للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[عولمة الرأسمالية ورأسمالية العولمة]

أحمد عبد الدايم [*]

بدأ العالم منذ فترة يشهد دعاية واسعة لفكر غربي جديد هو (العولمة) ؛ فقد

بدأت رياح هذا الفكر تجتاح بلاد المسلمين؛ حيث صار الكثير من السياسيين

والمفكرين يستخدمون مصطلح (العولمة) ليكون المخرج من الواقع المظلم الذي

تعيشه الأمة؛ ليخرجها من انحطاطها إلى مدارج النهضة.

والحقيقة أن مفهوم (العولمة) ليس مجرد شعار اقتصادي رأسمالي فحسب،

ولا هو وجه من وجوه الرأسمالية المتعددة الأوجه؛ لكنه فكر رأسمالي شامل لجميع

نواحي الحياة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي

وإن كان الوجه الاقتصادي أبرزها.

إن المتتبع للسياسة الدولية يدرك تمام الإدراك أن أمريكا أصبحت هي المهيمن

على السياسة الدولية، بتفردها في الموقف الدولي وفي إدارة مشاكل العالم وتسويتها؛

ذلك أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج أمريكا وحلفائها منتصرين،

راحت تفكر في السيطرة على العالم وتسلك مع حلفائها من الدول الغربية مسلك قائد

المعسكر؛ لأنها كانت تمدهم بالمال والسلاح والمعدات أثناء الحرب، وبعد أن تذوَّق

أصحاب رؤوس الأموال الأمريكان طعم الربح حين راحوا يشاركون بريطانيا اقتسام

النفط في الشرق الأوسط عزمت أمريكا على أن تخرج من عزلتها التي اختطها

لنفسها بموجب مبدأ مونرو؛ وحتى يتم لها ما تريد من السيطرة على العالم وطرد

الدول الاستعمارية التقليدية من مناطق نفوذها في كل من آسيا وإفريقيا، ومع

بروز الاتحاد السوفييتي قوة عظمى رافعاً شعار المساواة والعدل والتحرر من

الاستعمار الأوروبي عند ذلك أدركت أمريكا أنها إذا سارت على الطريقة نفسها التي

سارت عليها الدول الرأسمالية الأخرى فإنها ستخفق إخفاقاً ذريعاً؛ فكان لا بد من

وضع الخطط والأساليب والوسائل التي تضمن لأمريكا السيطرة على العالم

والانفراد به بوصفها قوة واحدة في العالم، بالإضافة إلى نشر مفاهيم وقناعات المبدأ

الرأسمالي في العالم.

ولذلك عمدت أمريكا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من خلال الرئيس

الأمريكي (ترومان) إلى إجراء مشاورات مع حلفائها بشأن إنشاء منظمة دولية

جديدة تحل محل (عصبة الأمم) التي انهارت بعد خروج ألمانيا منها قُبيل الحرب

العالمية الثانية، ولقد كان الحلفاء حريصين عقب الحرب على مشاركة الولايات

المتحدة في المنظمة الدولية الجديدة بعد الدمار الكبير الذي لحق بهم وبروز الاتحاد

السوفييتي ممثلاً للمبدأ الاشتراكي؛ فقد وافقت هذه الدول على إنجاز جميع

الخطوات والمناقشات المتعلقة بهذه المنظمة، وتم التصويت على إنشائها في (سان

فرانسيسكو) في الولايات المتحدة الأمريكية أواخر شهر نيسان من عام ١٩٤٥م

بحضور خمسين دولة، وتمت تسميتها: (منظمة الأمم المتحدة) ، وتم وضع

ميثاقها لحفظ السلام والأمن العالميين من أجل تطوير علاقات الصداقة بين الأمم

القائمة على احترام حقوق الشعوب وتقرير المصير، وحل المشاكل الدولية،

واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية له، وتفرع عن هذه الهيئة العالمية

الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي وهو أهم هيئات المنظمة،

ويتألف من خمسة عشر عضواً خمسة منهم دائمون وهم أمريكا وروسيا وبريطانيا

وفرنسا والصين، وتفرع عنها كذلك صندوق النقد الدولي، ومن أبرز أغراضه

العمل على تحقيق الاستقرار النقدي الدولي وثبات أسعار الصرف، وجعل موارد

الصندوق في متناول الدول الأعضاء بنسبة حصصها فيها لمساعدتها على تقصير

أمد الاختلال في ميزان مدفوعاتها، وقد كانت طريقة إنشائه مصوغة بشكل يؤدي

إلى هيمنة أمريكا على قراراته؛ فقد جعلوا الأصوات التي تتمتع بها الدول تتوقف

على حصتها في الصندوق، ولما كانت حصة أمريكا هي الأكبر (٢٧. ٢%) من

رأس المال فإن قراراته كانت قرارات أمريكية.

كما تفرع عنها البنك الدولي للإنشاء والتعمير وأبرز أغراضه إعادة إعمار ما

دمرته الحرب، ومساعدة الدول المتخلفة اقتصادياً، وتقديم القروض والضمانات

لدول العالم النامي.

وفي عام ١٩٤٧م أسست أمريكا مع ٢٣ دولة صناعية اتفاقية (الجات) وهي

(الاتفاقية العامة على الرسوم الجمركية والتجارة) ، وتهدف إلى تحرير تجارة

السلع الزراعية والصناعية والمنسوجات والخدمات وتحرير التبادلات التجارية

والتدفقات المالية الناتجة عن العقود الحكومية الضخمة، ولما أخفقت (الجات) في

تحقيق ما أرادته أمريكا من إنشائها لأن الاتفاقيات والتوصيات غير ملزمة للأعضاء

استعاضت عنها بـ (منظمة التجارة العالمية) التي رأت النور في مراكش عام

١٩٩٤م، وبدأ العمل بها ١٩٩٥م.

فكان (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) هذا

الثالوث هو السلاح الفتاك بيد أمريكا للتفرد بالعالم، إضافة إلى ما تمتلكه من قوة

عسكرية واقتصادية وتقدم تقني؛ إذ إن أول خطوة قامت بها الولايات المتحدة

الأمريكية هي ما أطلقه وزير خارجيتها بشأن إعمار أوروبا بعد أن دمرتها الحرب

العالمية الثانية، وهو ما عرف باسم: (مشروع مارشال) ، خاصة أن ثلثي رصيد

العالم من الذهب البالغ خمسة وعشرين مليار دولار من أصل (٣٨) مليار دولار

موجود في أمريكا.

لقد سعت أمريكا لجعل المبدأ الرأسمالي أساس العلاقات والأعراف والقوانين

الدولية منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة؛ حيث جعلت الأعراف الرأسمالية الأساس

الرئيس لميثاق هذه الممنظمة الدولية، إلا أنها لم تنجح عملياً في تحقيق هذا الهدف؛

حيث كان الاتحاد السوفييتي يقود المعسكر الشرقي على أساس المبدأ الاشتراكي،

وتمكن من فرض مبدئه دولياً وعالمياً، ولقد كانت القضايا الدولية محصور بحثها

بين الدول الأربع الكبرى حتى مطلع الستينيات من القرن العشرين حين التقى

الرئيس الأمريكي (كِنِدي) الرئيس السوفييتي (خروتشوف) في فيينا عام ١٩٦١م

واتفقا على إنهاء الحرب الباردة، واقتسام مناطق النفوذ في العالم، وإنزال بريطانيا

وفرنسا عن مكانتهما الدولية، وقد عُرف ذلك بسياسة الوفاق بين العملاقين، وبذلك

انتهت الحرب الباردة التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن أمريكا

كانت تريد القضاء نهائياً على روسيا الاشتراكية؛ ولذلك أعلنت حرب النجوم

وسباق التسلح، واستجابت روسيا لهذا السباق وهذا الصراع إلى أن انتهى بسقوط

الاتحاد السوفييتي وانهياره وتفككه، وكان طبيعياً أن تعتبر أمريكا هذا الانهيار

والسقوط انتصاراً للمبدأ الرأسمالي بوصفه نظاماً وطريقة عيش، وانتصاراً سياسياً

لها.

وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية وخروج القوات العراقية من الكويت وقف

الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش ليعلن على العالم ولادة (النظام الدولي

الجديد) ، ولم يكتف بذلك بل أراد أن يصبح المبدأ الرأسمالي مبدأً عالمياً، أي مبدأ

شعوب الأرض وأممها قاطبة؛ فضلاً عن كونه أصبح المبدأ العالمي الدولي المتفرد

عملياً في الموقف الدولي؛ وبذلك أعلن بوش عولمة الرأسمالية. والعولمة عبارة

عن مصطلح سياسي عرَّفه بعضٌ أنه: (نظام عالمي جديد يقوم على العقل

الإلكتروني، والثورة المعلوماتية القائمة على أساس المعلومات، والإبداع التقني

غير المحدود دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيم والحدود الجغرافية

والسياسية القائمة في العالم) ، وعرَّفه آخرون أنه: (القوى التي لا يمكن

السيطرة عليها للأسواق الدولية والشركات المتعددة الجنسية التي ليس لها ولاء لأية

دولة أو قومية) . والحقيقة أن لفظ العولمة آتٍ من العالمية، والعالمية المقصودة

هنا هي عالمية الرأسمالية أي جعل الرأسمالية مبدأ العالم وحضارته سواء سياسياً

أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ولتحقيق ذلك عمدت أمريكا إضافة إلى ما سبق إلى

الأعمال الآتية:

أولاً: على الصعيد السياسي:

عملت أمريكا على تسويق الديمقراطية، وهي الإطار السياسي للفكر

الرأسمالي، أي نظام الحكم الذي تطبقه الدول الرأسمالية والدول التي تسير على

شاكلتها، وهي تعني عند معتنقيها أن يحكم الشعب نفسه بنفسه بالنظام الذي يضعه

لنفسه، ولذلك دأبت على دعوة الدول إلى تطبيق الديمقراطية باعتبارها مجموعة

مفاهيم عن الحياة، والدول التي لا تسير في مخططها تمارس عليها شتى الضغوط

بما تملك من سيطرة سياسية وسيطرة على وسائل الإعلام العالمية بفضل الثورة

التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة التي خَطَتْها خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة من

القرن المنصرم، فتلوِّح لتلك الدول متهمة إياها تارة بمساندة (الإرهاب الدولي) ،

وتارة أخرى بالدكتاتورية أو عدم احترام حقوق الإنسان، وعدم احترام حقوق

الأقليات، ولعل الورقة التي تستخدمها أمريكا للضغط على الصين هي عدم

احترامها لحقوق الإنسان، وهي دائمة التذكير لها بحادثة (تيان آن مين) عام

١٩٨٨م، وما محاولة أسبانيا محاكمة الدكتاتور التشيلي السابق (بينوشيه) إلا

رسالة إلى من هم على شاكلته من حكام العالم.

ولما كانت أمريكا تريد أن تطبق الديمقراطية بوصفها مجموعة مفاهيم عن

الحياة في واقع الحياة والدولة والمجتمع، وتعمل بجد كي تصبح هذه المفاهيم

مقاييس وقناعات أمم العالم وخاصة الأمة الإسلامية، فقد عملت على إيجاد دول

كرتونية ترفع شعار الإسلام وتدَّعي أنها تطبقه، وهي في الحقيقة لا تطبق منه إلا

بعض الأحكام وبشكل مُشوَّه إلى أن جعلت الناس يضيقون ذرعاً بهم.

وفي الوقت نفسه تقوم بدعم الاتجاهات العلمانية في البلاد الإسلامية سواء من

خلال الأنظمة، أو من بعض من يُقدَّمون للناس على أنهم إصلاحيون؛ وفي الحقيقة

هم علمانيون يعملون لإخراج الإسلام من المجتمع، ويعملون على تعميق مفاهيم

الرأسمالية والحضارة الغربية في المجتمع، ويرسخونها في العلاقات كما هو حاصل

اليوم في إيران وباكستان، وكما حصل من قبل في تركيا وبقية بلاد المسلمين.

وكذلك تسعى أمريكا إلى تغيير هيكلة الدولة لتصبح دولة مؤسسات، وتصبح

الحكومة مؤسسة صغيرة يقتصر عملها على الأعمال الدبلوماسية، وتملك جيشاً

صغيراً ودوائر أمنية وهيئات استشارية تعمل جميعاً لخدمة القطاع الخاص، وإذا

أرادت الحكومة أن تقوم بعمل مالي فيجب أن تتساوى مع أية مؤسسة أخرى؛

فتُعامل معاملة القطاع الخاص.

وبعبارة أخرى أن تصبح الحكومة إحدى مؤسسات الدولة المتخصصة ومهمتها

الحكم بشكل رئيسي؛ فهي تحكم ولا تملك وأما بقية المؤسسات فهي تملك ولا تحكم.

ثانياً: على الصعيد الاقتصادي:

أما اقتصادياً فقد وضعت الخطط والأساليب وبدأت بتنفيذها بعد انتهاء الحرب

العالمية الثانية حتى استطاعت أخيراً أن تُحكِم قبضتها على العالم وتصرِّف أموره

وتحل مشكلاته بالطريقة التي تتناسب مع خططها الاقتصادية وهي حرية التجارة

وحرية السوق، وجعل العالم سوقاً حرة للمنتجات الأمريكية. وحتى تضمن انفتاح

الأسواق العالمية أمام تجارتها وصادراتها عملت على تطويق تحركات شركائها

الرأسماليين الأوروبيين (السوق الأوروبية المشتركة) ببناء تكتلات وتجمعات

تجارية جديدة وإحياء الاتفاقيات القديمة وتنشيطها، فأوجدت اتفاقية (النافتا) وهي

اتفاقية بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك، ثم عمدت إلى إيجاد اتفاقية (الإيباك)

وهي اتفاقية ظهرت إلى الوجود سنة ١٩٨٩م، وهي تضم سبع عشرة دولة في

عضويتها موزعة على ثلاث قارات، وهذه الدول هي: الولايات المتحدة، كندا،

المكسيك، أستراليا، نيوزيلندة، الصين، اليابان، هونج كونج، غينيا الجديدة،

تايوان، بروناي، ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورة، الفلبين، كوريا الجنوبية،

تايلاند، وهذه المنظمة الاقتصادية الدولية تدمج في عضويتها تكتلين اقتصاديين

كبيرين هما: منظمة (النافتا) لدول أمريكا الشمالية و (الآسيان) لدول جنوب

شرق آسيا التي تأسست عام ١٩٦٧م وتضم ست دول هي: ماليزيا، إندونيسيا،

بروناي، الفلبين، تايلاند، وسنغافورة، وتمثل الإيباك في دولها نحو ٤٠% من

التجارة العالمية، هذا بالإضافة إلى الدول الصناعية السبع الكبرى وروسيا التي

أضيفت إليها عام ١٩٩٨م، وهي أمريكا وكندا واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا

وإيطاليا؛ حيث اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية من نادي هذه الدول الغنية أداة

لصنع القرارات الاقتصادية والمالية والتجارية الدولية.

ولقد ظلت اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية) هي

المرجعية للتجارة الدولية، وكانت تلتزم بها جميع دول العالم تقريباً؛ ولكون هذه

الاتفاقية تقتصر على تنظيم العلاقات الاقتصادية والتجارية الداخلية فإن أمريكا

وجدتها غير كافية لتحقيق أغراضها، فعملت على إيجاد اتفاقية بديلة لها على هيئة

منظمة سمَّتها: «منظمة التجارة العالمية» أُعلن عن تأسيسها في المغرب عام

١٩٩٤م، وبدأت العمل الفعلي بداية عام ١٩٩٥م، وقد أضافت إلى اتفاقية الجات

التي ركزت على المنتجات الصناعية المنتجات الزراعية، والخدمات، وحقوق

الملكية الفكرية، والأهم من ذلك أن المنظمة تضمنت مجلساً تحكيمياً للنظر في

الشكاوى والخلافات بين الدول الأعضاء وعددها ١٣٥ دولة، وإصدار قرارات

ملزمة في وقت كانت (توصيات) الجات غير ملزمة.

ومع هذه المنظمة صارت أسواق العالم أو الدول التي انضمت تحت لوائها

مفتوحة أمام المستثمر الأمريكي، ولعل ما أعلنه الرئيس الأمريكي السابق بيل

كلينتون بتاريخ ٨/٣/٢٠٠٠م عن تقديمه مشروعاً إلى الكونجرس بمنح الصين

امتيازات تجارية دائمة في السوق الأمريكية، وطلب الموافقة على هذا المشروع

لضمان استفادة الشركات الأمريكية من اتفاق التجارة الذي سيفتح سوق الصين

الواسعة (١. ٣ مليار) أمام الشركات الأمريكية، وأمريكا دائمة الحث للصين

للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وحالياً تفاوض الصين الدول الأعضاء في

المنظمة من أجل الانضمام إليها.

وقد عقد المؤتمر العاشر للأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في

العاصمة التايلاندية بانكوك في الفترة ما بين ١٢ ١٨ شباط (فبراير) الماضي

بمشاركة (٣٠٠٠) ثلاثة آلاف مندوب عن أكثر من ١٩٠ دولة، أما الأهداف التي

عمل على تحقيقها فهي تتلخص في دفع الدول الفقيرة للحاق بركب العولمة من

خلال الالتزام بمنظمة التجارة العالمية وخرج المؤتمر بوثيقتين:

الأولى عبارة عن برنامج عمل للسنوات الأربع القادمة، وهي تضع أرضية

مشتركة٠ بين أعضاء (الأونكتاد) وعددها ١٩٠ دولة بشأن العولمة والتجارة

وكيفية دمج الدول الثماني والأربعين الأكثر فقراً في عجلة الاقتصاد الرأسمالي

العالمي.

والوثيقة الثانية كانت بشأن التجارة الحرة والتكامل الاقتصادي العالمي

بوصفهما طريقاً لموازنة التنمية والوصول إلى اتفاق أكثر عدلاً بالنسبة

للدول الفقيرة.

والدول التي لا يمكن السيطرة عليها من خلال منظمة التجارة العالمية فإن

صندوق النقد الدولي والبنك الدولي جاهزان للتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة؛

لأن الدول النامية تأخذ القروض وتعجز عن سدادها، سواء القرض الأصلي أو

الفوائد المركبة، فإنها تطلب من تجمُّع الدول الدائنة المسمى بـ (نادي باريس)

وتجمُّع البنوك الدائنة المسمى بـ (نادي لندن) جدولة الديون وأخذ قروض جديدة

لتنشيط اقتصادها، ولذلك يطلب منها ناديا باريس ولندن أن تحضر تزكية من

صندوق النقد الدولي بما يشبه شهادة (حسن سلوك) بأن هذه الدولة تنتهج سلوكاً

اقتصادياً سليماً.

ولكنها للحصول على ذلك يشترط الصندوق عليها تنفيذ برنامج إصلاحي

مكون عادة من تخفيض قيمة العملة، وإلغاء الدعم الأساسي للسلع الأساسية

والضرورية، وتخفيض التوظيف الحكومي، وإصلاح النظام الضريبي، وتخفيض

الإنفاق الحكومي، وزيادة أسعار الطاقة والخدمات العامة والسلع بشكل عام، وزيادة

أسعار الفائدة لتكثير الادخارات وجلب رؤوس الأموال، وتحرير التجارة الخارجية

من القيود أو تخفيفها، كما تطلب خصخصة المشاريع العامة وتحويلها إلى القطاع

الخاص بحجة ضعف إدارة القطاع العام وسوء إنتاجيته وفساد القائمين على إدارته

كما يحدث في الأردن من خصخصة ٤٠% من أسهم الاتصالات الأردنية،

والمباحثات جارية لخصخصة شركات الفوسفات والأسمنت والبوتاس والملكية

الأردنية إضافة إلى وزارة الإعلام؛ حيث سيصار إلى إلغائها.

والأمر الخطير هنا أنه إذا فتحت أسواق بلد ما وسارت أموره حسب سياسات

السوق وحرية التجارة من وجهة نظر الرأسمالية فحتماً ستكون الغلبة في النهاية

للمستثمر الأجنبي وللشركات المتعددة الجنسية؛ بحيث تسيطر هذه الشركات على

الاقتصاد سيطرة تامة، ويكفي أن نعلم أن ٣٧ ألف شركة عملاقة تسيطر على

معظم الاقتصاد العالمي من بينها مائة واثنتان وسبعون شركة تسيطر على خمس

دول هي أمريكا واليابان وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وتقوم الحكومات بمساعدة هذه

الشركات على اختراق الاقتصاد العالمي والسيطرة عليه، حيث ارتفعت المبيعات

فيما بين عامي (١٩٨٢م ١٩٩٢م) من ٣٠٠٠ مليار دولار إلى ٥٩٠٠ مليار

دولار.

ولأن النظرة الرأسمالية هي في حقيقتها نظرة فردية فإن الفقر المدقع سيعم

أرجاء أية دولة من دول العالم النامي بما فيها بلاد المسلمين، وستكون الشعوب هي

الضحايا التي سوف تعاني باستمرار لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وباعتبار

أمريكا نموذج العولمة تقول الإحصاءات إنه بين عامي (١٩٧٩م ١٩٩٠م)

انخفضت دخول ٢٠% من أفقر عائلات أمريكا بنسبة ٢٠%، بينما ارتفعت دخول

٢٠% من أغنى عائلات أمريكا بنسبة ٣٠%، وتقول الإحصاءات أيضاً إنه في عام

١٩٩٨م كان في أمريكا ١٧٠ ملياردير مقابل ١٣ ملياردير عام ١٩٨٢م، ويقول

أحد هذه التقارير إن ثروة (بيل جيتس) وحده مؤسس شركة ميكرو سوفت

للكمبيوتر بلغت في وقت من الأوقات ما يعادل صافي ثروات ١٠٦ ملايين مواطن

أمريكي أي ثلث السكان تقريباً.

ثالثاً: على الصعيد الاجتماعي:

أما اجتماعياً فإن أمريكا تعمل بجدٍّ لفرض نمط الحياة الغربية على العالم،

ولذلك اتخذت من مؤتمرات المرأة والسكان والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان

والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقيات حماية البيئة والتنمية

المستدامة، أسلوباً مباشراً لفرض مفاهيمها حول الأسرة والزواج وحقوق المرأة

وحقوق الطفل والعلاقات الجنسية والإجهاض والشذوذ وكل ما يتصل بالناحية

الاجتماعية في الحياة، وأطلقت من خلالها الدعوات لدول العالم من أجل رفع

تحفظاتها على توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل واتفاقية إلغاء جميع أشكال

التمييز ضد المرأة، وهما وثيقتان خطيرتان تهددان استقرار الأسرة ومستقبلها في

العالم أجمع، وتتوالى الاجتماعات في نيويورك من أجل التأكد من مدى وفاء الدول

والمنظمات غير الحكومية والقطاعات الخاصة بالتزاماتها بمقررات هذه المؤتمرات

والاتفاقيات.

وكمثال واضح على كيفية استخدام أمريكا لهذه المؤتمرات وفقاً للأهداف

الأمريكية فإنها في أبحاث السكان والمرأة والتنمية تنطلق من فكرة الانفجار السكاني؛

حيث تنظر في بحوث التنمية إلى دَوْر ربة البيت على أنه دور استهلاكي أكثر

منه إنتاجي، ولذلك يبحث القائمون على هذه البحوث عن تشريعات تسهِّل عمل

المرأة، ويركزون على تغيير نظرة المجتمع إلى المرأة، وإيجاد نظرة جديدة

وأنماط سلوكية جديدة في حياة الأسرة، ثم ينتقلون إلى وجوب أن تكون زيادة عدد

السكان أقل من التنمية الاقتصادية، ويعملون لتحقيق ذلك من خلال مؤتمري السكان

والمرأة في محاولة للوصول إلى قرارات بشأن تأخير سن الزواج، والسماح

بتعاطي الجنس بغير قيود، وتقليل الإنجاب بالتوفير المجاني لوسائل منع الحمل.

كما أكدت الوثيقة التي انبثقت عن مؤتمر (بكين) على حرية الإنسان في تغيير

جنسه، وعلى حق الفتاة أو المرأة بالتمتع بحياة جنسية آمنة مع من تريد وفي أي

سن تريد، وفي الخامس من شهر حزيران الماضي (٢٠٠٠م) عقد في نيويورك

مؤتمر لتقييم التقدم المنجز في تطبيق مقررات مؤتمر المرأة الثالث الذي عقد في

نيروبي عام ١٩٨٥م ومراجعته، ولعل ما قامت وتقوم به الحكومة الأردنية

والمصرية والمغربية والكويتية وغيرها من الحكومات في البلاد الإسلامية في هذا

المجال يدل دلالة قطعية على السير الفعلي الذي تنفذه الدول النامية من مقررات

المؤتمرات والاتفاقيات سابقة الذكر من منظور أنها استحقاق لسياسة العولمة التي

يفرضها الغرب الكافر بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

ففي الأردن على سبيل المثال تم تغيير قوانين المالكين والمستأجرين، وقانون

العمل، والخدمة المدنية، وتعليمات الأحوال الشخصية، وجوازات السفر،

والسماح للجنسين بالاختلاط في المسابح، كما تم إدخال مفهوم النوع الاجتماعي

(الجندر) في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعامي (١٩٩٩م ٢٠٠٠م) ،

والقاضي بعدم تخصيص فصل خاص بالمرأة، ودمج قضاياها ضمن فصول الخطة

وقطاعاتها المختلفة ضماناً لتكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في كافة المجالات،

وما تقوم به المنظمات الحكومية أو غير الحكومية بشأن إلغاء المادة ٣٤٠ من قانون

العقوبات، ومراكز تحديد النسل وتنظيم الأسرة، وشرطة الأسرة والخط الساخن

للشكوى على ذوي الأمر اللذيْن أُنشئا مؤخراً؛ كل ذلك إنما يدل على طبيعة

التغييرات الاجتماعية التي تريد الولايات المتحدة فرضها على العالم ومنه البلاد

الإسلامية باعتبار ذلك نتيجة واستحقاقاً لعولمة المبدأ الذي تقوم عليه.

فإذا نظرنا إلى العولمة باعتبارها غزواً فكرياً ومواجهة حضارية بل فرضاً

لنمط من العيش فإن آثاره المدمرة لا تزال كامنة في الشعوب التي تعيشه وتحياه،

ولا يزال المشرِّعون الذين شرَّعوا أفكاره وأحكامه مشغولين في تشريع الأفكار

والأحكام التي تُرقِّع ما أحدثه هذا النمط من العيش من مآس للبشرية، ومن شرور

ترزح تحتها الشعوب التي تعتنقه وتطبقه في حياتها ولا تملك منه فكاكاً بعد أن

أصبح لهذا النمط في بلادهم من العراقة ما يجعل الانفكاك منه أمراً في غاية

الصعوبة.

وغني عن القول أن مواجهتها ومواجهة ما يتساقط منها من أفكار ومشاعر

وأنماط سلوكية خصوصاً في ظل وسائل الاتصالات الحديثة وإمكانياتها الضخمة لا

يكون إلا إذا أدركت الأمة خطورتها عليها وعلى دينها وعلى مستقبل أجيالها من

بعدها، وأدركت في الوقت نفسه كيفية مواجهتها، ووثقت بنفسها ثقة لا حد لها،

ليس لتخليص نفسها فحسب من هذه الشرور، بل لإنقاذ العالم كله وتخليصه من هذا

المبدأ الخطر على الإنسان والمهدد بقاءه على الأرض بالفناء.

ولا شك أن المخلصين الواعين من أبناء هذه الأمة وهم المبصرون طريق

الخلاص وطريق الانعتاق من قبضة الكفر هم المعوَّل عليهم في شق الطريق وهداية

الجموع المؤمنة لتسير معهم في اجتثاث هذه الحضارة النتنة من جذورها، وتخليص

العالم من آثارها المدمرة التي لا تزال تعاني منها البشرية حتى اليوم.


(*) كلية الدعوة وأصول الدين عمان الأردن.