للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قديم جديد

التجارة من أسباب امتلاك أوربا للشرق

للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله

لقد علم الأوربيون أن حرب الدراهم والدنانير، أنجح من حرب المدافع

والبواريد، وقد امتلكوا بهذه الحروب الذهبية والفضية أكثر بلاد الشرق، فالإنكليز

ما استولوا على الهند بتكتيب الكتائب، وسوق الأساطيل بالفيالق والجحافل، وإنما

هي جمعية تجارية وطأت المسالك ومهدت السبل تظلها السلطة ويؤيدها النفوذ اللذان

يقيمان حيث تقيم، وكذلك شأن شركة النيجر في أحشاء أفريقية، واليوم ينعم

الإنكليز على الحكومة المصرية بثمانمائة ألف جنيه ونيف لافتتاح السودان وتصرح

وزارتهم بأن الإنصاف يقضي عليهم بمساعدة مصر بالإنفاق على فتح السودان لأنها

شريكتها بفوائده التجارية ومعناه أن تستأثر بالتجارة وتختص دون أوربا بهذا الفتوح

المعنوي الذي يتبعه التملك اسماً ومعنى كما هو المعهود في الهند والنيجر وغيرهما، ومعلوم أن الحكومة المصرية لا تجارة لها وبهذا يحتج عليها المحتلون في إجبارها

على بيع سكك حديد السودان بعد الفتح.

يقولون إن فائدتها العسكرية تنتهي بالفتح والحكومة المصرية لا تجارة لها ولا

يليق بها التجارة فمن المصلحة أن تباع هذه السكك لشركة تجارية ويرجح الإنكليز

على سائر الأجانب بما أنفقوا من أموالهم وما أرهقوا من -رجالهم والحمد لله لا

شركات وطنية لنا فنقول إنها ترجح وتقدم حتى على الإنكليز.

ابتاع أخوان من الفلاحين عدة من الدجاج (الفراخ) لأجل تربيتها والانتفاع

ببيضها، وكان أحدهما ذكياً والآخر بليداً مغفلاً، فقال الذكي للبليد تعال نقتسم واتفقا

في القسمة على أن تكون الدجاجات للبليد وبيوضها لأخيه فكان هو يتعاهدها بالأكل

والشرب والمبيت وينفق عليها ويخلي بين أخيه وبين بيوضها ويأكل منها ما شاء،

وصار الأخوان مثلاً في بلدهما في تلك القسمة الضيزى.

كذلك شأن الإنكليز مع الحكومة المصرية في السودان وشأن سائر الأوربيين

في فتوحاتهم المعنوية يقنعون بامتلاك المنافع وثمرات البلاد ويدعون الاسم لأهلها،

ولكن إلى أجل مسمّى حتى إذا ما جاء الأجل يصرحون بالامتلاك الاسمي أيضاً.

كل هذا والشرقيون وادعون ساكنون وإذا تحركوا فإنما تكون حركتهم ميلاً مع

ريح الأجانب انخداعاً لها أو رهبة منها لاندهاشهم بعظمتها التي ما جاءتها إلا من

الشركات المالية وهي أيسر شيء عليهم لا سيما قبل تمكن الأجانب من بلادهم، لو

أن للشرقيين عقولاً ذكية وتربية وطنية لما رضوا أن تكون بلادهم بينهم وبين

الأجانب كالدجاجات بين ذينك الأخوين فكيف والأمر أعظم من ذلك) ولقاوموا جنود

التجارة الفاتحة أشد المقاومة.

اندفع الغرب على الشرق بخميس من الأزياء وكتائب من الحلي وجحافل من

الماعون النفيس وفيالق من اللذائذ فلم تجد هذه الجنود المجندة من الشرق أقل مقاومة

ولا أدنى مدافعة فطفقت تفتك في النفوس بعوامل الترف وفي الأموال بعوامل

السرف وما زال القوم يعدون هذه العوامل من علائم الشرف حتى وقفت بهم على

شفا جرف وأكبتهم على مناخرهم في مهاوي التلف.

لا ننكر أن من هذه الجنود ما لا قبل لنا بدفعه الآن كالضروري من الأدوات

والماعون والنسيج، وكلامنا إنما هو في الزخارف الكمالية كالحلي وماعون الزينة

ومادة الترف من الأشربة وغيرها فهذه هي التي تنسف ثروة البلاد وترميها بالفقر

والعجز، فرب حاكم أو مسئول ينفق على الترف والبذخ ما يكفي لإنشاء مدارس أو

معامل يحيي بها صقع من الأصقاع أو إقليم من الأقاليم.

فالترف مدعاة الدمار والفناء الاجتماعى إذا لم يقرن بتربية صحيحة تقي من

أدوائه وتعصم من بلائه، فعسى أن يتنبه الشرقيون لما ذكرنا فيحترزون من مضار

الترف وتقليد الإفرنج بما يعود عليهم وعلى بلادهم بالدمار ويجتهدون بتربية أولادهم

تربية دينية وطنية لعلهم يستردون ما فقدوا، ويسترجعون ما سلبوا، وما ذلك على

الله بعزيز.

المنار ١/١٧