للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في رياض المصلحين

[منهج الشيخ ابن عثيمين في تعليمه للعلم]

علي بن عبد الله السلطان [*]

الحديث عن منهج شيخنا رحمه الله في تعليمه للعلم حديث عن وقت من أنفس

ساعات حياته؛ حيث إن المتتبع لبرنامجه اليومي يرى أنه أوقف حياته رحمه الله

على ذلك؛ فقد كان التعليم ونشر هذا الدين هو شغله الشاغل وهمه الذي لا يكاد

ينفك عنه.

فبعد أن أمضى رحمه الله أول حياته في تحصيل العلم النافع وتمكن فيه امتثل

أمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بنشر هذا العلم وتبليغه وإعطائه

للناس عبودية لله وشكراً له ولئلا يكون مثل [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ

يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (التوبة: ٣٤) ، وممتثلاً لقوله صلى الله عليه وسلم:

«بلغوا عني ولو آية» [١] .

وكان أول جلوسه للطلاب سنة ١٣٧١هـ في حياة شيخه عبد الرحمن ابن

ناصر السعدي رحمه الله حتى آخر ليلة من رمضان سنة ١٤٢١هـ؛ فقد أمضى

رحمه الله قرابة خمسين سنة «نصف قرن» في نشر هذا العلم.

والحديث عن نشره للعلم ليس في الجامع الكبير في عنيزة فقط، ولا في

عنيزة أو في القصيم أو في بقية مدن المملكة التي يصل إليها بنفسه؛ بل حتى التي

لا يصل إليها بنفسه من مدن المملكة العربية السعودية أو خارج المملكة عبر وسائل

الاتصال كما سيظهر ذلك إن شاء الله في ثنايا هذا الحديث.

هذا وسيكون الحديث عبر المحاور الآتية:

المحور الأول: المراحل الزمنية.

المحور الثاني: طريقته في التعليم.

المحور الثالث: المجالات التي من خلالها بَذَل علمه.

المحور الأول: المراحل الزمنية:

مرت حياته رحمه الله في نشر العلم عبر ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: من سنة ١٣٧١هـ حتى منتصف سنة ١٣٧٦هـ.

المرحلة الثانية: من جمادى الآخرة سنة ١٣٧٦هـ حتى سنة ١٤٠٠هـ.

المرحلة الثالثة: من سنة ١٤٠١هـ حتى نهاية شهر رمضان ١٤٢١هـ.

وإليك تفصيل ذلك:

المرحلة الأولى: من سنة ١٣٧١هـ حتى منتصف سنة ١٣٧٦هـ.

هذه المرحلة تمثل أولى بدايات جلوسه رحمه الله للتعليم وذلك بإذن من شيخه

الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وإن كانت هذه المرحلة غير منتظمة حيث

سافر خلالها للدراسة في الرياض وعاد. وكان يقوم بتدريس فئة من الطلاب حسب

ما ذكره من ترجمة للشيخ في حياته رحمه الله.

المرحلة الثانية: من رجب سنة ١٣٧٦هـ حتى سنة ١٤٠٠هـ.

وهذه المرحلة تمثل جلوسه للتدريس بعد وفاة شيخه في جمادى سنة ١٣٧٦هـ

لطلاب العلم، وقد كان جُلُّهم في أوائل تلك الفترة من زملائه في الطلب

وشاركهم غيرهم. وقد مرَّت هذه المرحلة والطلبة بين مد وجزر من حيث العدد

تؤثر فيهم صوارف الحياة بين إقبال وإدبار، وقد أدركناهم وعددهم لا يتجاوز

العشرة، ومن بينهم بقية من طلاب الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وفي

آخر هذه الفترة التحق بدرسه مجموعة من الطلاب لازمه بعضهم إلى آخر حياته

رحمه الله.

وحسبي من هذا الإيراد وقفة مهمة ينبغي التفطن لها، وأن تكون لطالب العلم

على بال، وأن يقف عندها كل من سلك هذا الطريق؛ وهي أن تتصور مدى صبر

الشيخ رحمه الله وتحمله للفترات التي تمر على الطلبة من حيث الإقبال والإدبار

والمد والجزر؛ حتى إنه خلال ما يقرب من عشرين سنة من ١٣٧٦هـ حتى

١٣٩٦هـ كان العدد الذي بقي معه لا يزيدون على العشرة، بل ربما لا يتجاوزون

الاثنين أو الثلاثة أحياناً؛ فللَّه درُّ شيخنا من صاحب همة عالية تتساقط دونها كثير

من الهمم؛ فلم تلن له قناة، ولم ينثنِ له عزم، بل صبر وصابر على انصراف

الناس وعزوفهم وزهدهم في العلم.

وهذا يصور لنا جانباً من صفحات صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل

والنشر. عشرون سنة من ١٣٧٦هـ ١٣٩٦هـ وحصيلتها عشرة طلاب يزيدون

أو ينقصون قليلاً! لقد كان رحمه الله أستاذاً فريداً في الصبر والنظر إلى المستقبل،

ولعله يترجم هنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلاً

واحداً خير لك من أن يكون لك حُمر النَّعم» [٢] نحسبه كذلك.

المرحلة الثالثة: من ١٤٠١هـ حتى نهاية شهر رمضان ١٤٢١هـ.

انطلقت هذه المرحلة بنحو من ذلك العدد أو يزيد قليلاً عما كان عليه في

المرحلة السابقة يزيدون يوماً فيوماً؛ فإذا بالصف في الحلقة يصبح صفين وثلاثة،

وهكذا في نمو متتابع.

ثم إذا بالحال غير الحال؛ حيث انتقل طلاب في دراساتهم وآخرون في

أعمالهم إلى عنيزة وما حولها رغبة في لزوم الشيخ وثني الركب عنده، بل هناك

فئة أخرى قدمت إلى عنيزة مُوقِفَة نفسها على طلب العلم مكتفية من متاع الدنيا بما

يهيئه الشيخ من أمور على قدر الحاجة التي تخفف عنهم أعباء الانقطاع لطلب العلم

والغربة، حتى صارت مجالس دروسه مهوى أفئدة كثير من طلاب العلم، وصار

طلابه من غالب مدن المملكة، بل من الدول الأخرى، حتى إنه بلغ عدد جنسيات

الطلاب الذين ارتادوا دروسه ومجالسه العلمية ما يقرب من ثلاثين جنسية.

وبلغ عدد طلابه في بعض الدروس قرابة الخمسمائة؛ فالحمد لله الذي أقر

عين شيخنا بذلك بعد مكابدة تلك السنين، وجعل ذلك في ميزان حسناته.

المحور الثاني: طريقته في التعليم:

طريقة شيخنا رحمه الله في التعليم تتبلور فيما يلي:

أولاً: تأثره بشيخه الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله.

ثانياً: موقفه من التعصب المذهبي.

ثالثاً: عرضه لمسائل الخلاف.

رابعاًَ: أسلوبه في إلقاء الدرس.

خامساً: حرصه على حفظ المتون.

وإليك بيان ذلك:

أولاً: تأثره بشيخه الشيخ عبد الرحمن السعدي:

يقول شيخنا رحمه الله عن نفسه: «لقد تأثرت كثيراً بشيخي عبد الرحمن

السعدي رحمه الله في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلاب بالأمثلة

والمعاني.

والمنهج الذي سلكه الشيخ عبد الرحمن رحمه الله هو منهج خرج به عن

المنهج الذي يسير عليه علماء نجد في زمانه في غالبيتهم؛ حيث اعتماد المذهب

الحنبلي في الفروع من مسائل الأحكام الفقهية، بل كان كثيراً ما يتبنى آراء شيخ

الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويرجحها على المذهب، فلم يكن عنده الجمود

تجاه مذهب معين، بل كان متجرداً للحق» انتهى كلامه رحمه الله.

هذا وقد انطبعت هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه شيخنا محمد رحمه الله فلم

يكن تبنيه رحمه الله لآراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم نابعاً عن هوى

أو تقليد، بل كان متجرداً للحق حيثما وجد؛ فهو ضالته ومطلبه، بل إنه رحمه الله

خالف شيخ الإسلام ابن تيمية في عشرات المسائل أكثر من مخالفة شيخه السعدي

لشيخ الإسلام، وكان رائد الجميع رحمهم الله البحث عن الحق أنى وجد.

وأخيراً يقول الشيخ عن نفسه: «والحقيقة أن انتقال والدي رحمه الله إلى

الرياض كشف لي مدى الحب الذي يكنه لي الشيخ السعدي رحمه الله إذ أصر في

طلب بقائي بجواره في عنيزة للاستزادة من العلم، وكاتب والدي فوافق، فبقيت

بجوار شيخنا السعدي، وأجدني اليوم متأثراً به كثيراً» اهـ.

ثانياً: موقفه من التعصب المذهبي:

لم يكن رحمه الله في طرحه العلمي مركِّزاً على المذهب الحنبلي الذي كان

يدرِّس متونه، بل كان يحث طلابه بعلمه وعمله على توخي القول الصحيح، وإن

خالف المذهب مع لزوم الأدب مع العلماء والاعتراف بفضلهم وما بذلوه من جهد في

هذا المضمار؛ فالمرجع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وعلى هذا

سار في تعليمه وفتواه، بل تأثر به بعض علماء عصره حتى ممن يكبره سناً.

وكان معظماً للأمر الذي عليه دليل من الكتاب أو السنة ومقدماً لهما على كل

قول حتى إنه يقول منكِراً على من يخالفه: «لو قال لكم أحد: إن هذا القول قول

العالم الفلاني لأكبرتموه واشرأبت إليه أعناقكم، كيف وهذا قول رسول الله صلى

الله عليه وسلم!» .

ويرى رحمه الله أن المتعصب لمذهب أو شخص مع أن الدليل خلافه مُقْدم

على خطر عظيم؛ وذلك أنه أي بتعصبه يستلزم تقديم قول غير الله تعالى ورسوله

صلى الله عليه وسلم؛ وهذا خطير جداً.

صحيح أن الإنسان يتأثر إذا تفقه على يد عالم أو على مذهب معين يتأثر بهذا

العالم أو بهذا المذهب؛ وهذا لا يستلزم أن يكون الإنسان متعصباً لهذا المذهب أو

لذلك الرجل، وهذه مسألة يجب التفطن لها وهي أن طالب العلم إذا تبين له الدليل

فعليه أن يتبعه حيثما كان؛ لأن الله سبحانه يقول: [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ

فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ] (الشورى: ١٠) ، ويقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ

إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء: ٥٩) .

ويقول سبحانه: [وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ]

(القصص: ٦٥) .

ثالثاً: عرضه لمسائل الخلاف:

أما عرضه لمسائل الخلاف أثناء الدرس فكان رحمه الله يعرضها بكل تجرد؛

حيث إنه يبدأ بتقرير المذهب وكم من مسألة خالف فيها المذهب وأخذ بالقول الراجح

فيها، وكم من مسألة أخرى بيَّن رحمه الله أن الحجاوي ذهب إلى غير القول

الراجح في المذهب ثم يعرض لأحد الأقوال في المسألة، ويسرد أدلته وحججه

ويبينها أيما بيان حتى تظن من عرضه وبيانه لها أنه لا يمكن ردها؛ بل كأنه بهذا

العرض ينتصر لها وأنه القول الراجح.

ثم ما إن يعرض للقول الآخر وأدلته وحججه ويبينها حتى يبدأ برد أدلة القول

السابق أو توجيهها وترجيح القول المختار مما يظهر غزارة علمه وعدم تعصبه

لقول إلا بدليله.

وهو مع هذا منصف لمخالفيه ملتزم بأدب الخلاف.

وكان لا يقبل من أحد أن يذكر له شخصاً بعينه من العلماء المعاصرين وإنما

يقال: قال: بعض أهل العلم؛ حتى يمكن مناقشة قوله بكل تجرد.

هذا وله قدرة على الاستنباط من الأدلة الشرعية، وكان رحمه الله أحياناً

يكلف أحد طلابه ببحث بعض المسائل لتمرينهم على البحث العلمي، ثم يطلب منه

في وقت الدرس قراءة البحث على الطلاب ويقوم الشيخ بالتعليق عليه.

رابعاً: أسلوبه في إلقاء المادة العلمية:

كان رحمه الله يلقي دروسه بأسلوب عجيب يتجه إلى القلب، وكان يكره من

سامعيه عدم التركيز أو الانشغال بأمور أخرى غير الدرس وذلك بمفاجأتهم بقوله:

«ما قلنا؟» أو سؤالهم عن معلومة كان يشرحها، وأحياناً يوقف الكلام لا لإرادة

الوقوف وإنما ليكمل الطلاب الجملة ليعرف مدى اتصالهم بالدرس، وأحياناً يحرك

الحضور من خلال الأسئلة، ولا ينتقل من نقطة إلى أخرى حتى يشعر أنها قد

فهمت، ولربما أعاد وكرر؛ وكل ذلك حرص منه على فهم المتلقي عنه.

هذا وكان له اهتمام بسلامة اللغة؛ حيث تميز رحمه الله بلغته العربية وفهمه

لها وعدم تكلفه في إلقائها والتكلم بها، مما أعطاه فهماً للنصوص، وانطبع ذلك على

اهتمامه بسلامة لغة طلابه وحرصه عليها مع ما يجده من معاناة من الطلاب في ذلك.

كما أنه قد خصص ليلة الجمعة من كل أسبوع لإلقاء كلمة من أحد الطلاب قبل

الدرس والشيخ في مجلسه في الدرس يستمع، ثم يعلق الشيخ رحمه الله على الكلمة؛

وكم في هذه الطريقة من تعويد للطلاب على الإلقاء!

خامساً: حفظ المتون كان رحمه الله يولي هذا الموضوع أهمية خاصة؛ حيث

كان يسمِّع بنفسه للطلاب ولا يكتفي بواحد أو اثنين بل ربما ذهب جزء كبير من

الدرس للحفظ، وكان يقول: «لم يبق معنا شيء إلا ما حفظناه في الصغر» .

المحور الثالث: المجالات التي بذل علمه من خلالها:

ولعل هذا الباب هو صلب دراستنا عن شيخنا رحمه الله؛ وعليه فإن

المجالات التي من خلالها بذل علمه تتلخص فيما يلي:

أولاً: الدروس العلمية.

ثانياً: الدروس العامة والمحاضرات.

ثالثاً: اللقاءات.

رابعاً: الفتوى.

خامساً: ذهابه وإيابه من المسجد.

سادساً: منبر الجمعة.

سابعاً: التعليم النظامي.

ثامناً: عبر الإذاعة.

تاسعاً: عبر بعض الصحف والمجلات.

عاشراً: عبر الشريط.

الحادي عشر: الإنترنت.

ودونك تفصيل ما سبق:

أولاً: الدروس العلمية: وهذه أساس عطائه، وقد كانت على فترتين:

الأولى: دروس ما بعد صلاة المغرب حتى الإقامة لصلاة العشاء. وهي في

جميع أيام الأسبوع وطيلة العام ما عدا شهر رمضان ما دام الشيخ في عنيزة حتى

في أيام الامتحانات، إلا أن الدراسة في هذه الفترة أعني فترة الامتحانات تقتصر

في الغالب في جميع الليالي على قراءة صحيح البخاري ومسلم أو تصحيح كتاب

في الفترتين.

وما أذكر أن الشيخ تخلف عن درس المغرب إلا لعارض مع أنه قد يأتي ولو

في آخر الوقت إذا عرض له عارض حرصاً منه على الاستمرار وعدم الانقطاع

مستحضراً ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: «أحب الأعمال إلى الله

أدومها وإن قل» [٣] هذه الفترة كانت بعد صلاة المغرب حتى أذان العشاء فقط، ثم

ينتقل الشيخ بعد أذان العشاء لدرس لعموم الناس حتى الإقامة وذلك في مشكاة

المصابيح أو بلوغ المرام، وهذه الطريقة كانت حتى عام ١٤٠٠ هـ تقريباً.

وحينما زاد عدد الطلاب غلَّب الشيخ حاجتهم إلى هذا الوقت، فجعل الوقت

كله من بعد صلاة المغرب إلى إقامة صلاة العشاء للدروس العلمية للطلاب.

وكانت على ما يلي:

أولاً: من بعد صلاة المغرب حتى أذان العشاء، وكانت على النحو الآتي.

ليلة السبت: حديث، «بلوغ المرام» .

ليلة الأحد: فقه، «زاد المستقنع» .

ليلة الإثنين: حديث، «بلوغ المرام» .

ليلة الثلاثاء: فقه، «زاد المستقنع» .

ليلة الأربعاء: تفسير، من أول القرآن، ولم يكن هناك كتاب بين يدي

الطلاب بل كان الشيخ يشرح من المصحف مباشرة.

ليلة الخميس: صحيح البخاري، وصحيح مسلم.

ليلة الجمعة: تفسير.

مع تقديم وتأخير أحياناً وبشكل نادر مراعاة لأحوال الطلبة.

ثانياً: ما بعد أذان العشاء الآخرة حتى الإقامة:

كانت هذه الفترة تدرس بها مختلف الفنون على فترات، وذلك مثل العقيدة:

كتاب التوحيد، العقيدة الواسطية، والفرائض: الكافي في الفقه. والسيرة النبوية:

نور اليقين. واللغة: ألفية ابن مالك، قطر الندى. وغيرها مما يكون عارضاً.

وبهذه المناسبة فإنه رحمه الله لم يكن ينظر متى ينتهي من الكتاب، أو أن

طول السنين ستوهن من عزيمته، بل هو سائر على طريقته دون تغيير لمنهجه في

الطرح العلمي، وإشباعه المسألة بحثاً.

حتى إنه قيل له مرة حينما بدأنا ببلوغ المرام على هذه الطريقة: يا شيخ! قد

نحتاج إلى عشرين سنة لإنهائه! فما كان منه إلا أن استمر في طريقته حتى أنهى

الكتاب والحمد لله، وقد بُدئ بالكتاب حوالي سنة ١٤٠٠هـ وأنهاه سنة ١٤١٧هـ

وذلك بعد قرابة ثمانية عشرة سنة.

هذا وقد كانت بعض دروس هذه الفترة في الآونة الأخيرة تنقل عبر الهاتف

إلى بعض مدن المملكة، بل وإلى البحرين، حتى إن الشيخ رحمه الله كان يقسم

الأسئلة بعد نهاية الدرس بين طلابه الحاضرين والذين في البحرين في وقت واحد.

الثانية: الدراسة الصباحية:

وهذه في الجامع الكبير في عنيزة، وكانت إلى ما قبل عام ١٤٠٠هـ داخل

مكتبة الجامع «المكتبة الوطنية» وهي مكتبة ملحقة ببناء الجامع يوم كان بناؤه من

اللبن والطين، ثم لما كثر الطلاب بعد ذلك خرج منها إلى أروقة الجامع.

والدراسة من حيث الزمان في صيف كل عام؛ حيث إن الشيخ يقف في نهاية

الإجازة ثم يكمل في العام التالي.

أما مدة الدراسة فهي طيلة أيام الأسبوع ما عدا يومي الثلاثاء والجمعة على

طريقة شيخه الشيخ عبد الرحمن السعدي، ثم لما كثر الطلاب رأى حاجتهم تقتضي

الاستمرار طوال الأسبوع ما عدا الجمعة.

ولضبط الوقت وحتى لا يطغى وقت درس على آخر جعل رحمه الله منبهاً

قبل خمس دقائق من نهاية كل درس ليكون للأسئلة، ثم الانتقال إلى الدرس الذي

بعده، دون فاصل بين الدروس وهو مستمر في جلسته، أما الوقت الزمني فيبدأ من

الساعة الثامنة حتى العاشرة والنصف أو الحادية عشرة أحياناً.

أما المنهج العلمي فهو كما يلي:

١ - التفسير وقد اعتمد في شرحه متناً بين يدي الطلاب وهو تفسير الجلالين،

إلا أن التسجيل الصوتي لهذه الدروس بدأ متأخراً.

٢ - الحديث: وقد اعتمد في شرحه «المنتقى من أحاديث الأحكام» ، وكان

له أحياناً اختيارات لبعض الأحاديث يمليها على أحد طلابه.

٣ - الفقه: وقد اعتمد متن «زاد المستقنع» ، وهذه دراسة مستقلة عن

دراسة المساء.

٤ - العقيدة: وقد تعددت كتبها؛ فمنها السفارينية، وكتاب التوحيد،

والواسطية، والقواعد المثلى.

وهذه الدروس الأربعة ثابتة كل يوم في الغالب ويزاد أحياناً درس خامس

لبعض الفنون ومنها:

- الفرائض: البرهانية. النحو: ألفية ابن مالك. القواعد الفقهية: قواعد

ابن رجب، ومختصر التحرير. مصطلح الحديث، والوصول من علم الأصول.

هذا ومع ما نرى من كثرة الكتب المقررة في الفترة المسائية والصباحية؛ إلا أنه

رحمه الله غالباً ما يكون اختياره الكتاب من حيث المتن والوقت شورى بينه وبين

طلابه.

وإن المتأمل في حاله رحمه الله يراه جامعة مستقلة؛ فتدريسه طوال العام.

وفي الإجازة الصيفية في مختلف الفنون مع ما نرى حال استعداد كثير من المدن

بالدروس والدورات العلمية الصيفية التي يجندون لها الأعداد الكثيرة من العلماء

وطلبة العلم لتدريس سائر الفنون، ربما يجد المنظمون لهذه الدروس والدورات

الحرج في تأمين من يقوم بها، بينما نجد مجلس شيخنا أبي عبد الله في دورة علمية

متكاملة لا في الصيف وحده بل في سائر العام وفي فترة واحدة وجلسة واحدة متنقلاً

من فن إلى فن.

ثانياً: الدروس العامة والمحاضرات:

أ - الدروس العامة وهي على ما يلي:

١ - دروس ما بعد صلاة العصر: وكان يقرأ عليه خلال هذا الوقت في كل

من رياض الصالحين أو بلوغ المرام أو مشكاة المصابيح ويعلق على ذلك بما يفتح

الله عليه.

وكان هذا طيلة أيام الأسبوع في المسجد الكبير ما عدا يوم الجمعة.

وإذا سافر إلى الرياض أو الطائف فغالباً ما يستغل هذا الوقت.

٢ - درس ما بعد أذان العشاء حتى الإقامة، وهذا كان إلى حوالي عام

١٤٠٠هـ، وكان مما يدرس فيه مشكاة المصابيح، أو بلوغ المرام، ثم انقطع هذا

الدرس وخصص هذا الوقت بدرس للطلاب على ما سبق تفصيله في الدروس

العلمية.

ب - دروس المسجد الحرام:

١ - درس ما بعد صلاة الفجر في الحرم المكي في رمضان، وكان في عمدة

الأحكام.

٢ - درس ما بعد صلاة التراويح في الحرم المكي، وغالباًَ ما يكون تعليقاً

على بعض الآيات التي تليت تلك الليلة أو كلمة مناسبة لتلك الليلة، ثم الإجابة على

الأسئلة الواردة، ووقت هذا اللقاء من بعد صلاة التراويح ويستمر قرابة ساعة

ونصف في العُشرَيْن الأولين من رمضان، وبعد دخول العشر الأواخر يكون الدرس

ما بين التراويح والقيام في الغالب.

ج - المحاضرات:

وهذه كان له فيها نصيب أوفى في أماكن كثيرة؛ فحيثما دعي لبَّى النداء

رحمه الله حسبما يسمح له وقته، وهي على نوعين:

النوع الأول: محاضرات مباشرة، ومن أبرزها تنظيمه لمحاضرة في الجامع

الكبير وهو اللقاء الشهري بعد العشاء من أول ليلة أحد من كل شهر، وغيرها من

المحاضرات الدورية في الجامعات والمجمعات.

النوع الثاني: محاضرات عبر الهاتف، وكانت في داخل المملكة العربية

السعودية وخارجها لبعض المراكز الإسلامية من بيته، وقد خصص رحمه الله رقماً

هاتفياً لإلقاء هذه المحاضرات غير هاتف الفتوى والهاتف الخاص، وقد رتب بعض

الإخوة في الآونة الأخيرة له محاضرة شهرية لمسجد التوحيد في مدينة (ديترويت)

في أمريكا، ويرتبط مع هذا المسجد أحياناً قرابة مائة مسجد أو مركز أو تجمع،

وذلك من أمريكا وكندا وأوربا في وقت واحد.

ثالثاً: اللقاءات:

وهي خاصة (اللقاء الأسبوعي) ، وعامة (اللقاء الشهري) :

أ - الخاصة:

١ - درس عقده لخاصة طلابه ليلة السبت من كل أسبوع بعد صلاة العشاء

في منزل أحد الطلاب بالتناوب، وكانت القراءة في كتاب الكافي.

٢ - درس للقضاة ليلة الأربعاء من كل أسبوع بعد صلاة العشاء في منزله،

وكان يقرأ فيها ما له علاقة بالقضاء كالطرق الحكمية، وإعلام الموقعين لابن القيم.

ب - العامة:

١ - لقاؤه مع قسم العقيدة في فرع جامعة الإمام في القصيم ليلة الأحد مرة في

الشهر.

٢ - لقاؤه بالخطباء ليلة الثلاثاء مرة في الشهر.

٣ - لقاؤه بطلاب السكن ليلة الأحد مرة في الشهر.

٤ - لقاؤه بأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليلة الأحد مرة

في الشهر.

٥ - لقاؤه بطلاب المعهد العلمي في عنيزة أول إثنين من كل شهر.

٦ - لقاؤه بأعضاء جمعية تحفيظ القرآن ليلة الإثنين مرتين في الشهر، وكان

رئيساً لمجلسها طيلة حياته رحمه الله.

٧ - لقاؤه ببعض طلاب العلم من خارج عنيزة ليلة الخميس مرة في الشهر.

رابعاً: الفتوى:

ومع أن الشيخ رحمه الله قد خصص للفتوى وقتاً معيناً إلا أن المتتبع للأمر لا

يكاد يحصرها بوقت معين؛ فقد كانت في المسجد أو في طريقه إلى المنزل أو في

سفره وتنقلاته، وحتى في حضوره المناسبات وبعد دروس المسجد الحرام؛ مع أنه

قد خصص وقتاً للفتوى عبر الهاتف من بعد صلاة الظهر حتى إذا جاء وقت غدائه

قرَّب الهاتف عنده؛ فهو وإن كان يغذي جسمه بما يحتاجه لما يقيمه إلا أنه في

الوقت نفسه يغذي بل يشفي غليل سائليه بما أشكل عليهم، وكان بعض النساء يأتين

إلى الجامع ليسألن الشيخ عن بعض أمورهن، فيخرج لهن عند باب المسجد؛

وربما أخر الدرس أحياناً حتى تقضي المرأة مسألتها، وإذا سافر من عنيزة سجل

في هاتفه الرقم الذي سيكون عليه في البلد الآخر حتى يسهل الاتصال به.

خامساً: ذهابه وإيابه من المسجد:

اعتاد الشيخ أن يذهب إلى المسجد ويعود منه على قدميه مع بُعد المسجد عن

بيته وإن كان هذا الوقت من الزمن قد لا يأبه به كثير من الناس، إلا أن شيخنا

رحمه الله قد رأى لهذا الوقت قيمته؛ ففي ذهابه خصصه لنفسه، وفي إيابه جعله

للناس؛ فكم من كتاب قد صُحِّحَ عليه وقرئ عليه، ناهيك عن أصحاب الحاجات

والفتاوى الذين يرافقونه حتى يصل إلى بيته، بل قد يقف عند الباب أحياناً حتى

ينهي حاجة سائليه.

سادساً: منبر الجمعة:

الحديث عن منبر الجمعة لا تفي بحقه هذه الأسطر؛ فالشيخ خلال ما يزيد

على خمس وأربعين سنة ظل خطيباً للجمعة وخطبتي العيدين، والاستسقاء. وقد

وظف الشيخ هذا المنبر لتعليم الناس أمور دينهم؛ فكانت خطبته تشتمل على

معارف وفوائد علمية قلَّ أن تجدها عند غيره ناهيك عن الموعظة وتذكير الناس،

وقد عرف عنه أنه إذا كان مسافراً للرياض أو الطائف أو غيرها أنه يعود إلى

عنيزة أحياناً ليلقي خطبته ثم يعود دون أن يظهر تبرماً أو مشقة.

سابعاً: التعليم النظامي:

وذلك أنه رحمه الله درَّس في كل من معهد عنيزة العلمي، وفرع جامعة الإمام

محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، فكان محط أنظار الجميع، وقد استفادت منه

أجيال متتابعة.

وأصعب ما واجه الشيخ في هذه الفترة هو تصحيح الإجابات حتى إنه اشتهر

عنه ذلك سواء كانت أعمال السنة أو في الاختبارات الفصلية؛ لأن منها إجابات

يصعب تقويمها لوجود خلل فيها يحير الإنسان: ماذا يحسم عليها من الدرجات،

فيقف متحيراً بين الأخذ بالحزم والأمانة، وبين الاحتمالات التي يحتملها الجواب

المقدم إليه.

ثامناً: عبر الإذاعة:

كان للشيخ رحمه الله وجود في هذا الميدان، وقد ساهم في بعضها، واستقل

بشيء منها، ومن ذلك: «نور على الدرب» ، «سؤال على الهاتف» ،

و «من أحكام القرآن» ، و «برامج موسمية عن الحج والصوم» ونحوها.

تاسعاً: عبر بعض الصحف والمجلات:

كان له رحمه الله ركن للإفتاء في بعض الصحف والمجلات.

عاشراً: عبر الشريط:

ولِمَا للشريط من سهولة في التداول والاستماع فقد أوْلى رحمه الله الشريط

عناية خاصة؛ حيث إن جميع دروسه وفتاواه السابق ذكرها قد سجلت إلا ما ندر

حتى إنه خص إحدى دور التسجيل بإخراج دروسه وفتاواه لتتوحد العناية بها وهي

مؤسسة الاستقامة الإسلامية بعنيزة.

الحادي عشر: الإنترنت:

وهذا المجال وإن كان لم ينسق مع الشيخ فيه إلا متأخراً إلا أنه رحمه الله قد

أوْلى العناية بذلك في كل ما يتعلق بالإنترنت إلى لجنة خاصة تعنى بشؤونه.

وأخيراً: فإن ما كتبته عن شيخنا رحمه الله في هذا الموضوع لا أدعي فيه

الكمال لا من حيث التقسيم ولا الحصر ولا الوصف؛ فقد فاتني منه ما هو من عادة

البشر، والكمال لله سبحانه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه،

والحمد لله رب العالمين.


(*) أستاذ في معهد عنيزة العلمي، ومن خواص تلاميذ الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى.
(١) أخرجه البخاري، ح/ ٣٤٦١.
(٢) أخرجه البخاري، ح/ ٤٢١٠، مسلم، ح/ ٣٤٠٦.
(٣) أخرجه البخاري، ح/ ٦٤٦٤، مسلم، ح/ ٢٨١٨.