للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[تأملات في المسألة الشارونية]

عبد العزيز كامل

إذا كانت الديمقراطية عند من يؤمنون بها هي أصدق تمثيل لإرادة الشعوب؛

فإن شخصية أرييل شارون الذي انتخب مؤخراً لزعامة (إسرائيل) بكل ما فيه من

إجرام، هي المعبِّر الحقيقي عن إرادة الشعب الإسرائيلي؛ في المرحلة الحالية

حيث كان فوز هذا الإرهابي ساحقاً (٦٢. ٥%) ، ولم تُسبق هذه النسبة في الفوز

لرئيس وزراء إسرائيلي قبله.

* شرور شارون كانت أكبر مؤهلاته للفوز بثقة الشعب الإسرائيلي وتفويضه،

وهي ثقة تمتد على طول الخط الواصل بين جرائمه الماضية وتهديداته المستقبلية

أثناء دعايته الانتخابية، ولا بد لمن يراهنون على تحسن درجاته في (السيرة

والسلوك) بعد أن أصبح رجل دولة ألا يتجاهلوا سيرته الماضية الحمراء وبرامجه

المقبلة السوداء.

* سِجِلُّ شارون الماضي يقول: كان يحمل هراوة يضرب بها الأطفال

الفلسطينيين في الأربعينيات عندما كان صبياً، وعندما أصبح مجنداً في سلاح

المظلات كان له دور أساس في ضرب المدنيين الفلسطينيين في مذبحة قرية (قبية)

في الخمسينيات، أما في الستينيات فكان أحد الجنرالات الذين شاركوا في قهر

العرب في حرب ١٩٦٧م، وفي السبعينيات قاد عملية (ثغرة الدفرسوار) في

مصر التي قلبت موازين حرب أكتوبر ١٩٧٣م، وفي الثمانينيات دبر حرب لبنان

وما تبعها من مذابح صابرا وشاتيلا ١٩٨٢م، أما في التسعينيات فقد تفرغ

للاستيلاء على الممتلكات العربية لتوسيع المستوطنات اليهودية.

* أما برامجه لجرائمه المستقبلية في العقد الثامن من عمره لا أطال الله بقاءه

فتبدو معالمها من خلال تصريحاته وتهديداته التي أطلقها في الشهور القليلة الماضية،

ومنها: التهديد بطرد الفلسطينيين إلى الأردن التي قال إنها من (أرض إسرائيل)

التاريخية تهديد السلطة الفلسطينية بإعادة نفي رموزها للمرة الثانية على يديه إلى

خارج فلسطين تهديد مصر بإغراقها بمياه السد العالي إذا فكرت في إرسال قوات

إلى سيناء المنزوعة السلاح وكان قد قال منذ عامين فقط: لو كان الأمر بيدي

لضربت جميع العواصم العربية بالصواريخ الإسرائيلية بعيدة المدى!

* مع كل ذلك فقد تلقى التهاني (الحارة) بالفوز من عرفات وغيره، وأبدى

الجميع استعدادهم لبدء مرحلة جديدة من (سلام الشجعان) ! معه، أما هو فقد

اشترط فقط قبل بدء مفاوضات السلام (الهدوء التام) وأضاف على لاءات باراك

الأربع أربع لاءات أخرى وهي: لا لإبعاد الجيش الإسرائيلي عن نهر الأردن، لا

للالتزام باتفاقيات السلام السابقة، لا للعودة إلى حدود ١٩٦٧م، لا للتنازل عن

المسجد الأقصى أو تقسيم القدس.

* كان للعرب لاءاتهم أيضاً (في الماضي) ، وكان منها: لا للاعتراف

بإسرائيل، لا للجلوس معها على مائدة المفاوضات، لا للتفريط في (شبر) ، وفي

رواية في (حبة رمل) من الأرض العربية! والعمل جارٍ الآن على قدم وساق لـ

(إقناع) اليهود بالتنازل عن لاءاتهم كما تنازل العرب عن لاءاتهم، وتكفيك نظرة

واحدة في مطبوعة واحدة من الدوريات العربية الشهيرة في الفترة الأخيرة، لترى

أنه لم يبق أمام المنظرين والمحللين والسياسيين العرب إلا الرهان على ذلك

(الإقناع) .

* اليهود يبنون على ما سبق أن بنوه ولا يتركون عهداً أو اتفاقاً مع العرب إلا

نكثوه؛ فعندما بدأت مباحثات مدريد أفصح (شامير) بعدها أنه كان ينوي ترك

المفاوضات تدور مدة عشر سنين في الفراغ، وبعدما أُعلن عن اتفاقيات أوسلو التي

وقَّع عليها (إسحاق رابين) وشارك فيها (بيريز) نقضها (نتنياهو) ، واتفاقيات

(واي ريفر) التي وقعها نتنياهو نقضها (باراك) ، والاتفاقيات المبدئية التي

توصل إليها باراك في طابا مؤخراً تنصل منها (شارون) ! ! وهكذا تحقق ما تعهد

به شامير منذ عشر سنوات، وكانت مجمل نتائج عملية السلام حتى الآن الدوران

في حلقة مفرغة.

* كل زعيم يهودي يأتي لمرحلة ويمهد لمن بعده؛ لأن كلاً منهم ليس إلا أداة

للتنفيذ في يد زعامات أكبر، وقد مهد باراك لشارون بقصد أو بدون قصد وهيأ

لمرحلته بدءاً من إعادة تلميعه في الإذن له بالزيارة المدججة بالجنود للمسجد

الأقصى، وانتهاءاً بأداء منافسة هزيلة أمامه في الانتخابات، وملامح المرحلة التي

مهَّد بها باراك لشارون عنوانها: (كشف الغطاء) ؛ فقد قال باراك في خطاب

الاعتراف بالهزيمة الانتخابية مستعرضاً أهم إنجازات عهده القصير: «حكوماتنا

حققت وللأبد تحديد الخطوط مع الفلسطينيين والسوريين، لقد كشفنا الأغطية عن

جارنا الخصم دون أن نتنازل عن شيء، وجسسنا النبض، وأزلنا فعلاً الأقنعة» .

* ويبدو أن الكذوب صدق فيما قال؛ فبالفعل نجح باراك في كشف الغطاء

عن سوريا بالانسحاب من جنوب لبنان حتى لا تبقى لها حجة في بقاء جيشها هناك،

وكشف الغطاء عما يسمى (حزب الله) الشيعي الرافضي حتى تظل عملياته

المتوقعة ذرائع مدخرة لأي عمل إسرائيلي ضد سوريا أو لبنان، وكشف الغطاء عن

السلطة الفلسطينية عندما اضطرها لرفض ما أسماه (التنازلات التاريخية) التي

قدمها في كامب ديفيد الثانية؛ لأن ما كان مطلوباً مقابلها هو التنازل عن الأقصى

فأظهرها بمظهر المعاندة للسلام وللحل النهائي!

* بعد كشف هذه الأغطية لم يعد شارون في حاجة إلى تجميل صورته أو

تحسين سلوكه بالسلام كما يراهن الواقعيون العرب؛ بل هو في حاجة فقط إلى

غطاء دولي لما تدبر له المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي لا يهمها تقلبات السياسة

وأهواء الساسة، بل يهمها شيء واحد هو تحقيق (سلام اليهود) الذي لا يتحقق

أبداً إلا بالحرب؛ فالسلام في مفهومهم يعني الأمن، والأمن يعني الهيمنة العسكرية

المطلقة، والهيمنة العسكرية المطلقة لا يمكن أن يحققها إلا جيش يؤمن باستمرار

الحروب.

* قال بعض الزعماء العرب جواباً عن سؤال حول استعداد العرب للحرب:

«الحرب هذه أصبحت موضة قديمة» ! ! مع أن الأعداء لم يلقوا السلاح بعد،

ولم يغلقوا أو يفككوا ترساناتهم المدمِّرة بعد، ولم يقولوا هم عن الحرب إنها موضة

قديمة، بل هي عندهم آخر صيحة، تحتاج فقط لأول طلقة!

فما أفقه أطفال الحجارة وما أذكاهم وأزكاهم وهم يحطُّون عن الأمة بعض آثام

القعود الجماعي عن الجهاد، بل حتى عن نصرة المجاهدين!

لقد جيء بشارون لهؤلاء وأمثالهم؛ لأنه لم يعد خطراً إلا هم، فاللهم أيدهم

عليه، ولا تمكنه منهم، ولا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، آمين.