليهود العصر الحديث من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد» .

لقد ساهم انتصار اليهود في حرب ١٩٦٧م في تزايد التيار البروتستانتي

المؤيد لإسرائيل باعتبار أن ما حدث على أرض فلسطين ليس سوى تحقيق لنبوءات

توراتية ولمشيئة إلهية؛ فانظر مثلاً لعناوين صحف أمريكا في هذه الفترة:

(وانتصروا في اليوم السابع) ، (حرب إسرائيل المقدسة) ، (عملية السيف

البتار) ، (داود وجوليات) (اضربي يا صهيون) .

وبالرغم من أن اليهود لم يعطوا نيكسون سوى ١٧% من أصواتهم أثناء

انتخابات الرئاسة؛ فقد كان من المتأثرين بالأفكار والنبوءات التوراتية إلى حد أن

قال: إنه مستعد أن ينتحر سياسياً أكثر من أن يستعد لإلحاق أي ضرر بإسرائيل.

وعندما وصل (كارتر) لحكم أمريكا كان أول ما صرح به هو التزامه بأمن

إسرائيل؛ ففي مؤتمر صحفي عام ١٩٧٧م، قال: «إن لنا علاقة خاصة مع

إسرائيل، وإنه من المهم للغاية أنه لا يوجد أحد في بلادنا أو في العالم أصبح يشك

في أن التزامنا الأول في الشرق الأوسط إنما هو في حماية إسرائيل في الوجود..

الوجود إلى الأبد.... والوجود بسلام؛ إنها بالفعل علاقة خاصة» .

وفي عام ١٩٧٩م فسَّر كارتر الخصوصية في هذه العلاقة؛ حيث قال:

«إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة؛ لقد كانت وما زالت علاقة فريدة

لا يمكن تقويضها؛ لأنها متأصلة في وجدان الشعب الأمريكي نفسه وفي أخلاقه

وديانته ومعتقداته» .

وفي احتفال أقامته - على شرفه - جامعة تل أبيب وضَّح هذا الأمر أكثر

بقوله: «إنه بوصفه مسيحياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً بأن هناك أمراً إلهياً بإنشاء

دولة اسرائيل» . لقد كان كارتر معلماً وشماساً في مدرسة الأحد، ويساهم كل

أسبوع لإيقاظ الروح الدينية في المجتمع.

أما ريجان فقد صرح بأنه كان يشعر عند الانتخابات الأمريكية بأن المسيح

يأخذ بيده، وأنه سوف ينجح ليقود معركة (الأرماجيدون) التي يعتقد أنها ستقع

خلال الجيل الحالي في منطقة الشرق الأوسط.

وحين وجه خطاباً إلى يهود أمريكا قال لهم: «حينما أتطلع إلى نبوءاتكم

القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة أرماجيدون - أي نهاية العالم -

أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً، ولا أدري إذا

كنت قد لاحظت مؤخراً أياً من هذه النبوءات، ولكن صدقني إنها تنطبق على زماننا

الذي نعيش فيه» .

وعندما جاء (كلينتون) أثرت خلفياته الدينية على موقفه من إسرائيل؛ فهو

يحكي تأثره كثيراً بموت أحد رجال الدين النصارى حيث كان هذا القس تحدث إلى

كلينتون قبل موته قائلاً: «إنه - أي القس - يأمل في أن يصبح كلينتون رئيساً

للولايات المتحدة؛ ولكن يجب عليه المحافظة على إسرائيل» ، لقد وضح التحالف

البروتستانتي اليهودي جلياً خلال محادثات كامب ديفيد الأخيرة؛ حيث ذكرت

الصحف قول كلينتون لعرفات: «إن المسيحيين في العالم كله يقدسون جبل

الهيكل» ، ويقصد به مكان المسجد الأقصى، وكان ذلك ردًا على عرفات الذي

ادعى أنه لا يستطيع التنازل عن الأقصى؛ لأنه مقدس عند المسلمين.

إن علاقة الرؤساء الأمريكيين بإسرائيل يصدق عليها قول الكاتب اليهودي

الأمريكي جون بيتي الذي قال: «إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام

اليهود كما ينحني المؤمن أمام قبر مقدس» .

أما (جورج بوش الابن) فحضر وزوجته قداساً في مدينة (جاكسونفيل) ؛

حيث حصل على تأييد علني من أحد مشاهير رجال الدين الأمريكيين ويدعى (بيلي

جراهام) ، ويقول بوش: «إن الفضل يرجع لجراهام في هدايته وإقناعه بالتمسك

بتعاليم الديانة المسيحية في عقد السبعينيات» .

وقال جور - عندما بدأ حملته - بأنه ينوي حمل قيمه الإيمانية، وحرصه

على الترابط الأسري معه إلى سدة الرئاسة.

ثالثاً: التأثير الفلسفي على السياسة الأمريكية:

لقد تبنى الأمريكيون نهجاً براجماتياً في السياسة والحياة؛ حيث الغاية والنجاح

فيها هما الحَكَم والفيصل؛ ولم تكن السياسة - من الناحية العملية وليست النظرية -

أبداً معركة بين الخير والشر، بل هي صراع مصالح والمصالح متغيرة، ولذا فإن

السياسة شأنها شأن التجارة والأعمال لا تلتزم بمبادئ ثابتة، بل تلتزم بالمصلحة؛

فجورج بوش الابن على الرغم من محافظته الشديدة فهو يحاول جاهدًا أن يستقطب

الجهات الأخرى من خلال تسمية نفسه بـ «المحافظ المتعاطف» ، وفي هذه

التسمية إشارة إلى أنه سيكون لينًا ومتعاطفًا عندما يستلزم الأمر. فمثلاً، بخصوص

موضوع زواج الشذوذ يُظهر بوش اعتراضه الشديد ورفضه القاطع لمثل هذه

المسألة، ولكنه في الوقت نفسه يُظهر «تعاطفه» عندما يُضيف قائلاً: «إن كل

إنسان لا بد أن يُعامل باحترام وكرامة» . وهكذا «يتحايل» بوش بحذق ومهارة

كي يكسب المعركة ضد خصمه آل جور؛ فهو - أولاً وأخيرًا - يرغب في الفوز.

والحقيقة الثابتة في الفكر السياسي الأمريكي أنه إذا ما اقتضت السياسة

الخارجية تعديلاً في المبدأ السياسي الداخلي؛ فإن هذا التعديل سرعان ما يتحقق؛

وهذه حقيقة عبر عنها جيفرسون قائلاً: «إن ما هو عملي يجب أن تكون له الغلبة

والسيطرة على النظرية الخالصة» .

لقد حاول كثير من الفلاسفة الأمريكيين صياغة الفكر الأمريكي وخاصة

السياسي منه، فكان أشهرهم (شارلز بيرس، ووليم جيمس، وسكينر) ، هؤلاء

الثلاثة صاغوا نظريات استمدت من المذهب البراجماتي أساساً لها، وسار عليها

أغلب صناع السياسة الأمريكية.

فبيرس يتساءل: «ما هي أهمية فكرة ما؟» ويجيب عليها: «طريقة

السلوك المتولدة عنها» أي النتائج العملية المتولدة عنها؛ فالسلوك أو المصلحة إذا

تحققت كانت الفكرة جيدة، ولكن: «كيف نمنع الناس من التفكير الخاطئ؟»

يقول بيرس: «لندع الدولة تعمل بدلاً من إرادة الفرد، ولننشئ مؤسسة هدفها أن

تضع نصب أعين الناس مذاهب صحيحة تجعلهم يرددونها دائما وأبداً ودون انقطاع،

ونلقنها للصغار، وأن تكون لها في الوقت نفسه القدرة على حظر تعليم أي مبادئ

معارضة.... ولنجعل كل أولئك الذين ينبذون الفكر الرسمي للسلطة يلزمون جانب

الصمت في هلع، ولندفع بالناس لكي يمزقوا هؤلاء أو لنجري تحريات وتحقيقات

عن طريق تفكير المشتبه فيهم؛ وإذا تبين أنهم مذنبون وآمنوا بمعتقدات محظورة

فلنوقع عليهم عقوبة ما، وإذا لم ننجح في ذلك فلنبدأ مذبحة عامة لكل من لم يفكر

على هذا النحو» ، ولنا أن نسأل: أليست هذه البضاعة الأمريكية التي استوردتها

بعض سلطات عالمنا الإسلامي لتثبيت الأفكار الأمريكية؟ !

أما (وليم جيمس) فهو في نظر الشعب الأمريكي صاحب نظرية الحرية؛

ولكن أي حرية يريدها جيمس؟ إنه يوضح أن الحرية هي الفوضى؛ فما يراه الفرد

مصلحة له فله أن يفعله، وما تراه أمة أنها مصلحتها فلها مطلق الحرية في جلبها

دون مراعاة مصالح الآخرين، وهذه المصلحة ليست رهناً بالحقوق أوالوثائق أو

وقائع التاريخ، بل هي رهن بالمنفعة، فمثلاً إذا رأت إسرائيل أن منفعتها

ومصلحتها في إنكار أي قيمة للشعب الفلسطيني؛ فإن ما تقوله صواب، وهو أيضاً

الخير.

ويجيء في الختام (سكينر) الذي تبلورت على يديه النظرية الفلسفية كاملة؛

فعند (بيرس) يمكن التحكم في سلوك الناس بجعل السلوك الذي نريده منهم عادة،

وجاء (جيمس) لينقلنا خطوة أخرى؛ حيث ذكر أن الإنسان كالحيوان عبارة عن

حزمة من العادات؛ والعادات التي يكون ثمة ميل فطري لها نحوها تسمى غرائز.

أما بعض منها مما يرجع إلى التعلم فيسمى أفعال عقل.

وأخيراً فقد وضع (سكينر) القواعد التي يمكن بها الإجابة عن سؤال: كيف

يمكن التأثير في عادات العقل للناس للتحكم في سلوكهم؟ أجاب سكينر عن ذلك بما

يسمى تكنولوجيا السلوك التي هي عنده: «أداة لتغيير الإنسان من الخارج؛ فهو

الربط بين المثوبة والعقوبة لتكوين ذخيرة سلوكية لدى الإنسان على نحو ما نرى في

التجارب على الحيوانات» ، وهذا ما يطبق بالفعل في نظام الإعلانات التي تتكرر

لترسخ اسم سلعة في الأذهان وتتحول إلى وسواس يدفع المشاهد قهراً إلى الشراء

والاقتناء، أو على ما نرى في عمليات غسيل المخ من خلال التعذيب والدعايات

المتكررة في مجال الأمن السياسي، وهي أساليب دعمتها وسائل التطور التكنولوجي

التي يطلق عليها الآن اسم: برمجة الأفكار.

هناك ما يبدو تناقضاً في الفكر بين التأثير الديني البروتستانتي، وبين هذا

الفكر الفلسفي القائم على البراجماتية، وهذا بلا شك يحدث تناقضاً وصراعاً بين

هذين النقيضين في عقلية السياسي الأمريكي، ولكن عند التأمل في القرار السياسي

الأمريكي نجد التأثير الديني يتركز في صياغة الغايات والأهداف، أما البراجماتية

فهي عند التطبيق العملي واستخدام الوسائل الموصلة لتلك الغايات.

من خلال استعراض موقع الرئاسة الأمريكي في صياغة عملية صنع القرار

السياسي، وخصائص الفكر السياسي الأمريكي، والمؤثرات التي تعمل فيه يمكن

اعتبار عدة ثوابت تتحكم في توجهات الرئيس الذي يتولى زمام الأمور في البيت

الأبيض؛ بصرف النظر عن انتماءاته لأي من الحزبين الجمهوري، أو

الديموقراطي:

* أن الرئاسة مرتبطة بمؤسسات تتحكم في عملية اتخاذ القرار في الولايات

المتحدة، وإن كانت الرئاسة لها دور كبير، ولكنها تبقى في النهاية مؤسسة ضمن

غيرها تشارك في صنع القرار السياسي الأمريكي، ولذلك يمكن إجمالاً عدم تصور

حدوث تغيير ذي أثر في مجمل السياسة الأمريكية.

* التأييد الأمريكي لإسرائيل ليس مرتبطا بتأثير اليهود في أمريكا بقدر ما هو

مرتبط بالعقيدة البروتستانتية نفسها التي يعتنقها غالبية الشعب الأمريكي؛ وعلى هذا

فإن اختيار ليبرمان اليهودي نائباً لجور لا يمكن أن نستنتج منه أن بوش سيكون أقل

انحيازاً لإسرائيل؛ فالسياسة الأمريكية في هذه المسألة بالذات يغلب عليها المفهوم

البروتستانتي، ولكن ربما يزيد التأييد المسيحي لجور نتيجة لوجود ليبرمان إلى

جواره؛ حيث المصلحة البروتستانتية المعروفة في التمكين لليهود في فلسطين.

* أن الفكر السياسي الأمريكي البراجماتي في تعامله مع شعوب العالم الثالث

لن يتغير؛ لاستناده لأسس فلسفية ذات جذور في الفكر الأمريكي؛ فهذا الفكر في

ممارساته يعتمد على المصلحة حيثما وجدت.

المراجع:

١ - النظم السياسية المعاصرة - عبد الهادي أبو طالب - دار الكتاب - الدار

البيضاء.

٢ - صناعة القرار السياسي الأمريكي - منصف السليمي - مركز الدراسات

العربي الأوروبي.

٣ - العقل الأمريكي يفكر - شوقي جلال - سينا للنشر.

٤ - تاريخ التدخلات الأمريكية المسلحة - المجلد الأول والثاني - ي.

جريجوريفتش - ترجمة سعد الفيشاوي - دار العالم الجديد - القاهرة.

٥ - الصليبيون الجدد - الحملة الثامنة - دراسة في أسباب التحيز البريطاني

لإسرائيل - يوسف العاصي الطويل - مكتبة المدبولي.

٦ - جذورالبلاء - عبد الله التل.

٧ - الولايات المتحدة وإسرائيل - برنارد ريتش - ترجمة مصطفى كمال.

٨ - القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني - مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

٩ - قبل أن يهدم الأقصى، عبد العزيز مصطفى.