للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحج وأثره في تربية الضمير

عثمان جمعة ضميرية

تربية مثالية واقعية:

لقد كانت تربية القرآن الكريم للمؤمنين تربية رائعة عالية، تمد أنظار الإنسان

إلى علم المثال الطيب النظيف وتوقفه على أرض الواقع الصلبة، فكانت بذلك

تربية مثالية واقعية، يتربى عليها المسلم في صلته بربه تبارك وتعالى، وفي صلته

بنفسه، وفي صلته بالناس من حوله، وفي أدائه للعبادات وقيامه بالمعاملات، -

وخضوعه للعادات، وفي كل مظهر من مظاهر حياته.

ولنأخذ مثالاً ذلك: إن الإسلام يدعو إلى العدالة الشاملة الكاملة فيرغب الناس

بذلك في المثالية التي يسعى إليها: [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ] [النحل:

٩٠] ، ويدعو إلى العفو والتسامح: [وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [البقرة: ٢٣٧]

[ومَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُوراً]

[الإسراء: ٣٣] .

ولكنه في الوقت نفسه لا يهمل الجانب الواقعي الذي فطر عليه الإنسان، وهو

حب الانتصار للنفس إذا ما وقع عليها الاعتداء، وإلا فإنه يدعو إلى مثالية خيالية لا

طاقة للنفس البشرية بها، ولذلك كانت مشروعية القصاص: [ولَكُمْ فِي القِصَاصِ

حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] [البقرة: ١٧٩] ، إنها ليست دعوة إلى القصاص فحسب

دون عفو، ولا دعوة إلى العفو دون إقرار حق القصاص، وإنما شرع الله تعالى

الأمرين معاً، ها أنت على عدل وحق لو طالبت بالقصاص من المعتدي، وها أنت

على فضل عندما تعفو وتصفح.

تربية الضمير:

ولقد ارتفع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مستوى رائع عندما أرشدهم إلى

هذا وترك الإنسان لضميره المؤمن ووجدانه الحي، يستفتيه في كل ما يعمل وما

يترك، فقد قال عليه الصلاة والسلام. «إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن

يكون ألحن (أقوى) بحجته من فإنما أقطع له قطعة من قطعة من نار فليأخذها أو

فليدعها» [١] .

أرأيت إلى هذه التربية الوجدانية والتهذيب الخلقي للفرد؛ إنها لا تكتفي

بوسائل الإثبات المادية، ولكنها تعود بالمرء إلى ضميره، فلعل أحد الخصمين

يكون أقوى حجة من أخيه الذي يخاصمه فيحاجه بالكلام يخصمه بما قدم، ولكنه

ليس على حق ... فليحذر، فإنما هي قطعة من نار ... وحكم الحاكم لا يحل الحرام

ولا يحرم الحلال.

ثلاث محاكم أدبية ... وسبيل النجاة:

وقد وضعنا القرآن الكريم أمام ثلاث محاكم أدبية [٢] هي: محكمة الضمير

في قلوبنا، ومحكمة المجتمع من حولنا، ومحكمة السماء من فوقنا، فقال الله تعالى: [وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ

والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] [التوبة: ١٠٥] .

وسبيلنا للنجاة أمام محكمة السماء الكبرى هو تربية الشعور الديني (الحسان

وسبيل النجاة أمام المحكمة الثانية هو تربية الشعور الاجتماعي، وسبيل النجاة أمام

المحكمة الأولى (محكمة الضمير في قلوبنا) هو تربية الوجدان أو الضمير الخلقي

ليجعل من نفس الإنسان وازعاً قبل محاسبة الآخرين، ولذلك حذرنا من كل عمل

يترتب عليه تأنيب الضمير، وأمرنا أن نرجع إلى هذا الضمير نستفتيه: «استفت

قلبك ... وإن أفتاك الناس وأفتوك» [٣] .

الحج تربية للضمير:

وهذه المعاني عن التربية الوجدانية أو الضمير الحي الحساس نجدها متمثلة

في كثير من مشاعر الحج ومناسكه، منذ أن يفرض المسلم الحج على نفسه في

أشهره إلى أن يقضي مناسكه، فأنت واجد في كل شعيرة من الشعائر ما يحملك على

مراقبة الله تعالى لك، ويجل من النفس اللوامة أو الضمير حكماً أو قاضياً في كثير

مما يقوم به المسلم في الحج..

فإن الله به عليم:

ففي أعقاب الدخول في النُّسك يلتفت السياق القرآني إلى هذه الناحية التفاتة

رائعة، فيقول الله تعالى: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ

ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ] [البقرة: ١٩٧] ،

فكل خير وكل قربة وكل عبادة ... فإن الله به عليم، وعليه يجازي، وبه يرفع

المؤمن عنده درجات، وهو طريق تحلية النفس وتزكيتها وتطهيرها بعد تخليتها من

الرفث والفسوق والجدال..

والإقبال على الله تعالى بهذه الهيئة النظيفة، وهذه الصورة المشرقة الوضيئة، والتقلب في هذه المناسك والرياض ... يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها،

ويدخلها في حياة جديدة لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

ويكفي المسلم أن يشعر أن الله تعالى يعلم ما يفعله العبد من خير، ويطلع عليه

ويجازي ويثيب، ليكون ذلك حافزاً له على الإكثار من الخير والاجتهاد فيه ... فمن

ذا الذي لا يريد أن يراه ربه تبارك وتعالى على أحسن صورة في العمل.؟ ومن ذا

الذي لا تتطلع نفسه وتتشوق إلى أن يعلم الله منه الخير كل الخير...؟ فيصل بذلك

إلى درجة الإحسان التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن

تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [٤]

أثر الذكر والدعاء والتضرع:

ولن يكون الإنسان صاحب ضمير حي، ونفس لوامة حتى يكون على صلة

طيبة بالله تعالى الذي خلقه وسيحاسبه يوم القيامة على ما اقترف، وفي الذكر

والدعاء والتضرع إلى الله تعالى بصدق وإخلاص، وفي التلبية التي يجأر بها العبد

في مناسكه ...

كل هذا وسيلة من وسائل تربية الوجدان وإعلاء قيمته، وهو يصقل النفس

ويزكيها، بما فيه من إظهار العبودية لله تعالى وصدق اللجوء إليه..

رقابة ذاتية صارمة على المخالفات:

وعندما يدخل المسلم في مناسك الحج ويشعر أنه في عبادة لله ... يفرض على

نفسه رقابة سلوكية صارمة، تحاسبه أشد الحساب على كل مخالفة تصدر منه،

كبيرة كانت هذه المخالفة أو صغيرة يسيرة. فإذا ما ارتكب محظورا من محظورات

الإحرام وجب أن يعود إلى ضميره فيكفر عن هذا المحظور الذي وقع فيه بإراقة دم

أو صدقة أو صيام، ولكن السلطة التي تضبط ذلك وتسجله هي سلطة الضمير

ومحكمته،. فليس هناك سلطة خارجية وراء ذلك ... وفي هذا تربية لهذا الضمير

وارتقاء به وإعلاء من منزلته وقيمته، فاستحق هذا الحاج المغفرة بابتعاده عن

الرفث والفسوق والجدال.

وفي الطواف وسيلة لتربية الضمير:

وإذا نظرت إلى سائر المناسك وجدتها أيضاً وسيلة لتربية هذه الرقابة الذاتية

للضمير، فالحاج يطوف حول الكعبة، ويرف حولها نسوة، وقد يكون في الطواف

شيء من الزحام مما قد يقع فيه البصر على مالا يجوز النظر إليه من النساء

الأجنبيات، وقد لا يكون هناك رقابة خارجية صارمة تضبط كل مخالفة من كل

واحد من هذه الألوف من الطائفين حول البيت ... ومع هذا كله لم يحرم الإسلام

طواف الرجال والنساء في وقمت واحد، أو لم يجعل لهن مطافاً خاصاً ... ولعل في

هذا أكبر الأثر في تربية الضمير، فالمسلم يُترك هنا لضميره ولوجدانه المؤمن الذي

يحجزه عن فعل أي محظور عندما تكون الوسيلة بهذه المثابة، ولكنه يعلم أن الله

تعالى يراقبه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن مخالفة ومعصية في

الحرم ليست كغيرها من المخالفات، فهي عظيمة جسيمة، بل هي مضاعفة، حتى

إن إرادة المعصية والهمَّ بها فيه تعتبر معصية يستحق صاحبها العذاب الأليم [وَمَن

يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] [الحج: ٢٥] ..

وفي قضاء المناسك تربية ...

فإذا ما قضى الحاج مناسكه وذكر الله تعالى في أيام معلومات وفي أيام

معدودات ثم جدد العهد مع الله تعالى على الاستقامة على منهاجه وشرعه

بتوبة صادقة من نفس مؤمنة نادمة ضارعة إلى الله، وإذا ما وضعته هذه

المناسك على طريق المسئولية فإنه يربأ بنفسه بعد ذلك أن تنحرف وتخالف منهج

الله، وإن حياءه من الله تعالى وشعوره بأهمية هذه العبادة العظيمة يربى في نفسه

هذا الضمير الحي وهذه التربية الوجدانية.

وبعد:

تلكم بعض اللمحات عن أثر الحج في تربية الضمير والوجدان، تضاف إلى

كثير من الآثار والمنافع التي يشهدها المسلمون في الحج، فهنيئاً لهؤلاء المسلمين

الطائعين، هنيئاً لهم حجهم وعبادتهم التي ترفعهم إلى هذا المستوى المشرق

الوضيء الكريم،. والتي تهذب نفوسهم وتزكيها، وتربى وجدانهم وتطهره،

وتذهب، بذنوبهم وآثامهم، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، والحمد لله رب

العالمين.


(١) متفق عليه من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(٢) الفكرة مأخوذة عن الأستاذ الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه عن المسئولية.
(٣) قطعة من حديث رواه الإمام أحمد والدرامي.
(٤) قطعة من حديث جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، أخرجه الشيخان.