للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ندوات ومحاضرات

العلمانية والفن

(١-٢)

وائل عبد الغني

ضيوف الندوة:

* د. إبراهيم الخولي أستاذ البلاغة والأدب المتفرغ بكلية اللغة العربية جامعة

الأزهر.

* د. عبد العظيم إبراهيم المطعني أستاذ البلاغة والأدب المتفرغ بكلية اللغة

العربية فرع إيتاي البارود جامعة الأزهر.

* د. حلمي محمد القاعود أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة

طنطا.

* الأستاذ: محمود خليل الإعلامي المعروف وعضو رابطة الأدب الإسلامي

العالمية.

البيان: موضوع هذه الندوة غاية في الوضوح غاية في التعقيد يلمس أثره

المؤمن بإيمانه، ويكشف أبعاده المدقق بإمعانه. والقضية تحتاج في ابتدائها إلى

تحديد مفهومي العلمانية والفن باتخاذهما مدخلاً لمعالجتها.

ماهية العلمانية:

* د. إبراهيم الخولي:

قضية العلمانية هي قضية المجتمع الإسلامي المعاصر ليس اليوم فقط وإنما

منذ فترة طويلة؛ فالعلمانية في العالم الإسلامي هي راسب من رواسب الاستعمار،

وإذا كانت تبدو اليوم عالية الصوت فليس لكونها استفادت قوة؛ وإنما لأن مواجهتها

في العالم الإسلامي هي التي منيت بالضعف، وهي تأخذ مفهومين متطورين: في

البداية أخذت مفهوم فصل الدين عن الدولة، وانتهت إلى نبذ الدين جملة ومحاربته

حرباً لا هوادة فيها. وكلنا يعرف مقولة ماركس الشهيرة: «الدين أفيون

الشعوب» ، ولذلك رأى الماركسيون ومن لف لفهم من العلمانيين أن الدين هو

المسؤول الأول عن طغيان الرأسمالية والطبقية، وعن المظالم الاجتماعية،

وعن جرائم مؤسسات البنية العليا، وأن الدين هو المسؤول عن تخدير الشعوب

واستكانتها لجلاديها ومن ثم لا صلاح للمجتمع الإنساني إلا بإقصاء الدين

جملة.

والعلمانية وافد غريب على مجتمعاتنا لا مكان لها فيها؛ لأنها نشأت حلاً لمعضلة

واجهها المجتمع الغربي النصراني ولم يكن أمامه من حل سوى اللجوء إليها؛ حيث

بدأ العقل الغربي يتمرد على الكنيسة بعد أن قطع في الحركة العلمية في المجال

التجريبي شوطاً، وبعد أن صادرت الكنيسة العقل، وصادرت العلم، وصادرت

حق الحياة. وبعد صراع مرير إلى جانب صراع آخر على السلطة بين الأمراء

والكنيسة انعتق من استبداد الكنيسة وبدأت مرحلة جديدة من المهادنة بين «الكنيسة»

السلطة الدينية و «الحركة العلمية» من جهة، وبين السلطة الزمنية «الحكام»

من جهة أخرى، وهنا بدأت العلمانية بمعناها المبكر فصل الدين عن الدولة

بتقاسم السلطة: للكنيسة سلطتها على ضمائر الناس وعلى قلوبهم، وللسلطة الزمنية

السيطرة على كل ما يتصل بشؤون الحياة والتوجيه والتشريع، وتصبح العلاقة بين

الكنيسة والدولة الناشئة التي بدأت فكرة السيادة على مفاهيمها العلاقة: (لا مساس) .

وفي تقديري أن هذا كان لوناً من المكيافيلية ريثما تستحكم قوة الدولة المدنية

لتحميهم ثم تنتقل إلى المرحلة الثانية التي تجاوزت العلمانية فيها الاكتفاء بمجرد

الفصل إلى إقصاء الدين جملة عن توجه الحياة، ثم تمادى هذا التيار وانتهى إلى ما

نسميه بـ (الإلحاد العلمي) الذي ساد أوروبا شرقاً وغرباً، وانتهت المسألة بأن

أصبحت العلمانية أخيراً تساوي الإلحاد وتعني إقصاء الدين جملة وتفصيلاً عن

المجتمع وعن توجيه الحياة فيه. ولم تجد الكنيسة بداً من أن تستسلم لهذا؛ وأظن

أن التلاعبات التي حدثت بعد هذا تسري آثارها اليوم بشكل أشد حدة.

* د. حلمي القاعود:

العلمانية نتاج المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث، وقد تأكدت في

القرنين الأخيرين بسبب الخواء الروحي والعقدي الذي يعيشه الأوروبيون من ناحية،

وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية من ناحية أخرى، ولعل ثورة كالفن ولوثر التي

عرفت فيما بعد باسم الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية (البروتستانتية) كانت

مقدمة لكسر الهيمنة الكنسية، وفصم عرى العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والدولة، أو

بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية.

وإجمالاً، فإن العلمانية كانت إجراء يهدف إلى إزاحة سيطرة الكنيسة على

الحكومة في أوروبا، خاصة بعد أن تنوعت مظالم القساوسة ورجال الدين ضد

المجتمع، ووقوفها ضد العلم، وإحراق بعض الفلاسفة والعلماء بسبب آرائهم أو

كشوفاتهم، ومن أشهر الأمثلة على ذلك «سبينوزا» صاحب مدرسة النقد التاريخي

الذي كان مصيره الحرق، و «كوبرنيكس» الذي حرَّمت الكنيسة كتابه:

«حركات الأجرام السماوية» الذي نشر عام ١٥٤٣م، و «جردانو» الذي

صنع تلسكوباً فعذب عذاباً شديداً وعمره آنئذٍ سبعون عاماً، وتوفي ١٦٤٢م.

والعلمانية تعني (غير الدينية) أو (الدنيوية) ومفهومها بالمصطلح

الإنجليزي secularism لا علاقة له بالعلم science أو المذهب العلمي

scientism، ولأن العلمانية بعيدة عن الدين؛ فقد اهتمت بما يسمى تحرير

العقل، وإضفاء صفات الألوهية على الطبيعة، وتطبيق المنهج التجريبي، مما أدى

إلى إنكار أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان، وإقامة الحياة على أساس مادي

صرف، وهو ما تبلور في شيوع الإباحية والقبول بالفوضى الخلقية وهدم كيان

الأسرة.

وكان نصيب العرب والمسلمين من العلمانية غير قليل؛ حيث تسللت إليهم

عبر جيوش الاستعمار منذ حملة نابليون على مصر والشام ثم حملات الإنجليز

والفرنسيين والأسبان على بلاد العرب، فأدخلوا القوانين الأوروبية (خاصة القانون

الفرنسي) وغيروا نظم التعليم، ووجهوا المتعلمين إلى الثقافة الأجنبية وإهمال

الثقافة الإسلامية التي تمثل ثقافة البلاد وكان إعلاء شأن الثقافة الأجنبية واحتضان

المهتمين بها من أبناء المسلمين عاملاً مؤثرًا في إهمال شأن الثقافة الإسلامية؛ بل

ازدرائها وتحقيرها.

ماهية الفن:

* د. عبد العظيم المطعني:

الفن في الأصل يمكن تعريفه ببراءة ينبغي أن تكون فيه بأنه «القول الجميل»

ثم اتسع مفهومه من القول ليشمل العمل، فتولد عنه المسرح منذ القديم، ثم

زاحمته السينما والشاشة الصغيرة كما يقولون الآن. وهو نتاج فكري خاص يتميز

عن أنواع التفكير الأخرى.

والذي يقابل الفن مع شيء من التسامح العلم. والعلم أيضاً نتاج عقلي؛ لكن

رسالة العقل في حيز العلم نستطيع أن نشبهها بالمرآة تعكس ملامح الصورة التي

تقف أمامها، ومعنى هذا أن يكون نتاج العقل في حيز العلم خبراً مطابقاً للواقع، أما

نتاج العقل في مجال الفن فيتلون حسب الرؤية الخاصة بمن يعمل في مجال الفن؛

فالعقل ليس مقيداً في مجال الفن بحدود الواقع ولكن له حرية القفز فوق هذا الواقع،

وله حق تصويره حسبما يراه الفنان على ما هو عليه في الواقع؛ ولذلك قالوا: إن

العلم موضوعي والفن ذاتي، وتعني موضوعية العلم أنه حقائق يدركها جميع

العقلاء كالمعادلات الرياضية وما أشبهها.

أما الفنون فنتاج ذاتي يتلون تلون صاحب النموذج؛ فلو أتينا بعالمين طبيبين

مثلاً ليتحدثا عن الشيب في رأس الإنسان فسوف يتحدثان عن الأسباب والمظاهر

البيولوجية المصاحبة للشيب سواء كان في سن مبكرة أو متأخرة.

لكن إذا عرضنا هذه الظاهرة على أديبين فسوف يختلفان، وقد حدث هذا

بالفعل؛ إذ رآه أحدهما سيفاً مسلطاً على رقاب العباد وأنه نذير للنهاية، بينما رآه

آخر لمعة بيضاء تنم عن كمال التجربة وخبرة الأيام عند الإنسان؛ ومن هنا فإن

الفنان يتمتع بحرية شرط أن يكون صادق الإحساس مع نفسه غير متكلف.

والفن بعد هذا يعتمد على عناصر أربعة، يشترك العلم معه اشتراكاً أساسياً

في عنصر منها وهو المعنى؛ لأن كلا النموذجين لا بد أن يحمل فكرة أو معنى، ثم

يختلف الفن بعد ذلك بأنه يغلف بالخيال، وأن تشيع في روحه العاطفة، وأن تكون

اللغة رومانسية وليست كلاسيكية. تقوم على التفخيم والتهويم والتجسيم.. سواء

كان هذا الفن شعراً وهو أرقى أنواع الفنون، أو نثراً كالقصة والأقصوصة أو كان

غير ذلك.

ومن هنا نحن نتحدث عن الفن في مرحلة قراءته بأنه الفن الجميل برؤية

خاصة تكون وراءها تجربة للفنان أو الأديب، وسعة خيال يتشكل به النموذج؛ هذا

هو الفن، ومجاله أوسع بكثير من مجال العلم باعتبار الحرية التي يتمتع بها الفنان.

وقد حكي عن بعض الصحابة وهو النابغة الجعدي أنه قال بيتاً من الشعر أمام

النبي صلى الله عليه وسلم:

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

وهنا يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم من زاوية نقدية مُوجِّهَة فقال له:

«أين المظهر بعد ذلك يا أبا ليلى؟» فأوقعه في حرج، ثم تدارك أبو ليلى قائلاً:

إلى الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: «أجل! إن شاء الله» [١] .. هذا النموذج

النبوي الكريم فيه رد مفحم على دعوى تتفجر هذه الأيام بعد أن اصطبغ الفن

بالصبغة العلمانية: بأن الأدب لا سلطان لأحد عليه لا من ناحية الدين أو التقاليد

والعادات، ولا من ناحية السياسة، وإنما الذي يحكم على الأديب المبدع حسبما

يدَّعون هو الأديب المبدع، وفيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هنا رد على

هذا الادعاء؛ إذ كف عليه الصلاة والسلام مبالغة شاعر بريئة، ونبهه إلى أنه جنح

في خياله؛ ولكن الله ألهم الشاعر فرد بما أرضى النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا فإن الفن أداة لتطوير المجتمع وإمتاعه وإقناعه وخدمته، والفن في

تاريخ الأمة سبق تحولات خطيرة في التاريخ: نبَّه على عيوب فتلافتها الأمة،

بصَّر بحقائق يجب أن يدان لها ويعمل من أجلها؛ وصدق الشاعر:

ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناة العلا من أين تؤتى المكارم

* د. حلمي القاعود:

يمثل الفن جزءاً من ثقافة أي أمة من الأمم، وقد عرفت الثقافة الإسلامية فنوناً

قولية وشعبية انتشرت في البلاد العربية والإسلامية وخاصة فنون الشعر الغنائي

والنثر الفني والسير الشعبية والقصص الخيالية والتاريخية، فضلاً عن فنون

الهندسة المعمارية والرسم والخط والزخرفة سواء على الورق أو الجدران أو

المحاريب أو مداخل القصور والمساجد.. وغير ذلك.

بيد أن الاحتكاك مع حركات الاستعمار الأوروبي وطلائع التنصير والثقافة الغربية

مهّدت لازدهار فنون جديدة كانت معرفة المسلمين بها محدودة أو غير واضحة مثل

المسرح والسينما والأوبرا، ومؤخرًا دراما التليفزيون، وكلها تقوم على العنصر

الدرامي: (الحكاية والصراع في داخلها، أو الحوار بين شخوصها) ، ومهمة هذه

الفنون نقل الأفكار والتبشير بالتصورات غير المألوفة، وبذلك دخل المسلمون عن

طريق الدراما إلى عالم جديد من القيم العلمانية التي تتصادم في الغالب مع القيم

الإسلامية، حيث بشّرت الفنون الدرامية بقيم الاختلاط المطلق، والعري،

والعلاقات الإباحية، والإلحاد، والانتهازية، والبقاء للأقوى وليس للأصلح،

وتسويغ العنف والشر والرذيلة، والتبشير بالرجل الغربي بوصفه «السوبر مان»

أو الرجل الأعلى القادر على فعل كل شيء، والتغلب على كل الصعاب التي

تعترضه، فضلاً عن تأثيرها السلبي حين تُقدِّم صورة الرجل المسلم عموماً في

إطار كئيب ورديء بوصفه ميّالاً للدعة والكسل، والكذب والقذارة والخيانة والنفاق،

أو تجعله صنوًا للجهل والتحجر والجمود والتنطع والجهامة والقسوة، أو محلاً

للسخرية والاستهزاء.. وفي إطار ذلك كله كان التركيز على عزل الإسلام بعيداً

عن واقع الحياة والمجتمع في الأعمال الدرامية؛ بحيث بدا «ديناً كنسياً» يرتبط

في الأذهان بالمسجد أو المقبرة فحسب!

هناك مقولة قرأتها للرئيس البوسني «علي عزت بيچوفيتش» فحواها أن

الفن هو الوجه الآخر للدين، وقد ذكر الناقد الأنجلو أميركي «ت. س. إليوت»

هذا المعنى بعبارة أخرى في كتابه حول معنى الثقافة.

قرابة الفن للدين قائمة، ولكن أي فن؟ هذا هو السؤال الذي يتردد في أذهان

الكثيرين، وخاصة في زمن الالتباس الذي نعيشه؛ حيث تختلط المفاهيم، وتتداخل

المصطلحات، وتراوغ التعريفات.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب بشعر أمية بن أبي الصلت ويستنشده

وكان يعجب بشعراء آخرين، وخلع على كعب بن زهير بن أبي سلمى بردته

حين أنشده قصيدته اللامية المشهورة [٢] :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يُفد مكبول

وما ذلك إلا لأن القصيدة كانت فناً جميلاً صاغ معاني عظيمة تصب في خانة

ترقية الإنسان والتبشير بقيم عليا، وهذه آية الفن الجيد الذي يعد بمفهوم علي عزت

بيچوفيتش الوجه الآخر للدين.

وإذا نظرنا إلى نشأة المسرح في الزمن القديم عند الإغريق والرومان فسنجدها

قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالدين؛ ففي الأعياد المقدسة التي كانوا يقيمونها في المعابد

كانوا يقومون بأداء التمثيليات أو المسرحيات أو الملاحم التي تعبر عن علاقتهم

بآلهتهم أو رغبتهم في تقديم الشكر لها وخاصة بعد الحصاد، والعديد من أصحاب

الشرائع السماوية والأديان الوضعية يقومون في معابدهم حتى اليوم بتقديم ألوان من

الفنون الدرامية والموسيقية تعبيراً عن عقائدهم أو قصص أنبيائهم أو علاقتهم بمن

يعبدون ويقدسون.

وقد سجل المصريون القدماء على حوائط مقابرهم ومعابدهم بالرسم والكتابة

لوناً من هذه الفنون التي تكشف عن طاعتهم لمعبودهم أو مصائرهم بعد الحياة الدنيا.

إذن الفن مرتبط بطريقة ما بالروح الإنسانية؛ وقد اتخذته بعض الفلسفات

الوضعية بل والدينية وسيلة للتطهير والارتقاء أو التكفير والغفران، شريطة أن

يكون بعيداً عن الغواية والانحراف.

* أ. محمود خليل:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

الفن كما قال الدكتور المطعني: «كسب من كسوبات الإنسان يعبر به عن ذاته» ،

وهو تعبير أساسي عن مواجيد نفسه كأحد نتاجات الذات الإنسانية؛ فإن توافقت مع

فطرة النفس وناموس الكون وتقيدت بالشرع كان الفن إسلامياً؛ إذن العيب لا يأتي

من الفن وإنما من إساءة استخدامه.

ولما كان الفن هو المعادل الظاهر المرئي لمكون أساسي من مكونات النفس

البشرية كان لا بد له من أن يحمل رسالة تعبر عما تفتعل به النفس، والله تعالى

أمرنا أن نعتبر بالشاكلة لا بالشكل فقال: [قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] (الإسراء

: ٨٤) ؛ كان علينا أن نفرق بين الشاكلة المسلمة وما سواها، وإذا كان حديثنا عن

العلمانية وتوظيفها للفن واصطباغ هذا الفن بصبغتها في ظل غياب الفاعل الإسلامي

الذي يتعامل مع النفس السوية في ظل هذا الغياب كان همُّ العلمانية أن تشغل

المساحة الفارغة في المجتمعات المسلمة التي لم تمتلئ بالحق فاتخذت من الفن معبراً.

والفن كان الضالة المنشودة والقنطرة التي عبرت عليه كل الأيديولوجيات

والنظريات الفلسفية التي خرجت عن الإطار الإنساني الصحيح، ومن ثم كان الفن

هو التعبير المهاجم للأديان سواء في زي الماركسية، أو في ظل الوجودية وما بعد

الوجودية والحداثة وما بعد الحداثة التي تنقض على الأديان وتنزل المقدس منزلة

المدنس.

ولئن وقع الخلط طويلاً بين الفن باعتباره وسيلة، والفن من قبيل المضمون

مما جعلنا نغفل دوره في تعميق المفاهيم الشرعية في المجتمع، إلا أن تلك المذاهب

قد استغلته منذ زمن بعيد، فلم يكن عجيباً أن يقول ماركس من أول يوم: «لأُنسين

الناس بالمسرح» عام ١٩٠٧م، ثم يأتي لينين من بعده فيقول: «لئن غابت عنا

السينما إلى الآن فليعلم الماركسيون في العالم أن السينما بالنسبة لنا أهم الفنون» ،

ويأتي بعد ذلك ليون تروتسكي الثائر الماركسي ويقول عام ١٩٢٣م: «لئن تركنا

السينما دون أن نعبئها تعبئة ماركسية هادفة إلى الآن فلا أقول نحن مقصِّرون، بل

أقول نحن متخلفون أغبياء» .

إذن واضع الفلسفة الشيوعية ماركس، ومطبقها لينين، والمنظر والثائر

الراديكالي في داخل الفلسفة تروتسكي يعلمون جيداً قيمة الفن من حيث إنه وسيلة؛

فهذا قال المسرح، والآخر قال السينما، والثالث وجد التطوير التطبيقي للسينما.

والسينما عندما ظهرت في أوروبا عام ١٨٩٥م جاءت إلى مصر بعدها بعامين

لم يكن هذا لسبقنا، ولكنها مثلت وعاء فارغاً شغله غيرنا في غيبة منا؛ وبهذا كان

الفن مطية ذلولاً بالنسبة لهم على قدر ما كانت سلعة مشتهاة بالنسبة لنا، فشغلوا

النفوس بالباطل في غيبة من الحق.

ولأن الفن قد نشأ حين نشأ في أحضان الوثنية اليونانية القديمة فهو لا يعرف

للدين منهاجاً وإذا عرف الدين فيعرفه في الآلهة وأنصاف الآلهة: آلهة الريح وآلهة

المطر وغير ذلك، ولهذا فهو يحمل ظلالاً مشوهة وانقضاضاً على الأديان منذ أن

كان فناً يونانياً قديماً في ظلال المسرح، ومنذ أن أصبح فناً سينمائياً في أحضان

الماركسية. والماركسية هي الصيحة الثائرة للصهيونية، كما أن أهم ركائز الفن

وهو التمويل كان أيضاً صهيونياً، والفن السينمائي المعاصر نَبَتَ من أحضان ماير

روتشيلد وإخوته فمولوه تمويلاً مسموماً صهيونياً منذ نشأته إلى أن انتهى إلى هوليود

التي أصبحت تُدخل إلى ساحتها من شاءت. كما أننا لو نظرنا إلى بذور الفن

الأولى في مصر على وجه التحديد لوجدناهم إما يهوداً وإما متهودين سواء في

التمويل أو في الإخراج.

والفن بالمعنى المطلق لا يمكن الحكم عليه حتى يتحيز ويتشكل، ونحن نرى

هنا أنهم حين صنعوه ووضعوا له أطراً أصبحت كمسلَّمات تقعيدية هُيِّئ للكثيرين أنه

لا يصلح إلا بهذا النجس.

البيان: إذن يمكننا التفريق بين مفهومين للفن: أحدهما لغوي وضعي مرتبط

بالبراءة الأصلية هو كالمعنى المطلق، والآخر واقعي مرتبط بالممارسة القائمة التي

قدمتها العلمانية ونظّرت لها وقعّدت، وهو أشبه بتحريف لهذا المطلق، والعلاقة

بينهما علاقة ما بين الواقع والمثال. ونظراً لابتعاد الواقع عن المثال وطغيانه عليه

في ظل الممارسة العلمانية نود أن نكشف طرفاً من التزييف العلماني باسم الفن،

ونبين لماذا الفن بالذات؟

* د. إبراهيم الخولي:

الفن من حيث هو سلاح يتوقف أثره على هدف من يستعمله، وعلى القذيفة

التي يطلقها من خلاله، والعلمانية حين تختار الفن وتوظفه فإنها تعرف غايتها

وطريقها والوسيلة الصحيحة لتحقيق أهدافها، وحين قال ماركس: «الدين أفيون

الشعوب» كان يدرك الأثر الحقيقي للدين في نفوس البشر.. أدرك هذا جيداً

وحاول أن يقصي الدين لما له من تأثير على نفوس البشر.. لا يستطيع ماركس

بهُرائه الذي زعمه فلسفة أن ينال من نفس مؤمنة مهتدية بدين الإسلام؛ فكانت

المعركة ضد الإسلام لإزاحة العائق أولاً، فإذا ما انتهت من هذه الحصانة والمناعة

التي يهبها الدين للنفس أمكن غزوها وأمكن وأمكن ...

الأثر النفسي للدين يقترب منه الأثر النفسي للفن دون تشبيه، والفن مخدر

للنفس، وظيفته الأولى تخدير عقل المتلقي ليستقبل الرسالة التي يحملها الفن وهو

مستسلم سلبي قابل دون أدنى مقاومة، وهنا نفهم لماذا هذه الحشود التي يصطنعها

الفن من مؤثرات صوتية وبصرية، وحشد لعناصر قد لا يحتاج الأمر لشيء منها

مثل عنصر المرأة.. الموسيقى.. الرقص.. كل هذا يحشر حشراً؛ مع أن النقاد

والمتخصصين يرون أن هذا العنصر أو ذاك لم يكن له مكان في هذه الأعمال سواء

كانت مسرحية أو دراما أو تراجيديا، ومع هذا يصر المخرج على إقحامه؛ لأن

هذه العناصر هي التي ستزيل كل العوائق وتفتح كل المنافذ ليصل الفن برسالته

المراد إيصالها إلى النفس وهي في موقف السلب.

ولو أنا أخذنا المضمون نفسه في صورة كتاب يقدم أفكاراً عارية ومباشرة، أو

في صورة رواية أو في صورة رؤية أو عرض فلسفي لما كان لها عشر معشار هذا

التأثير، لكن لما استعان بالأساليب الفنية، وتلاعب بعقل الإنسان فخدَّره.. وبخياله

فأطلقه.. وبعاطفته فاستثارها.. وبغرائزه فأيقظها، استطاع أن يسيطر عليه

فأصبح كالمنوم مغناطيسياً يؤثر فيه ويوحي إليه بما شاء وهو قابل سلبي كأنما

عدمت إرادته عدماً كاملاً.

هناك إشكالية لا بد من الانتباه إليها من حيث مفهوم الفن، وهي أن كثيراً مما

يندرج اليوم تحت مسمى الفن هو مندرج من جهة الشرع عندنا ضمن دائرة الحظر.

بل للأسف الشديد أن أول ما يدخل في دائرة الحظر عندنا هو أول ما يتجه إليه

غيرنا باسم الفن، وهذه مناقضة أساسية لا بد أن تكون في تقديرنا لهذا الأمر.

* د. حلمي القاعود:

الإسلام لا يرفض الفن الذي يرقى بالإنسان ويهذب غرائزه ويحض على

المثل العليا ويحبب إليه الدفاع عن عقيدته ونشرها بين الناس وتوضيح معالمها

وآفاقها.. ولكنه يرفض بالطبع تلك الصورة الشائهة التي تقدمها بعض الجهات في

الدول العربية والإسلامية تحت مسمى «الفن» ؛ فهذه الأعمال الرخيصة لا تدخل

ضمن الإطار الفني بقدر ما تدخل في الإطار التجاري الذي يسعى إلى الكسب

الحرام.. وقد أصبح مألوفاً مثلاً لدى الجمهور العادي أن هذا المخرج أو ذاك يسعى

لكسب المشاهدين عن طريق الإثارة، سواء كانت هذه الإثارة بوسيلة كلامية عن

الجنس، أو عن طريق استخدام الأجساد العارية لراقصات أو ممثلات تجذب

الشباب المراهق أو المنحرف، فضلاً عن العنف الذي يقدم في الفيلم أو المسرح أو

التليفزيون من خلال مشاهد القتل أو السطو أو المعارك أو الصدام مع الشرطة أو

غير ذلك.

ولا شك أن هذه النوعية التجارية تمثل انحرافاً واضحاً برسالة الفن الدرامي

الذي يخاطب شريحة ضخمة من المشاهدين من مختلف الأعمار والطبقات والفئات،

وخاصة بعد ذلك الانتشار الهائل لأجهزة التليفزيون، وتوفر أجهزة الالتقاط

للمحطات التليفزيونية من أنحاء العالم كافة.

* أ - محمود خليل:

هناك إيضاح بسيط بخصوص كلام أستاذنا الدكتور الخولي حول كون الفن

المعاصر ولا سيما المرئي يجعل المشاهد في حال غيبوبة، وهو إن جاز التعبير،

فإن المغيب لا يفعل ولا يؤثر، لكن أنا أرى أنه يعيش حالة استلاب؛ لأنهم لا

يريدون تغييبه فقط، ولكن الفن المعاصر يريد أن يحتله احتلالاً لحظياً ليصنع منه

كائناً فاعلاً ولكن لخدمة أهداف بذاتها، ولذلك يقولون: إن أحدث وأصح وسائل

الاتصال هي التي لا تتحدث إلى الآخرين وإنما تتحدث معهم، فهو يجعل منه دائرة

اتصال فاعلة حية نابضة ينتظر منه فعلاً موجباً فيما بعد، وإلا لو كان تغييباً لانتهى

عند هذا التخدير والمخدر لا يصنع ولا يتحرك.

* د. حلمي القاعود:

يلاحظ أن الإسلام في فنونه يهتم بالتجريد، وغيره يهتم بالتجسيم، وهذا

الفارق مهم جداً؛ لأن الفنان المسلم يهدف إلى قيمة بالدرجة الأولى، أما الفنان غير

المسلم فيهدف في الغالب إلى منفعة والفارق بين التوجهين كبير على مستوى

النظرية والتطبيق معاً، وإذا عرفنا أن «البراجماتية» أي المذهب النفعي أساس

من أسس «العلمانية» أدركنا مدى سطوتها في الترويج للقيم النفعية التي لا تضع

في حسبانها الدين، أي دين، وما يفرضه من مبادئ خلقية خيّرة.

ومن هذا المنطلق نجد أن الانحراف بالفن أو الفنون عامة جاء من قبل الدول

والمؤسسات العلمانية التي أباحت لنفسها حق اللعب بغرائز البشر، واسترقاق المرأة

لتتعرى في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، وتمارس الجنس بلا حياء، وتعيش

أو تمثل حياة الحيوانية في أحط دركاتها.

إن الغاية تسوِّغ الوسيلة في المنهج العلماني؛ ولذا نجد اللصّ الذي يكسر

خزائن البنك ليسرقه، ويتغلب على جهاز الشرطة الذي يحاصره أو يطارده،

ويطيح بإشارات المرور، ويمضي قدماً بما سرق حتى يعبر الحدود الدولية ظافراً،

وينتهي الفيلم واللص بابتسامة عريضة تصنع أو تهيئ لقبول التعاطف مع اللصوص

الأذكياء الذين يظفرون بالفريسة ولا يخسرون شيئاً (ترى هل صورة اللص هنا

ترمز إلى الاستعمار بهدف تحسين جرائمه؟) .

لا شك أن النظرة العلمانية أسهمت في «سوقية الفن» بطريقة فعالة؛ حيث

أسقطت الحاجز أو الوازع الديني الذي يجعل رسالة الفن فوق الرغبة في الكسب

بأي ثمن، وأسقطت غاية الفن التي هي غاية بنائية تهدف إلى ترميم النفوس

المشروخة، وتشجيع الأرواح المكسورة على تجاوز الأخطاء وترسيخ المفاهيم

الإيجابية والقيم المضيئة.

إن الفنون الدرامية في عالم اليوم لها تأثيرها الفعال؛ حيث يمكنها أن تصل

بسرعة وسهولة إلى غرف النوم وتقدم للمشاهد أفكاراً وقيماً وسلوكيات يستوعبها

ويتشربها بسرعة؛ لأنها تتسلل إليه وهو في حال استرخاء تام، لا يستطيع لها

دفعاً.. ومن ثمّ فإن أهمية التزام العمل الفني بروح الدين تضحي ضرورة أساسية في

تقديم التصور الصحيح والفكرة الناضجة والقيمة الإيجابية والسلوك المستقيم.

والتصور الصحيح لا يتحقق إلا بمفهوم صحيح لقيم الإسلام وتعاليمه وأفكاره؛

لأن الإسلام يختلف عن الشرائع الأخرى والأديان الوضعية.

فإذا كانت بعض الشرائع والأديان تبيح ما لا يبيحه الإسلام فهذا ليس ملزماً

للفن الإسلامي. هناك من الشرائع والأديان والعقائد الوضعية ما يبيح النظرة

المزدوجة للإله أو الوثنية، أو ما يجعل العلاقات البشرية تقوم على العنصرية أو

الطبقية أو الاستغلال، وهذا لا يمكن قبوله أبداً في الإسلام.

لا شك أن العلمانية من خلال الدراما تفكك المجتمعات، وتفكك الأديان وتحقّر

القيم الطيبة، وتعلي من شأن القيم السلبية، وتؤسس لمجتمعات الغابة بما فيها من

مكر وخديعة وتوحش.. وهذا كله مخالف لمنهج الإسلام.

البيان: لو أخذنا فلسفة الفن خلال نصف القرن الماضي نموذجاً لتبين لنا مدى

التجني والخبث العلماني في التدرج نحو هذا التفكيك.

* د. حلمي القاعود:

إذا نظرنا إلى ما يمكن تسميته بفلسفة الفن عبر نصف قرن مضى فسوف نجد

أن هذه الفلسفة تنحصر في عدة نقاط، لعل أبرزها ترسيخ النموذج الأوروبي،

وتأييد الثقافة الشمولية الاستبدادية، والتأكيد على تقويض المشروع الإسلامي.

وليس من شك أن النموذج الأوروبي بوصفه النموذج الأقوى المنتصر على بقية

شعوب العالم، جعل الفنون الدرامية تلهث وراء الاحتفاء به وتقديمه بصورة مباشرة

أو غير مباشرة، من خلال رؤاه وتطبيقاته، وعاداته وتقاليده، بل وتقاليعه في

الزي والسلوك والعلاقات البشرية؛ ولسوء الحظ فإن النموذج الغربي الذي تعد

أوروبا خير مثال له، خرج من الحرب العالمية الثانية فاقد الإيمان، محطم الروح

الدينية، وإن كانت روحه الصليبية أو الإلحادية لما تزل قوية للغاية، فقدم للعالم

وهو المنتصر العديد من النظريات والتصورات التي تصب كلها في خانة المادية

والفردية والعنصرية والاستعلاء مما دعم التوجه العلماني بصورة غير مسبوقة في

الغرب؛ لدرجة السماح بحقوق الشواذ جنسياً في بعض البلدان والاعتراف بزواجهم

من نظرائهم، وقامت السينما بالتعبير عن ذلك صراحة ومباشرة في العديد من

الأفلام.. وكذلك المسرح والمسلسلات التليفزيونية.

وإذا كان علماء الاجتماع يذهبون إلى أن الضعيف أو المهزوم يتأثر بالمنتصر

أو القوي، ويسعى إلى تقليده، فإن الفن الدرامي في البلاد الإسلامية تأثر إلى حد

كبير بالنموذج الأوروبي أو الغربي وقلده في كثير من تصوراته وتطبيقاته، لدرجة

أن صورة المنزل الإسلامي في معظم الأفلام العربية مثلاً لا تخلو من «بار» أو

ركن لتقديم الخمر وشربه، كما أن معظم البيوت الإسلامية في هذه الأفلام لا تجد

غضاضة في الرقص المختلط على أنغام الموسيقى الأجنبية.

وهذا التقليد أو هذا «التأورب» الذي صنعته الدراما العربية جعل من تأييد

الثقافة الشمولية الاستبدادية أمراً يبدو طبيعياً؛ فقد انتفت من وجدان القائمين على

الفنون الدرامية المرجعية الإيمانية أو الإسلامية؛ مما جعل مناصرة الطغيان

والاستبداد والظلم تبدو مسألة عادية لا تثير شبهة أو ريباً.

وإلى جانب هذا فقد عرفت المنطقة العربية ألواناً من النظريات والرؤى التي

تعارضت مع الإسلام وتصوراته، ودعا لها أصحابها بقوة السلطة والسلاح،

وسخرت لها أجهزة الدعاية والمؤسسات الثقافية التي تحتكرها الدولة عادة، ومن ثم

وجدنا ترويجاً لهذه النظريات والمذاهب التي تقوم على مرجعية علمانية لا تضع في

حسبانها أية أهمية بالنسبة للدين.

صحيح أنه كانت تبرز بين الحين والحين معارضات خافتة حيناً، وحادة في

بعض الأحيان لمثل هذه الطروحات، ولكن الإلحاح عليها، وتقديمها في أطر غير

مباشرة في أحيان كثيرة جعل وجودها يبدو أمراً طبيعياً، مما أخمد روح المقاومة،

ووجه اهتمامات الناس إلى ما يمكن تسميته بالإشباع المادي وحسب، والابتعاد إلى

حد كبير عن المطالبة بالإشباع الروحي.

ومن ثم فإن تقويض المشروع الإسلامي لإنهاض المجتمعات العربية

والإسلامية كان غاية رئيسة في الأعمال الدرامية، بل وصلت الأمور إلى التشهير

بالرموز الإسلامية، وتصويرها على أنها العائق الأول والأساسي في عمليات

النهضة والتحديث.

الشخصية الإسلامية في الأعمال الدرامية غالباً ما تأتي نقيضاً للشخصية

العلمانية؛ فالأولى يرمز لها عادة بالمأذون ومدرس اللغة العربية وإمام المسجد

والدرويش والمتدين الملتحي، وتجعل منها في الأغلب الأعم شخصيات فصامية،

أي تقول غير ما تفعل، لها ظاهر يبدو براقاً وباطن خبيث، هي طيبة في الشكل

شريرة في المضمون، وفي أحسن الأحوال فهي شخصية ساذجة بلهاء أو أنانية

انتهازية لا تراعي الذوق العام ولا السلوك المتحضر.

في المقابل تمثل الشخصية العلمانية الإباحية المتحررة صورة جميلة في

الشكل والمضمون معاً، يرسمها المخرج بصورة تجعلها محبوبة من الجمهور أو

يرتاح إليها الجمهور، ويتعاطف معها حتى في انحرافها وسلوكها غير الطبيعي أو

القانوني، علاقاتها غير الشرعية أو غير القانونية تبدو مسألة مبررة وسائغة،

وتركز معظم الأفلام على فكرة الإشباع دون مراعاة لمفهوم الحلال أو الحرام؛ ومن

ثمّ فالبطل الذي يمارس علاقات محرمة لا يشعر بأي تأنيب للضمير أو إحساس

بالإثم؛ لأن الأمر في مفهومه عادي وطبيعي ولا حرج فيه، وقد شهد العقد الأخير

من القرن العشرين حملة درامية عنيفة ضد الإنسان المسلم، وتم تصويره في حالة

مشوهة ومنفرة تثير السخط والغضب؛ حيث بدا أفاكاً ودموياً ولصاً وانتهازياً وعدواً

للفرح والبِشر!

لقد كان يمكن للفن لو أنه وضع رسالته الحقيقية في الحسبان، أن يساعد على

تنشئة أجيال واعية بماضيها وحاضرها، ومستعدة لمواجهة المستقبل وفقاً للتصور

الإسلامي الناضج، ولكنه للأسف الشديد بدلاً من ذلك صاغ شخصيات مجوفة،

خاوية من العقيدة والانتماء والاتزان.. صحيح أن بعض الأعمال يمكن إدخالها في

السياق الإيجابي، وخاصة ما ارتبط بالدراما التاريخية والشخصيات الساطعة،

ولكنه في المجموع العام وفي مجال الأفلام السينمائية التي ساعد التليفزيون على

عرضها وانتشارها حدث تشويه عام للشخصية الإسلامية، وتنفير منها، وازدراء

لها، ثم كانت الطامة الكبرى بتشويه الإسلام نفسه وعَدِّه قريناً للإرهاب والظلام

والجمود والتشدد والتخلف ومعاداة التطور والحضارة.

ومن ناحية أخرى نلاحظ أن مستوى اللغة الدرامية في بدايات نصف القرن

الأخير، بل وفي النصف الأول منه، كانت تتميز بالوضوح والدقة والرقيّ،

ولكنها في العقود الأخيرة أخذت طابع الغرابة والابتذال والافتعال، وامتلأت بكثير

من مفردات البذاءة والسباب والسوقية بوصف ذلك تعبيراً عن الواقعية في الأداء،

ويمثل حالة من الصدق في نقل أحوال المجتمع، ولذا فإن ما نراه اليوم في لغة

الشارع يمثل صورة من صور التردي غير المسبوقة في تاريخنا الاجتماعي بسبب

التأثير الذي لا يمكن إنكاره للدراما السينمائية، وخاصة في عصر ما يعرف بسينما

المقاولات.

* د. عبد العظيم المطعني:

الدكتور الخولي والدكتور القاعود وضعا لنا تأسيساً متيناً نستطيع أن نسير

عليه بكل سهولة في مسائل تطبيقية عن استغلال الفن ليس في العلمانية وحدها وإنما

في جميع الأيديولوجيات المعادية للإسلام واتخاذه وسيلة للتشكيك فيه بجعله مطلباً

استراتيجياً دائماً أو القضاء عليه إن أمكن.. وقد يئسوا من الثانية؛ لأنهم كلما

ضربوه ضرباً يقدرون أنه يفضي إلى الموت يجدونه يتحرك عملاقاً، لكن الذي لم

ييأسوا منه هو التشكيك فيه، أو عزله عن بعض الفئات المسلمة غير المحصنة.

إضافة إلى ما قاله الأخوان حول اختيار الفن؛ لأن الفن فيما أعتقد هي لغة

جميع الطبقات وجميع الأعمار، تصل بكل سهولة إلى البيوت، ويتفهمها الجميع

ويتفاعلون معها؛ لأنهم يتفاعلون معها بكل حواسهم، وهنا يمكن أن يتقبلوا ما يهدم

الإسلام.

أضرب لذلك مثالاً برواية (أولاد حارتنا) .. ففي النصف الثاني من القرن

العشرين اشتدت عندنا وطأة الفن الإلحادي، وكان الذين يريدون ضرب الإسلام

أذكياء وجبناء، وقد وضح ذلك في عدة أعمال منها (أولاد حارتنا) هذه القصة من

قرأها بوعي وجد أن كاتبها قد وضع فيها بكل دهاء ما يريد أن يقوله في المستقبل؛

لأنه لا يستطيع أن يصرح بما يريد في بلد كمصر؛ إذ تحاول القصة بمكر إلغاء

التاريخ النبوي كله ونفي وجود الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقد قسم قصته إلى

سبعة فصول تحدث فيها عن «جبلاوي» فوصفه بما يوصف به البشر وبما لا

يوصفون به، وبدؤه بهذا لأنه أراد أن يمحو العقيدة؛ لأنه إذا محا هذا الصرح

القوي سهل بعده اللعب في أي شيء، ثم تناول بعدها في بقية الفصول إدريس

«إبليس» ، وآدم «أدهم» ، وجبل «موسى» ، رفاعة «عيسى» ، وقاسم

«محمد» ثم تحدث عن عرفة «العلم الحديث» ، وانتهت الرواية بأن العلم

الحديث هو الإله الوارث لكل الفكر الديني؛ فلا شرائع ولا وحي وإنما العلم المادي

بقوانينه قادر على تفسير الحياة وتدبير أمورها. هذا نموذج للممارسات

العلمانية التي اتخذت الفن لهدم التاريخ النبوي كله وهدم العقيدة الإلهية، وأورثت

الوجود لعرفة أو للعلم الحديث، وما فعله هنا نجيب محفوظ فعله غيره في أعمال

أخرى. وبنفس الطريقة الخبيثة يجري تقرير كثير من المفاهيم العلمانية

عبر الفن.


(١) أخرجه ابن الأثير بسنده إلى النابغة رضي الله عنه في أسد الغابة، ج ٥، ص ٣.
(٢) قال الحافظ ابن كثير: «ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه؛ فالله أعلم» البداية والنهاية، ٤/٣٧٣.