للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

[أيام الصمت]

عبد الله بن محمد السويلمي

آلى على نفسه أن يصمت، أن يجرب الصمت الذي رغَّبَ فيه الدين، وحث

عليه الحكماء ومدحه الشعراء، ولكن كيف يصمت وهو المهذار الثرثار؟ ! كيف

يصمت وهو الجَدِلُ اللجوج؟ ! كيف يصمت وهو صاحب الإحساس المرهف،

تهزه البسمة وتصرعه النسمة؟ ! طرح هذه الأسئلة على نفسه وقال: هل أنتِ

مستعدة للحرب مع الكلام؟ ! قالت: وكيف يحارَب الكلام، وبأي سلاح أحاربه؟ !

قال: نعم! يحارب الكلام بضده، وبضدِّها تتبين الأشياء. قالت النفس: ويحك!

قتلتني بكثرة كلامك معي؛ فكيف إذن تريد أن تصمت؟ !

قال: أنا الآن أسكت. وبدأ لحظة التنفيذ، وبدأت لحظات الصمت، وصام

عن الكلام، وبدا وكأنه قطعة أثاث.. استمر على ذلك عاماً يعيش المعاناة والمتعة

معاً، يرد السلام فقط، ويذكر الله ولا يخوض مع الخائضين، ولا يجادل ولا

يماري، يستمتع بحديث الآخرين، وهم يستمتعون بصمته ويتساءلون: أحقاً

استطاع فلان أن يكون من الصامتين؟ ! إنها لإحدى العبر! ! ومرت الأيام،

واستمرأ الصمت، وارتاح من الضجيج والإزعاج، وأدرك أنه كان مدمناً للكلام،

وبدأ يفكر وتحركت عنده طاقة الإبداع، وما شيء أحب إليه من أن يبوح للناس بما

توصل إليه؛ ولكن ذلك لا يكون إلا بكلام، وهو يعيش أيام الصمت، إذن ما الحل؟

أيكتب خواطره؟ أم يكتم مشاعره؟ القلم أحد اللسانين؛ فربَّ صموت بلسانه

مهذار بقلمه، وترجح لديه أن يلجم قلمه كما حبس لسانه.

أيُّ قدرة أسعفته حتى أمسك عن الكتابة؟ ! يا لها من إرادة! ومرت أيام

الصمت ثقيلة طويلة، لكنه يتأمل فيها كثيراً ويستمتع فيها بالسكون. وذات يوم

زاره صديق عزيز على نفسه يحبه كثيراً، ولم يره منذ زمن طويل، كان خارج

البلاد فعاد بعد زمن الغربة.. هو صديق عمره، وجليس طفولته، وأنيس

مشاعره.. إنه الامتحان الصعب في حياته، وفي زمن صمته.. رحَّب به وبادله

الحب وسأله عن أحواله باختصار.. وشرع صديقه يخبره عن أيام دراسته في

الخارج، وعن رحلاته وعن مشاعره ومشاغله وصاحبنا صامت لا يزيد على

التعجب.

ولعله لفت انتباه صديقه أنه لا يقاطعه كما عهده.. ولا يعلق على كلامه ولا

يعترض.. وبعد أن أنهى صاحبه الكلام انتظر تعليقاً، انتظر مشاركة.. انتظر

تفاعلاً.. فلما لم يتكلم طرح عليه هذا السؤال بقوة: أمريض أنت؟ ما لك صامت

كأني أحدث الحجر؟ ! .. أجابه: لستُ بمريض ولستَ تحدِّث حجراً.. إذن ما بك

ساكتاً لا تتكلم؟ قال: لقد تكلمت أنت ما فيه الكفاية وأنا أستمتع بكلامك.. وقد

أفدتُ منه كثيراً..

انصرف صديقه متعجباً متأملاً.. يحدث نفسه: أحقاً هذا فلان؟ ! .. لقد تغير

كثيراً، لقد زانه الصمت وأسبل عليه ليلاً من السكون، وألبسه تاجاً من الوقار..

وبدأ الناس يتحدثون عن صمت فلان، وكيف استطاع هجر الكلام حتى علم

بذلك محافظ المدينة.. فسأل عن حاله.. فقيل: كان مهذاراً ثرثاراً يتحدث وهو

نائم.. وفجأة انقلبت حياته فشحَّ بالكلام حتى كأن ليس في فيه لسان.. ولو عُدَّ البُكم

في هذه البلدة لعُدَّ منهم.

فقال المحافظ: هذا جدير بأن يكرَّم، هذا صاحب إرادة لا تقهر، لعلِّي أجعله

على سرِّي فهو خليق بذلك.. وطلبه المحافظ: فأجاب.. ودخل عليه مسلِّماً

ساكناً.. فسأله المحافظ: كيف وجدت الصمت؟ فقال: مستريح ومستراح

منه.. فقال: هل لك في الكلام وتكون جليسي؟ فقال: ثمن مجالسة الحكماء

الصمت. وما شرفني بزيارتك إلا ذلك.. فقال: فهل تقبل أن تكون في خدمتنا

من الآن؟ فقال: أنا في خدمتكم من قديم الزمان. فقال المحافظ: لقد رسمنا بأن

تكون على سرِّنا، وأن تكون من المقربين لدينا.. فشكره على ثقته وانصرف بعد أن

استأذنه.

حدَّث نفسه قائلاً: من الآن يا نفس بدأت الحرب مع الكلام.. قالت: والأيام

التي مضت؟ قال: كانت تدريبات واستعدادات.. قالت: إذن فلا طاقة لي

بمصاحبتك فَائذن لي بمفارقتك.. قال: إن استطعت فافعلي.. وبدأ يتردد على

المحافظ ويجلس صامتاً لا يشارك في الحديث ولا يتكلم مع أحد، إن سئل أجاب..

وإن أُمِرَ نفَّذ.

وذات يوم حدَّثه المحافظ بحديث خطير.. وقال له: آن لك أن تتحمل أثقال

الأسرار، وأن تُستودع دقائق الأخبار.. قال: قُلْ؛ فكأن قد مضى حديثك في

مسارب الزمن، أو طوته عجاف القرون..

وبعد أن أنهى المحافظ حديثه الخطير والرجل ينصت له بغاية الاهتمام قال:

فهمت؟ قال: بل نسيت..

وعاد يحدث نفسه قائلاً: أرأيت يا نفس! كيف ارتفع قدرك بالصمت بمجالسة

الأمراء، ومصاحبة الفضلاء؟ أرأيت كيف أصبحت محرماً للأسرار، ومستشاراً

للأخبار..؟ !

قالت النفس: هل آن لك أن تعلن الانتصار على الكلام؟ قال: ما هكذا

يصنع العقلاء؛ دعي الحقائق تتحدث عن نفسها.. والأيام دول.. وما أضمن

نفسي.. فربَّ غالب اليوم يُغلب غداً.