للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأملات دعوية

[الدعوة بين الاحتساب والاكتساب]

(١ - ٢)

محمد بن عبد الله الدويش

www. dweesh. com

لقد أمر الشرع بطلب الرزق المباح وعدَّه عبادة، ونهى عن سؤال الناس

وتكففهم؛ فعن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود عليه

السلام كان يأكل من عمل يده» [١] .

والدعوة إلى الله تبارك وتعالى تحتاج إلى المال لنصرتها وهي اليوم أحوج ما

تكون إلى ما يغنيها عن سؤال التبرعات من الناس وكثرة التطواف عليهم، ولذا

يأتي الحديث كثيراً عن الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله عز وجل، وعن بذل

المال ابتغاء وجه الله.

فهذه نصوص تحثُّ على طلب قدر من الدنيا، وثمة نصوص تنهى عن

التعلق بالدنيا وتذمها.

والمسلم يأخذ بالنصوص جميعاً، وينظر إليها بمنظار واحد؛ إذ النظر إلى

جانب واحد من النصوص يؤدي بصاحبه إلى سوء فهم للشريعة.

وثمة أخطاء في تعامل بعض الدعاة مع الدنيا نتيجة تغليب جانب على آخر،

وفي هذه المقالة بعض الإشارات حول جانب إهمال القدر المشروع من طلب الدنيا:

* إهمال الاكتساب المشروع، واعتباره انشغالاً عن العلم والدعوة، وعيش

الشاب في معاناة وضيق، أو استمراره في الاعتماد على والديه، ولهم أسوة حسنة

في النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعمل ويكتسب ليأكل من عمل يده؛ فعن

أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبياً

إلا رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم! كنت أرعاها على قراريط

لأهل مكة» [٢] .

* يهمل بعض الشباب اختيار العمل الذي يوفر له دخلاً يتناسب مع احتياجاته،

ويختار عملاً دون المتاح له من الأعمال التي تسد حاجته الحقيقية، ثم يصبح بعد

ذلك عالة يتكفف الناس، وقد يلجأ إلى سؤالهم الصدقات لإتمام الزواج أو سداد

الديون إلى غير ذلك.

* إهمال المربين هذا الجانب في إعداد الشباب؛ فمع تضاؤل كثير من فرص

العمل اليوم لا بد من الاعتناء بتربية الشباب على المسؤولية، وتعويدهم على

الاستغناء عن الناس، وهو أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه،

ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو أحسبه قال إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل

ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» [٣] ولئن كان الاحتطاب وسيلة طلب الرزق

في عصر مضى ففي هذا العصر ثمة وسائل وأساليب أخرى [٤] .

* العمل في المؤسسات الدعوية أصبح اليوم مصدر دخل لطائفة من الشباب،

وهذا من خير ما ينشغل به المرء حين تصلح نيته، لكن لا يسوغ أن تضاع حقوق

هؤلاء باسم دعوتهم إلى الاحتساب، ومن حقهم أن يعيشوا عيشة كريمة كما يعيش

غيرهم.

* هناك فئة من الشباب الصالحين ممن لهم مشاركة في الأعمال الدعوية

يعانون من ضيق ذات اليد، ويتحمل بعضهم قدراً من الديون، فجدير بأصحاب

القلوب الرحيمة من الدعاة إلى الله عز وجل، وجدير بالمؤسسات والجمعيات

الإسلامية أن تعنى بأمثال هؤلاء؛ بل لو تعاون إخوانهم وأقرانهم وشعروا

بمسؤوليتهم تجاههم لحلُّوا كثيراً من مشكلاتهم، ولهم أسوة حسنة في الأنصار الذين

آوَوْا إخوانهم المهاجرين، وقاسموهم ثمارهم وأموالهم، بل طلق بعضهم بعض

نسائه لصاحبه، ويكفي ثناء القرآن عليهم في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ

وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا

وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

المُفْلِحُونَ] (الحشر: ٩) .

* ضعف اعتناء كثير من المؤسسات الدعوية بتنمية الموارد المالية، وضعف

إدارتها لما هو متاح لها من ذلك، ولقد كان للمال أثر في عهد النبي صلى الله عليه

وسلم في دخول طائفة من الناس في الإسلام؛ فكيف بهذا العصر الذي هو عصر

الاقتصاد والمال.


(١) رواه البخاري (٢٠٧٢) .
(٢) رواه البخاري (٢٢٦٢) .
(٣) رواه البخاري (١٤٨٠) ومسلم (١٠٤٢) .
(٤) مع ضرورة مراعاة الاعتدال في ذلك.