للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق

(١ - ٣)

[العلمانية التاريخ والفكرة]

د. عوض محمد القرني [*]

يتردد كثيراً في وسائل الإعلام والمنتديات وعلى المنابر مصطلح

«العلمانية» ، والقليل من الناس من غير المتخصصين مَنْ لديه معلومات دقيقة،

أو مفاهيم محددة واضحة عن العلمانية، ولعلِّي في هذه الكتابة أُسهم في بيان هذه

الجوانب عن العلمانية وتوضيحها وكشفها؛ مع الاعتراف بصعوبة ذلك في الكتابة

الصحفية، لما تستدعيه من الاختصار والإيجاز، ولما عوَّدت الصحافة الناس عليه

من البساطة والخطابية؛ وعدم التوثيق العلمي الأكاديمي المتعارف عليه في

الجامعات.

أصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية: (Secularism) ، وهي من

العِلْم؛ فتكون بكسر العين، أو من العَالَم فتكون بفتح العين، وهي ترجمة غير

أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة؛ لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي «لا دينية،

أو لا غيبية، أو الدنيوية، أو لا مقدس» ، لكن المسوّقين الأُوَل لمبدأ العلمانية

في بلاد الإسلام علموا أنهم لو ترجموها الترجمة الحقيقية لما قبلها الناس، ولردُّوها

ونفروا منها، فدلَّسوها تحت كلمة (العلمانية) لإيهام الناس أنها من العلم، ونحن

في عصر العلم، أو أنها المبدأ العالمي السائد والمتفق عليه بين الأمم والشعوب غير

المنحاز لأمة أو ثقافة.

وكان أول من طرح هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية نصارى بلاد

الشام في القرن التاسع عشر، وكان أول من طرح هذا المصطلح حسب علمي

«إلياس بقطور» نصراني لبناني، في معجم أعده (عربي/ فرنسي) ، ثم

طرحه بَعدُ «البستاني» في معجميه اللذين ألَّفهما.

العلمانية بضاعة غربية:

لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية:

دينية واجتماعية وسياسية وعلمية واقتصادية خلال قرون من التدرج والنمو

الطبيعي، والتجريب والتكامل، حتى وصلت إلى صورتها التي هي عليها اليوم،

وأهم هذه الظروف والمعطيات التي برزت وأنضجت التجربة العلمانية في الغرب

هي:

١ - طبيعة الديانة النصرانية: ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين

الدين والدنيا، أو بين الكنيسة والدولة ونظم الحياة المختلفة؛ فهي ديانة روحية

شعائرية لا شأن لها بنظم الحياة وشؤون الحكم والمجتمع؛ يعبر عن ذلك الشعار

النصراني الشهير: «دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر» ، ولهذا فإن النصارى

أمماً وشعوباً حين يندفعون للبحث عن تنظيم أمور حياتهم في العلمانية أو غيرها لا

يشعرون بأي حرج من ناحية دينهم ومعتقدهم؛ بل إن طبيعة دينهم تدفعهم لهذا

الأمر؛ ولذلك فإن نشأة العلمانية وانتشارها وسيادتها في المجتمعات الغربية أمر

طبيعي.

٢ - الصراع الذي نشأ بين الكنيسة والكشوف العلمية في جوانب الحياة

المختلفة: فعلى الرغم من أن الديانة النصرانية ديانة روحية صرفة؛ إلا أن

المؤسسة الكنسية تبنت بعض النظريات العلمية القديمة في بعض العلوم، ثم بمرور

الزمن جعلتها جزءاً من الدين يُحكَم على كل من يخالفها بالردة والمروق والهرطقة،

وحين تطورت العلوم الطبيعية تبين أن الكثير من تلك النظريات كان خاطئاً وخلاف

الصواب والحقيقة، وانبرت الكنيسة تدافع عن تلك الأخطاء باعتبارها الدين،

واشتعلت الحرب، وسقط ضحايا التزمُّت الخرافي والتعصب الأعمى غير المسوّغ

من علماء الطبيعة ما بين مقتول ومحروق ومشنوق، ومارست الكنيسة أقصى

درجات القمع الفكري والبدني على معارضيها بزعمها، وجنت الكنيسة على الدين

حين صوَّرته للناس دين الخرافة والدجل والكذب بسبب إصرارها على أن تنسب

إليه ما هو منه براء. وحين تكشفت للناس الحقائق وقامت البراهين القاطعة على

صحة أقوال أهل العلم انحازوا للحقيقة ونبذوا الكنيسة ودينها، أو على الأصح ردُّوا

الديانة النصرانية المحرفة إلى أصلها وطبيعتها وحقيقتها، لا شأن لها بالعلم والحياة

والنظم والكشوف، فكان ذلك دفعة جديدة لسيادة العلمانية تدعمها الكشوف العلمية

والعقول المفكرة.

٣ - ظهور حركات اجتماعية فكرية سياسية: وقد أدى انتصار العلم في

النهاية إلى ثورة علمية وكشوف جغرافية، فكان أن قامت في الغرب حركة

اجتماعية فكرية سياسية شاملة نفضت غبار الماضي، وثارت على كل قديم،

واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة والقوى القديمة

التي يمثلها الإقطاع وطبقات النبلاء، وانحازت الكنيسة أيضاً للقوى القديمة، بينما

كانت القوى الجديدة تطالب بالحريات والمساواة، وترفع شعار حقوق الإنسان،

ويدعمها العلم وحقائقه، وتطور الحياة وسننها، فالتفَّت الشعوب والجماهير حول

القوى الجديدة الداعية إلى التقدم الاجتماعي والتطور الفكري والسياسي، وكان يدعم

هذا التوجه ما عاشته الشعوب من ظلم واستغلال بشع في ظل الإقطاع والكنيسة،

وكانت العلمانية اللادينية هي اللافتة والراية التي اجتمعت القوى الجديدة تحتها،

وبانتصار هذه القوى انتصرت العلمانية، واندحرت الديانة النصرانية، وأخذت

القوى الجديدة تبشر بعصر جديد يسعد فيه الإنسان، وتحل جميع مشكلاته، ويعم

السلام والرفاهية والإخاء جميع الشعوب، وهو ما لم يتحقق إلا بعضه كما سنرى

بعد قليل.

نتائج العلمانية في الغرب:

حين تحرر الإنسان الغربي من سيطرة الكنيسة والإقطاع تحرر من سيطرة

الخرافة والدجل والظلم، ورافق ذلك بزوغ فجر التقدم الصناعي والثورة العلمية

التقنية، وحين أخذت الشعوب الغربية بالنهج العلماني الجديد في إطار المستجدات

العلمية والاجتماعية والفكرية والسياسية الجديدة كانت نتائج ذلك:

١ - التقدم العلمي الهائل: إذ إن العقل الغربي الذي كان أسير الأساطير

تاريخياً، والخرافة دينياً وعلمياً، تحرر من ذلك كله وانطلق يبحث ويجرب ويفكر

ويستقصي، فأبدع في هذا المجال بما لم تعرفه البشرية في تاريخها، وقدم الغرب

للإنسانية من نتائج علمه ثورة صناعية هائلة غيرت وجه الأرض، وطبيعة علاقة

الإنسان بالبيئة المادية من حوله.

٢ - الرخاء الاقتصادي الواسع الذي أصبحت تعيشه الشعوب الغربية ولم

تحرمه شعوب العالم الأخرى: إذ إن منجزات العلم وُظفت في العديد من جوانبها

لرفاهية الإنسان في ضرورياته من غذاء وكساء وعلاج وسكن وخدمات، بل تجاوز

كثير من الشعوب توفير الضروريات إلى التوسع في الكماليات بصورة متميزة لم

تعرف لها البشرية مثيلاً في الجملة وبصورة عامة.

٣ - الاستقرار السياسي: واستبعاد صور العنف وأشكاله في التعبير عن

الآراء والتوجهات السياسية، وترسيخ آليات وأخلاقيات وقوانين وأعراف للحوار أو

الصراع السياسي، وتوفير ضمانات للحريات السياسية، وعدم الاضطهاد، وتنظيم

العلاقة بين الشعوب وحكامها؛ فكان هذا النهج السياسي في آلياته ووسائله وأساليبه

لا في فلسفته ومحتواه الفكري أمناً وسلاماً على الشعوب الغربية بعد عصور الدماء

والتطاحن والثورات، وأصبح مثالاً يُحتذى من كافة شعوب الأرض، ويسعى

الجميع لاستيراده وتطبيقه باعتباره نهاية التاريخ، وغاية التطور، وسقف الحضارة

الذي لا يمكن تجاوزه.

٤ - احترام حقوق الإنسان وحرياته: وبالذات الإنسان الغربي، وبالمفهوم

الغربي أيضاً للحقوق والحريات؛ حيث أصبح زعيم أكبر دولة في العالم وأقواها

يُحقق معه، ويُحاكم كأي فرد مهما ضعف وتضاءل من شعبه، وبحيث أصبحت

السيادة للقانون، ودَور السلطة هو حماية القانون وتنفيذه، وخدمة الأمة وحمايتها،

والنزول على رأيها ورغبتها، مع الأخذ في الاعتبار أن المفاهيم الغربية عن حقوق

الإنسان والحريات ليست هي المفاهيم الصحيحة، ولا الأولى والأجدى لحياة

الإنسان، بسبب منطلقاتها المادية الإلحادية الإباحية، لكنها بلا شك تحتوي على قدر

لا بأس به من قيم العدل والمساواة والإنصاف بمعايير القوانين الوضعية.

٥ - انتشار الإلحاد بجميع صوره وأشكاله في حياة الغربيين: نتيجة لهزيمة

الكنيسة والدين في مواجهة العلمانية، مما أدى لتحييد الدين عن شؤون الحياة العامة،

واقتصاره على الجانب الفردي الاختياري في حياة الإنسان، ولأول مرة في تاريخ

البشرية تقوم دول وأنظمة ومعسكرات عالمية تتبنى الإلحاد في أشد صوره غلواً

وتطرفاً ومادية، وتصادم فطرة الإنسان، وتصادر ضرورات العقل في الإيمان

ومستلزماته تحت شعار تقديس العقل، وإنما هو تسفيه العقل والعياذ بالله.

٦ - السيطرة الغربية على شعوب العالم الأخرى، واستعمارها، واستعبادها،

واستغلال خيراتها، والتنافس بين الدول الغربية في ذلك مما تسبب في قيام

حربين عالميتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من البشر، وما زال التهديد قائماً

بحرب ثالثة قد تكون سبباً في دمار الأرض، والقضاء على الحضارة البشرية،

ومنجزاتها عبر التاريخ. فالغرب نتيجة للثورة العلمية، والقوة الاقتصادية،

والكشوف الجغرافية، وتراجع المد الإسلامي في الأندلس وغيرها، أخذت أساطيله

تمخر عباب البحار والمحيطات، وتتسابق للاستيلاء على الممالك والأقاليم،

وتقاسمت العالم، ونهبت ثرواته، واستغلت شعوبه، وصادرت عقائده، وتجاهلت

خصائص كل أمة وقيمها وثقافتها، وقامت حروب التحرر والمقاومة للاستعمار،

وسالت دماء الشعوب أنهاراً، وتم في النهاية جلاء القوى العسكرية الاستعمارية من

أغلب بقاع العالم، ولكن بعد أن فرض الغرب رؤيته وأفكاره وأيديولوجيته، وربَّى

على ذلك النخب الفكرية والسياسية في شعوب ما سُمي بالعالم الثالث، وسلمها زمام

الأمر من بعده، فواصلت حمل راية العلمانية، وتطرفت في تطبيقها بالحديد والنار

كما سنرى فيما يأتي من حديث.

٧ - العجز عن حل المعضلة الإنسانية التاريخية في غرس اليقين والطمأنينة

في نفس الإنسان، والإجابة عن تساؤلاته الكبرى المصيرية الملازمة له عبر

تاريخه عن حقيقة وجوده وبيان ماهيته، ورسالته، ودوره ووظيفته، وإلى أين مآله

ومصيره ونهايته؟

هذا الأمر الذي كان محور اهتمام المذاهب والفلسفات والمبادئ والنظريات،

وموضوع الملل والنحل والرسالات السماوية هو ما بشرت به العلمانية في بداياتها

من أنها بالعلم ستصل فيه إلى الإجابات الشافية الكافية، وأنه لا مشكلة للإنسان بعد

اليوم.

ولكن ها نحن بعد أن عاشت الحضارة الغربية قرابة ثلاثة قرون في ظل

العلمانية نرى الإنسان الغربي يعيش مأزقاً نفسياً روحياً فكرياً وجودياً أشد عمقاً

وتأزماً من مأزقه حين بشرت العلمانية بحل معضلته، على الرغم من التقدم المادي

والرفاه المعيشي الذي يعيشه هذه الأيام، وصدق القائل سبحانه: [وَمَنْ أَعْرَضَ

عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً] (طه: ١٢٤) .

وسائل وطرائق انتقال العلمانية من الغرب للشرق:

لقد بزغ نجم العلمانية وعلا شأنه في الغرب في ظل الظروف التي أشرنا إليها،

وقد صاحب ظهورها في الغرب انحطاط وتخلف وهزائم في الشرق، مما أتاح

للغرب أن يتسلم زمام قيادة ركب الحضارة البشرية بما أبدعه من علم وحضارة،

وما بذله من جهد وتضحية، فكان أمراً طبيعياً أن يسعى الغرب لسيادة نموذجه

الحضاري الذي يعيشه، وأن يسوقه بين أمم الأرض؛ لأنه بضاعته التي لا يملك

غيرها، ولأنه أيضاً الضمانة الكبرى لبقاء الأمم الأخرى تدور في فلك التبعية له،

وتكدح في سبيل مدنيته وازدهار حضارته.

وكان تسويق الغرب للعلمانية في الشرق الإسلامي من خلال الوسائل والطرق

الآتية:

١ - من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري: فقد وفدت العلمانية إلى

الشرق في ظلال الحراب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية،

ولئن كانت العلمانية في الغرب نتاج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر

أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً متكامل الرؤى

والأيديولوجيات والبرامج، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه كمن يصرُّ

على استنبات نبتات القطب الجليدي في المناطق الاستوائية، وفي هذا من

المصادمة لسنن الله في الحياة ما يقطع بإخفاق التجربة قبل تطبيقها؛ لأن

الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافاً

جذرياً عن ظروف البلدان التي جُلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية

والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية؛ فالشرط الحضاري الاجتماعي

التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في الشرق، بل في

الشرق نقيضه تماماً وأعني بالشرق هنا الشرق الإسلامي ولذلك فلا عجب إن

كانت النتائج مختلفة تماماً كما سنرى. وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت

عالة على الغربيين الذين كانوا حاضرين من خلال الهيمنة الغربية في المنطقة،

ومن خلال المستشارين الغربيين، أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية؛

فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة

تأسيسها، وهكذا بُذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش

الاستعمار عن البلاد التي ابتليت بها.

٢ - من خلال البعثات العلمية التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم

والتقدم، فعاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء

والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد

والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية، بل بدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي

في الجامعات الغربية، ولك أن تتصور حال شاب مراهق يحمل الشهادة الثانوية

ويُلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه، بعد أن يكون قد

سقط إلى شحمة أذنيه في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي، وما أوجده كل ذلك لديه

من صدمة نفسية واضطراب فكري ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب

الأكاديمية، وفي أهم المراكز العلمية، بل القيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها

بازدراء، وإلى تاريخها بريبة واحتقار، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها في أحسن

الأحوال بشفقة ورثاء؛ إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علَّموه وثقَّفوه

ومدَّنوه، وهو لا يملك غير ذلك، ولئن كان هذا التوصيف للبعثات الدراسية ليس

عاماً فإنه الأغلب وبالذات في أوائل عصر البعثات، وما «طه حسين»

و «رفاعة الطهطاوي» إلا أمثلة خجلى أمام غيرهم من الأمثلة الصارخة

الفاقعة اللون مثل «زكي نجيب محمود» و «محمود أمين العالم» و «فؤاد

زكريا» و «عبد الرحمن بدوي» وغيرهم الكثير، ولئن كان هذا الدور للبعثات

العلمية تم ابتداءاً من خلال الابتعاث لعواصم الغرب فإن الحواضر العربية

الكبرى مثل «القاهرة بغداد دمشق» أصبحت بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني

للبلاد العربية الأخرى من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات

لدول الجزيرة العربية.

وقلَّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة

طابور خامس، وجهته غير وجهتها، وقبلته غير قبلتها، وإنهم لأكبر مشكلة تواجه

الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة.

٣ - من خلال البعثات التبشيرية: فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي

جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية جعلت

هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين بدينهم، وإخراجهم منه، وتشكيكهم فيه، حتى

وإن لم يعتنقوا النصرانية، وليس أجدى من العلمانية وسيلة لهذا الغرض، والأمر

ليس من باب التخمين والافتراض؛ بل نطقت بهذا أفواههم، وخطَّته أقلامهم، وإن

شئت فارجع إلى كتاب: «الغارة على العالم الإسلامي» مثلاً ليتبين لك ذلك،

وهؤلاء المبشرون إما من الغربيين مثل «زويمر» و «دنلوب» ، وإما من

نصارى العرب مثل «أديب إسحاق» و «شبلي شميل» و «سلامة موسى»

و «جرجي زيدان» وأضرابهم، ومنهم من كان يعلن هويته التبشيرية ويمارس

علمنة أبناء المسلمين «كزويمر» ، ومنهم من كان يعلن علمانيته فقط، ويبذل

جهده في ذلك ك «سلامة موسى» و «شبلي شميل» .

٤ - من خلال المدارس والجامعات الأجنبية: ففي أواخر الدولة العثمانية

وحين سيطر الماسونيون العلمانيون على مقاليد الأمر سُمح للبعثات التبشيرية

والسفارات الغربية بإنشاء المدارس والكليات، وانتشرت في بلاد الشام والأناضول

انتشار النار في الهشيم، وخرَّجت أجيالاً من أبناء المسلمين وبناتهم أصبحوا بعد

ذلك قادة الفكر والثقافة، ودعاة التحرر والانحلال، ومن الأمثلة على ذلك الجامعة

الأمريكية في بيروت، والتي في أحضانها نشأ العديد من الحركات والجمعيات

العلمانية، وقد سرت العدوى بعد ذلك إلى الكثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية

الرسمية في العديد من البلاد العربية والإسلامية، وقد قام خريجو هذه المدارس

والجامعات بممارسة الدور نفسه حين عادوا لبلدانهم أو ابتعثوا للتدريس في بعض

البلدان الأخرى. وإن المتابع لما ينشر من مذكرات بعض العلمانيين في البلاد التي

لم تبتلَ بهذه المدارس ليتبين له بجلاء ووضوح الدَور الكبير الذي قام به العلمانيون

العرب من الذين استقدموا للتدريس في تربية طلابهم وإقناعهم بالعلمانية، سواء من

خلال التنظيمات الحزبية أو من خلال البناء الفكري الثقافي لأولئك الطلاب.

٥ - من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في

الأقطار العربية والإسلامية، ما بين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية

واجتماعية وثقافية وأدبية، بجميع الألوان والأطياف، وفي جميع البلدان؛ حيث إن

النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو

الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا

إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية، وجميعها تتفق في الطرح

العلماني، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية، وقد

تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية، والسعي لعلمنة الأمة كلٌ

من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله. ومن الأمور اللافتة للنظر أن

أشهر الأحزاب العلمانية القومية العربية إنما أسسها نصارى بعضهم ليسوا من

أصول عربية! أمثال «ميشيل عفلق» و «أنطون سعادة» و «جورج حبش» ،

والكثرة الساحقة من الأحزاب الشيوعية العلمانية إنما أسسها يهود مليونيرات أمثال

«كوريل» .

٦ - من خلال البعثات الدبلوماسية: سواء كانت بعثات للدول الغربية في

الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب؛ فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسوراً تمر

من خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف من خلال الاقتداء، ومن

خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي، والتواصل الاجتماعي، والمناسبات

والحفلات، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بسرٍّ أن

بعض سفارات الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي، أو مجلس

الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة!

٧ - من خلال وسائل الإعلام المختلفة: من مسموعة أو مرئية أو مقروءة؛

لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية صحافة أو

إذاعة أو تلفزة فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان

الرواد في تسويق هذه الوسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو

العلمانيين من أبناء المسلمين، فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات

الأمة، ونشر مبادئ العلمانية وأفكارها وقيمها، وبالذات من خلال الفن، وفي

الجانب الاجتماعي بصورة أكبر.

هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن

يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، فكان كما يقول المثل:

«ضغث على إبالة» ، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنتج العصري تعيش

في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل الإعلامية توظيفاً آخر يتفق

مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها.

٨ - من خلال التأليف والنشر: في فنون شتى من العلوم وبالأخص في

الأدب والفكر؛ فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات

المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء

والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون، وفي الأسلوب والمحتوى،

ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس، والعلوم

الإنسانية المختلفة؛ حيث قدمت لنا نتاج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه

الحق المطلق، بل العلم الأوحد ولا علم سواه في هذه الفنون، وتجاوز الأمر

التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنسب لأمتنا

اسماً، ولغيرها حقيقة، وإن كان الأمر في أقسام العلوم الأخرى من طب وهندسة

ورياضيات وفيزياء وكيمياء وأمثالها يختلف كثيراً ولله الحمد والمنة، وهي الأقسام

أيضاً التي توجه لها أبناء الأمة الأصلاء ممن لم يتلوثوا بلوثات العلمانية، فحاولوا

أن ينقلوا للأمة ما يمكن أن تستفيد منه من منجزات التقدم الغربي مع الحفاظ على

هويتها وأصالتها وقيمها.

٩ - من خلال الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة

في الجانب الاقتصادي؛ لكنها لم تستطع أن تتخلى عن توجهاتها الفكرية، وقيمها

وأنماط حياتها الاجتماعية؛ وهذا أمر طبيعي، فكانت من خلال ما جلبته من قيادات

إدارية وعمالة فنية احتكت بالشعوب الإسلامية سبباً مهماً في نشر الفكر العلماني

وقيمه الاجتماعية، وانعكاساته الأخلاقية والسلوكية، ولعل من المفارقات الجديرة

بالتأمل أن بعض البلدان التي كان يعمل فيها بعض الشركات الغربية الكبرى من

أمريكية وبريطانية لم تبتلَ بالتنظيمات اليسارية، ولم تنشأ إلا في هذه الشركات في

أوج اشتعال الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي.

بعض ملامح العلمانية الوافدة:

لقد أصبح حَمَلَةُ العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودها تياراً

واسعاً متنفذاً غالباً على نخبة الأمة وخاصتها في الميادين المختلفة، من فكرية

واجتماعية وسياسية واقتصادية، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان:

أ - الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري: ويمثله في الجملة أحزاب وحركات

وثورات ابتليت بها المنطقة ردحاً من الزمن، فشتَّتت شمل الأمة ومزقت صفوفها،

وجرّت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد

السوفييتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعيين أمميين، أو قوميين عنصريين.

ب - الاتجاه الليبرالي ذو الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول

الغرب: وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بما أشاعوه من

الإباحية، والتحلل، والتفسخ، والسقوط الأخلاقي، والعداء لدين الأمة وتاريخها.

وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها:

١ - مواجهة التراث الإسلامي: إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات

عصور الظلام والانحطاط والتخلف كما عند غلاة العلمانية أو بإعادة قراءته قراءة

عصرية كما يزعمون لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما

يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، وأعراف اجتماعية، ولم

ينجُ من غارتهم تلك حتى القرآن والسنة، إما بدعوى بشرية الوحي، أو بدعوى أنه

نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة، أو بدعوى أنه مبادئ أخلاقية عامة، أو مواعظ

ورقائق روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة، ولا بيان العلم وحقائقه، ولعل من الأمثلة

الصارخة للرافضين للتراث، والمتجاوزين له «أدونيس» ، و «محمود

درويش» ، و «البياتي» ، و «جابر عصفور» ، ومن لفَّ لفَّهم وشايعهم، وهم

كُثر لا كثَّرهم الله.

أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم: «حسن

حنفي» ، و «محمد أركون» ، و «محمد عابد الجابري» ، و «حسين أحمد

أمين» ، ومن على شاكلتهم، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع

جوانبه.

٢ - اتهام التاريخ الإسلامي: بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير

حضاري، وتفسيره تفسيراً مادياً، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغربية العلمانية

على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى

والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل ما فيه من صفحات

مضيئة مشرقة، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والمنهج الإسلامي

الرباني، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها،

والإشادة بها، والثناء عليها، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة،

والثورة على الظلم مثل: «ثورة الزنج» ، و «ثورة القرامطة» . ومثل تلك

الحركات الفكرية الشاذة، والبعيدة عن الإسلام الحق، وتكريس أنها من الإسلام،

بل هي الإسلام، مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور

تؤدي في نهاية الأمر إلى تشويه الصورة المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة

وأجيالها المتعاقبة.

٣ - السعي الدؤوب لإزالة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم،

والمسيِّرة والمؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله أو زعزتها، من خلال

استبعاد الوحي مصدراً للمعرفة والعلم، أو تهميشه على الأقل وجعله تابعاً لغيره من

المصادر كالعقل والحس، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب،

والسخرية من الإيمان بالغيب، واعتباره في أحسن الأحوال جزءاً من الأساطير

والخرافات والحكايات الشعبية، والترويج لما يسمى بالعقلانية والواقعية والإنسانية،

وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل، وكسر

الحواجز النفسية بين الإيمان والكفر؛ ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر

العولمة، وفي كتابات «محمد عابد الجابري» ، و «حسن حنفي» ، و «حسين

مروة» ، و «العروي» ، وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر.

٤ - خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي، والمسيِّرة للعلاقات

الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار، والطهر والعفاف، وحفظ العهود،

وطلب الأجر، وأحاسيس الجسد الواحد، واستبدالهم بها قيم الصراع، والاستغلال

والنفع، وأحاسيس قانون الغاب والافتراس، والتحلل والإباحية، من خلال

الدراسات الاجتماعية والنفسية، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية، مما هزّ

المجتمع الشرقي من أساسه، ونشَرَ فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه

في تاريخه، ولعل رواية «وليمة لأعشاب البحر» السيئة الذكر من أحدث الأمثلة

على ذلك، والقائمة الطويلة من إنتاج «محمد شكري» ، و «الطاهر بن جلون» ،

و «الطاهر وطار» ، و «تركي الحمد» ، وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي

دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى.

٥ - رفع مصطلح الحداثة لافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد:

والحداثة بوصفها مصطلحاً فكرياً ذا دلالات محددة هذه الحداثة تقوم على مادية

الحياة، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية، وأنسنة الإله، وتلويث

المقدسات، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية، والدراسات الاجتماعية، مما

أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي.

٦ - استبعاد مقولة: (الغزو الفكري) من ميادين الفكر والثقافة، واستبدالها

بمقولة: (حوار الثقافات) ، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية

قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سُنّة التدافع التي فطر الله عليها الحياة، وأن

ذلك لا يمنع الحوار؛ لكنها سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار

العلماني، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني بعد أن تفقد الأمة

مناعتها وينام حراس ثغورها، وتتسلل في أجزائها جراثيم الغزو العلماني القاتل

وفيروساته.

٧ - وَصْم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري عبر

غوغائية ديماجوجية إعلامية غير شريفة، ولا أخلاقية، لتخويف الناس من الالتزام

بالإسلام، والاستماع لدعاته، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء وأحياناً الفظيعة من

بعض المنتمين أو المدَّعين للإسلام، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب

العلماني الذي يُمارس على شعوب بأكملها، وعبر عقود من السنين؛ لكنه عدم

المصداقية، والكيل بمكيالين، والتعامي عن الأصولية النصرانية واليهودية الموغلة

في الظلامية والعنصرية والتخلف.

٨ - تمييع قضية الحِلِّ والحُرمة: في المعاملات والأخلاق، والفكر والسياسة،

وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها، واستخدام هذه المفاهيم في

تحليل المواقف والأحداث، ودراسة المشاريع والبرامج، أي فك الارتباط بين الدنيا

والآخرة في وجدان الإنسان وفكره وعقله، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير

من جوانب الحياة الذي يعجب له من نوَّر الله قلبه بالإيمان، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

٩ - دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفر منه ولا خلاص

إلا به: دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية؛ بل

إنهم ليصرحون بأن أي شيء في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق

بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد المشرق إلى سوق استهلاكية

لمنتجات الحضارة الغربية، والتوسل لذلك بذرائعية نفعية محضة لا يسيِّرها غير

أهواء الدنيا وشهواتها.

١٠ - الاستهزاء والسخرية والتشكيك: في وجه أي محاولة لأسلمة بعض

جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين، ولعل الهجوم

المستمر على المملكة العربية السعودية بسبب احتكامها للشريعة في الحدود

والجنايات من هذا المنطلق، وإن مرَّروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق

الإنسان وحرياته، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغتصب

بعشرات الآلاف، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها

ويدافع عنها، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق، وتدمير تلك

الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية.

١١ - الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية: وبخاصة في الفن، والرياضة،

والطبابة، وشركات الطيران، والأزياء، والعطور، والحفلات الرسمية، وقضية

المرأة، ولئن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية، ومنطلقات

عقائدية، وفلسفة خاصة للحياة، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضوع

المرأة، والسعي لنزع حجابها، وإخراجها للحياة العامة، وتعطيل دورها الذي لا

يمكن أن يقوم به غيرها في تربية الأسرة ورعاية الأطفال، وهكذا العلمانيون

يفلسفون الحياة: يُعطَّل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة، وتُستقدم

مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسدَّ مكان المرأة في رعاية الأطفال والقيام

بشؤون المنزل، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة، فما

المسوغ لمزاحمتها للرجل في كل موقع؟ !

١٢ - الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية: في

الاجتماع والأدب، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام، بل وفي الكليات والجامعات

على أنهم رواد العلم، وأساطين الفكر، وعظماء الأدب، وما أسماء

«دارون» ، و «فرويد» ، و «دوركايم» ، ولا «الألسنية» و «البنيوية»

و «السريالية» ، وغير هذا الكثير مما لا يجهله المهتم بهذا الشأن، حتى إن

بعض هذا قد يتجاوزه علمانيو الغرب، ولكن صداه ما زال يتردد في عالم الأتباع

في الشرق، وكأننا نحتاج لعقود من الزمن ليفقه أبناؤنا عن أساتذتهم هذه

المراجعات.


(*) أستاذ في كلية الشريعة بأبها سابقاً.