للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

[من خصائص الدعوة إلى الله عز وجل]

إبراهيم بن يوسف آل الشيخ سيدي [*]

توطئة:

بعث الله - سبحانه وتعالى - أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون

للناس على الله حجة بعد الرسل، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط،

فبشروا وأنذروا، ونهَوْا وأمروا، ورغَّبوا ورهَّبوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم

لتكون كلمة الله هي العليا.

وكان ذلك كله عين الحكمة في الدعوة إليه سبحانه وتعالى.

ولمَّا كان من سنّة الله - عز وجل - التي لا تتبدل ولا تتحول أن لا بقاء في

هذه الدار العاجلة لأي مخلوق كان، فإنه كتب على أنبيائه أن يلحقوا بالرفيق الأعلى،

ولكنه كتب أيضاً - سبحانه وتعالى - لدينه البقاء إلى خروج الريح الليّنة التي

تقبض أرواح المؤمنين، فيبقى شرار الناس يتهارجون كتهارج الحُمُر، فعليهم تقوم

الساعة.

وإذ كان الأمر على ما وُصف، فإنه لا بد للرسل الذين لم يُكتب لهم البقاء من

ورثة يرثون علمهم ومنهاجَهم، وللدين الذي كتب له البقاء من حَمَلَة يحملونه

ويبلغونه للناس، فكان هؤلاء الورثةُ والحملة هم العلماء والدعاة إلى الله - عز

وجل -؛ إذ لا تتم وراثة الرسل الذين لم يُورِّثوا درهماً ولا ديناراً بالانتساب

الطيني، وإنما بتحصيل العلم الذي جاؤوا به من لدن حكيم خبير، والعمل به ظاهراً

وباطناً، والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي

أحسن.

فمن ورث هذا العلم فقد أخذ بحظ وافر، ومن ترسَّم خطى الرسل في العمل

والدعوة فهو من أتباعهم على الحقيقة والكمال.

ولا يضر من كان هذا شعاره ودثاره أن ينبزه ويصمه بالألقاب مَنْ يهرف بما

لا يعرف، ومَنْ ينبس بما عساه يهوي به في النار سبعين خريفاً، ومَنْ همه التندر

والازدراء، والسخرية والاستهزاء، وإن أخرجه ذلك من ربقة الإيمان، وقيد

الإسلام.

ولا يجدي مَنْ هذا دأبه وديدنه أن يتبجح بالإسلام، أو يدعي أعلى مقامات

الإيمان، فلا يغني عنه ذلك من الله شيئاً؛ ولا يكون من هذا شأنه من أتباع الرسل

حتى يلج الجمل في سم الخياط.

خصائص السبيل:

أ - الوضوح:

إن سبيل الله - عز وجل - واضحة المعالم، بارزة الملامح، لا غموض فيها

ولا التواء.

قال الله سبحانه وتعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ

اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: ١٠٨) .

فنحن أمام سبيل واضح [١] ، وطريق مهْيع، لائح قريب، مُشاهَد، أشير إليه

باسم الإشارة الدال على القرب، حتى لا يجد دعاة الباطل، من شياطين الكهنوت

والأسرار، وأبالسة الشعوذة والخرافات، منفذاً لوصفه بالغيبية، والبعد والانبهام

والرمزية، وأنه خاص بثلة من علماء الطلاسم والألغاز. ومن المعروف أن هؤلاء

يجعلون الفيوضات والإلهامات والكشوفات والمنامات والمواجيد والأذواق

والأحوال، مصادر للدين، ومنابع للاعتقاد والتشريع، ويزعم بعضهم - بناء على

ذلك - أنه لا حاجة إلى الرسل الكرام ولا إلى الكتب المنزلة العظام.

وأحسنهم حالاً من أطلق على علم الأنبياء: علم الظاهر أو علم الرسوم،

وعلى ما عنده من وحي الشياطين: علم الحقيقة، أو علم الباطن، أو العلم اللدنِّي

الذي أوتيه الخضر - عليه السلام -. إن التعبير بهذه الصيغة يقطع عليهم الطريق؛

لأن العامي يفهم منه قُرْبَ هذه السبيل ووضوحها، وسهولة السير فيها واستقامتها،

وأنه مَعْنِيٌّ باتباعها والدعوة إليها: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا

وَمَنِ اتَّبَعَنِي] (يوسف: ١٠٨) .

فهو كقوله - تعالى -: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ]

(الأنعام: ١٥٣) . وكقوله صلى الله عليه وسلم: «قد تركتكم على البيضاء ليلها

كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» [٢] .

ثم إن من مقتضيات البيان الذي تكفل الله به في قوله: [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]

(القيامة: ١٩) وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم: في قوله: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ

الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] (النحل: ٤٤) ، أن تكون سبيل الله ورسوله

واضحة المعالم بارزة الملامح، بينة القسمات، ظاهرة لا خفاء بها كالشمس في

رابعة النهار، أو كالبدر ليلة التمام.

بل كيف يكلف الله - تعالى - عباده باتباع طريق لم يبيّنْه لهم غاية البيان،

وهو سيجزيهم ويحاسبهم عليه، وهو - سبحانه - الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال

ذرَّة؟

وكيف يصرّح القرآن بإكمال الدين وإتمام النعمة، مع بقاء أشياء من الدين

ورسوم من الملة لم ترِد في القرآن ولا في السنّة، وإنما ستظهر بعْدُ في شكل

طقوس وهيآت وطرائق أوصى الشياطين بها إلى أوليائهم ليجادلوا أهل الحق؟ !

إن سبيل الله - عز وجل - خالٍ من الأسرار والطلاسم والألغاز، والعلوم

الباطنية، والمُعَمَّيَات والأحاجي؛ ولهذا غابت فيه طبقة الأحبار والرهبان الذين

يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله؛ فلا تجد في هذا الدين من

يدَّعون الوساطة بين العبد والرب، أو يوزعون صكوك الغفران، أو يحتكرون فك

ألغاز الكتاب المقدس، ومن تلبس بشيء من ذلك فليس من الله في شيء.

وكل ما يلاحظ - بعد القرون المزكاة - من هذه البدع الشنيعة والمقالات

الكفرية الفظيعة في العالم الإسلامي، فإنما هو من المحدثات الشركية التي روَّج لها

أعداء الإسلام، من زنادقة وباطنية وملاحدة، ويهود ومجوس، فخدعوا بعض

الأغرار في فترات الضعف والانقطاع عن الوحي، فسرت إلى المسلمين، وجعلها

كثير منهم عماد عقيدته، وملاك دينه، والدين منها براء.

ثم إن إضافة السبيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قضت على كل أنواع

الاحتكار لهذه السبيل والاختصاص بها دون سائر المؤمنين.

بل إنها أضيفت إلى الله تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ] (النحل: ١٢٥) ،

وأضيفت إلى المؤمنين عامة، والمنيبين خاصة، كما قال - تعالى -: [وَمَن

يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى

وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: ١١٥) ، وقال سبحانه: [وَاتَّبِعْ سَبِيلَ

مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ] (لقمان: ١٥) . فالسبيل مشاع بين جميع المؤمنين والمنيبين.

ولا ينبغي أن يفهم أن المنيبين طبقة خاصة لها أسرار وطقوس معينة كما

يحلو لبعضهم أن يفسر الآية على ذلك الوجه إذ المنيبون بالدرجة الأولى هم الأنبياء

عليهم الصلاة والسلام، ثم الأمثل فالأمثل، من أتباعهم إلى يوم القيامة.

ثم إن الإنابة فرض على كل المؤمنين، وهي الرجوع والتوبة إلى الله تعالى.

قال - سبحانه -: [وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ] (الزمر: ٥٤) وقال:

[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *] (النور: ٣١-٣٢) .

فالمنيبون هم التائبون الراجعون إلى الله - تعالى - النادمون على ما فرط

منهم من الذنوب، وبَدَر منهم من السيئات والمخالفات؛ فالإنابة من مقتضيات

الإيمان وكماله.

وغني عن البيان أن نقول إن إضافة السبيل إلى الله - تعالى - هي باعتبار

صدوره منه وتشريعه له، ورسمه إياه لعباده، وإن إضافته للرسول صلى الله عليه

وسلم، هي باعتبار أنه المبلغ له، والمبين لمعانيه بأقواله وأفعاله وتقريراته، وإن

إضافته للمؤمنين هي باعتبار أنهم أهله الذين ترسمَّوه وسلكوه وحملوا الشرع الذي

حدده ونهجه.

ب- ربانية المصدر:

إن هذه السبيل - التي هي عبارة عن الوحي المنزل - لم تكن من وضع

البشر، ولا من بنات الفكر، لم يسنَّها فلاسفة أو مشرعون، وإنما جاءت من

السماء وحْياً محفوظاً مقروءاً باقياً على الدهر، لا يَخْلَقُ على كثرة الردّ، لا يتفه

ولا يتشيَّن، صالحاً لكل زمان ومكان.

قال - تعالى -: [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ]

(هود: ١) . وقال: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]

(الأنعام: ١٥٥) ، وقال جل من قائل: [وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ

بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] (فصلت: ٤١-٤٢) .

وقال - سبحانه -: [وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ] (النمل: ٦) ،

فهو كتاب سماوي وتشريع رباني، محكم الآيات مفصلها، عجيب الأساليب

معجزها، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون

من المنذرين.

وفي قوله - تعالى - في سياق الآية: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى

بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ] (يوسف: ١٠٨) من الإشارة إلى ربانية

مصدر هذه الدعوة المباركة ما فيه كفاية للمتأمل، بالإضافة إلى ما تحمله هذه

العبارة من اشتمال هذه الدعوة على تنزيهه - سبحانه - عن الشريك في الخلق

والأمر والحكم والتشريع والصفات والأسماء؛ فقد جمعت من أبواب التوحيد ومعانيه

وتقديس الرب - جل وعلا - ما تعجز عن جمعه المجلدات والأسفار.

يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «وقوله: [وَسُبْحَانَ اللَّهِ]

(يوسف: ١٠٨) أي أنزه الله وأُجِلُّه وأعظِّمه وأقدِّسه عن أن يكون له شريك أو

نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبة، أو وزير أو مشير، تبارك

وتقدس، وتنزه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً» [٣] .

فإذا عرف أن هذا هو منطلق الدعوة وهدفها وغايتها في آن واحد، وأنه هو

صبغتها وسَمْتُها من بين كل الدعوات عُرف أن مدارها على غرس شجرة التوحيد

المباركة في القلوب، وتنوير البصائر بالتعلق بالواحد الأحد، وإسناد الأمر كله إليه

بعد استشعار عظمته وجلاله، وعمارة القلب السليم بمحبته، وتنزيهه وتقديسه،

والتفويض إليه في كل شيء، والخنوع المطلق لحكمه وأمره، سبحانه وتعالى.

إن هذه السبيل هي حكم الله المنزل؛ فكما أنه - تعالى - منزه عن الشريك

في الأسماء الحسنى [هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ] (مريم: ٦٥) ، وعن الشريك في

الصفات العُلى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] (الشورى: ١١) ، [وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ]

(الإِخلاص: ٤) ، وعن الشريك في الملك والخلق والأمر [وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ

فِي المُلْكِ] (الإسراء: ١١١) ، [أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ] (الأعراف: ٥٤) ،

[لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ] (آل عمران: ١٢٨) ، فكذلك لا شريك له في حكمه

وتشريعه [وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً] (الكهف: ٢٦) ، [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ

أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] (يوسف: ٤٠) [أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ]

(الأنعام: ٦٢) . والحكم داخل في مفهوم الأمر قدرياً كان أو شرعياً، وإن كان

المقصود عندنا في هذا المقام هو الحكم الشرعي، وقد انتظم قوله: [وَسُبْحَانَ اللَّهِ]

(يوسف: ١٠٨) كل هذه المعاني والعلوم والدقائق، وهي في جملتها خلاصة

العلوم الشرعية.

واتضح من إضافة السبيل إليه - تعالى - في قوله: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ]

(النحل: ١٢٥) ، ومن إضافتها إلى رسوله في قوله - عز من قائل -: [قُلْ

هَذِهِ سَبِيلِي] (يوسف: ١٠٨) . والرسول لا يتلقى إلا الوحي ولا ينذر إلا

بالوحي، ومن قوله أثناء الآية: [وَسُبْحَانَ اللَّهِ] (يوسف: ١٠٨) من التدليل

على ربانية مصدر هذه الدعوة ما لا مزيد عليه؛ مع أن الأمر لا يحتاج إلى مزيد

تفصيل في مثل هذه المقالة؛ لكونه من أصول العقيدة وقطعيات الديانة، والآيات

والأحاديث في هذا المعنى تعد بالمئات، ولا ينكر هذا إلا كافر بالوحي.

فالشريعة الإسلامية نزلت من لدن حكيم خبير، ولا تحتاج إلى زيادة؛ لأنها

كاملة ووافية بمصالح العباد في العاجل والآجل، وكل ما سواها من التيارات

والنظريات والملل والنحل فهو طاغوت يحرم تحكيمه والتحاكم إليه، ويكفر من فعل

ذلك أو دعا إليه، أو اتهم الشرع بالنقص أو التخلف أو الوحشية أو البدائية ونحو

ذلك، أو اتهمه بعدم الوفاء بصلاح القلوب وعلاج النفوس.

ج - مفاصلة المشركين: (وما أنا من المشركين) :

إن دعوة التوحيد الخالص لا يمكن أن تتعايش مع الشرك والمشركين بأي حال

من الأحوال؛ إذ قوام عقيدة التوحيد مبدأ الولاء والبراء: الولاء لله ولرسوله

وللمؤمنين، والبراء من الشرك والمشركين.

وذلك يعني الكفر بجميع الطواغيت والنظم البشرية، ومباينة المشركين

ومقاطعتهم وإعلان البراءة منهجاً: قولاً وفعلاً، وتلقي الهداية من الله وحده، وإسناد

الأمر والحكم إليه، والتعبد له ظاهراً وباطناً بجميع أنواع العبادات التي شرعها في

كتابه الكريم، أو على لسان رسوله الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وقد ألح القرآن الكريم في مواضع كثيرة على هذا المبدأ الأصيل الراسخ في

صلب العقيدة؛ فمن ذلك قوله - تعالى -: [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ

عَشِيرَتَهُمْ] (المجادلة: ٢٢) .

وقال - سبحانه -: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ

قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ

العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ]

(الممتحنة: ٤) .

وقال - عز من قائل -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى

أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] (المائدة: ٥١) إلى غير

ذلك من الآيات الصريحة في تحريم موالاة المشركين وأهل الكتاب.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» [٤] ،

وقال: «أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب» [٥] ؛ وذلك لأنها مهبط الوحي

ومنبت الرسالة، وفيها الحرمان: المكي، والمدني. وتبرأ صلى الله عليه وسلم من

مؤمن يقيم بين أظهر المشركين، وقال: «لا تراءى ناراهما» [٦] .

وإذا كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بأن يقول: [وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ]

(يوسف: ١٠٨) . فمعنى ذلك أيضاً أنه مأمور بأن يقول إنه من الموحدين وأن

يصدع بذلك؛ وفي ذلك من إعلان التوحيد وهدم الشرك والبراءة منه ومن أهله،

وإخلاص العبادة لله وحده وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد، مما تعجز العبارة عن

وصفه وتلخيصه.

وبهذا كله يتبين أن قوام الدعوة وملاك أمرها التوحيد؛ فلا غرابة في تركيز

الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأتباعهم على العقيدة الصافية ونشر أركانها

ومبادئها، ودعوتهم إلى مفاصلة المشركين ومباينتهم في كل شيء في الاعتقاد

والعمل والمظهر والسلوك؛ لأن التزام الصراط المستقيم يقتضي مخالفة أصحاب

الجحيم.

إن العبادة لا تتم إلا بتحقيق الأصل وهو التوحيد، ولا يجازى الناس

ويحاسبون إلا على أساس المعتقَد.

وتوحيد العبادة هو لب الرسالات السماوية والكتب المنزلة؛ لأن الخلق

مفطورون على توحيد الربوبية، ووصف المولى - عز وجل - بصفات الكمال

ونعوت الجلال.

ومن أجل هذه العبادة القائمة على التوحيد - بكل أقسامه - خُلِق الخلق وبعثت

الرسل ونصبت الموازين [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]

(الذاريات: ٥٦) ، [وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا

كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] (الجاثية: ٢٢) ، فأول خطوة يقطعها الداعية على هذا

الطريق، وأول نشاط دعوي يزاوله، بل أول كلمة يتفوه بها هي الدعوة إلى

توحيد العبادة بلا مساومة ولا تدرُّج، ولا تنازل. وليصبر على ذلك عشرات

السنين كما صبر عليه نوح - عليه السلام - أول الرسل إلى أهل الأرض عشرة

قرون إلا خمسين عاماً.

إنه مبدأ لا يقبل التنازل ولا التأخير بحال من الأحوال، ولا ينبغي أن يظن

الداعية أنه يجزئه مجرد الأمر بالتوحيد إجمالاً؛ بل لا بد أن يشرح معنى التوحيد

تفصيلاً حتى لا يظل الناس على شِعْبٍ من الشرك وهم لا يشعرون؛

ومن المعلوم أنه أخفى من دبيب النمل على الصفا!

وصفوة القول أن الدعوة إلى الله - تعالى - هي أولاً:

الدعوة إلى توحيده وما يتبع ذلك من امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن أول

حركة في المجال الدعوي شرح مسائل التوحيد - تفصيلاً - كما جاء في الكتاب

والسنة بعيداً عن حذلقة المتكلمين وثرثرة المتفيْهقين.

وأن المسلم يجب عليه الاستمرار في الدعوة على منهاج الرسول صلى الله

عليه وسلم صادعاً بالتوحيد وتنزيه الرب - جل وعلا - معلناً البراءة التامة من

المشركين والكتابيّين، ومحترساً من التعلق بهم أو موالاتهم أو محاكاتهم أو التشبه

بهم، أو الإعجاب بأموالهم وأولادهم، أو الاغترار بتقلبهم في البلاد.

وإذا تمهد أن الغاية من رسم السبيل ووضع المنهاج هي الدعوة إلى الله وحده

عبوديةً له وطواعية مطلقة علم بذلك أن هذا السبيل جاء نسفاً لطواغيت الأرض

وهدّاً لأركان الوثنية، أياً كان نوعُها، واقتلاعاً لجرثومة الشرك من أصولها،

واجتثاثاً لبذورها وجذورها.

إنه طرح لكل العبوديات وتحرير للعقول والألباب، والأفئدة والنفوس

والأرواح من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.

إنها دعوة محددة [أَدْعُو إِلَى اللَّهِ] (يوسف: ١٠٨) ، [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ

رَبِّكَ] (النحل: ١٢٥) ، منضبطة بغايتها، وهدفها، فلا مجال لدعوة أخرى ولا

لطريقة أو مذهب أو شخص أو دستور أو قبر أو وثن ... إنها دعوة إلى الله سبحانه،

وكفى.

يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: «يقول - تعالى - لرسوله

صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس، آمراً له أن يخبر الناس أن هذه

سبيله، أي طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة ألاَّ إله إلا الله وحده لا

شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان، هو وكل من

اتبعه.. يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين

وبرهان عقلي وشرعي» [٧] .

إنها دعوة إلى إعلان التوحيد في الأرض، والعمل بمقتضاه ظاهراً وباطناً،

يصدع بذلك محمد صلى الله عليه وسلم في حياته، ويضطلع بها من بعده من اتبعه

إلى يوم الدين، كل حسب طاقته ووسعه، وقد غلطت جماعات وتنظيمات إسلامية

معاصرة في عدم تركيزها على التوحيد في خطابها الدعوي، وإن تطرقت إليه ففي

إطار محدود ونطاق ضيق، بل ربما ركزت بعض الطوائف على باب معيَّن

وتركت الأبواب الأخرى.

ومن تتبَّع القرآن المكيّ وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في فجر الدعوة

بمكة المكرمة، ورأى تركيزه طوال ثلاث عشرة سنة على التوحيد، وحرصه على

تجذيره في النفوس وغرسه في القلوب، وراجع سير المرسلين من قبله أدرك مدى

فداحة هذا الخطأ الذي وقعت فيه الجماعات المذكورة.

إن تلك التربية الإيمانية التي ربى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم

أصحابه - رضي الله عنهم - هي التي جعلت إيمانهم بالغيب أقوى من إيمانهم بعالم

الشهادة، وجعلتهم يشتاقون إلى الجنة، فبذلوا نحورهم، ودماءهم الغالية رخيصة

في سبيل الله، لإعلاء كلمته ونشر دينه. وبذلك الإيمان العميق، وتلك العقيدة

الراسخة - لا بالعدة والعدد - دكوا صروح قيصر وكسرى، وبنوا حضارة عظيمة

من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب. ومن تأمل ذلك الفعل الحضاري الفريد في

الدهر أدرك أهمية العقيدة في بناء الأمم وحركة التاريخ.

د - سمو الغاية:

إن الحكمة من وضع هذه السبيل ورسمها للناس واضحة المعالم، وهي

دعوتهم إلى الله - سبحانه وتعالى - دعوتهم إلى عبادته بما شرع لهم امتثالاً

واجتناباً؛ فإذا وحدوا الله وعبدوه دخلوا الجنة، وحل عليهم رضوان الله؛ وذلك هو

غاية المطامح ومنتهى الآمال [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ] (التوبة: ٧٢) .

وبالتوحيد والعبادة يكون القلب موصولاً بالله - تعالى -، مطمئناً مستريحاً من

أكدار الدنيا ونكد الوجود، مغموراً بالسعادة، لا يشعر بتعاسة ولا شقاء ولا حرمان،

يعيش في ظلال وارفة من الإيمان والطمأنينة، والسكون إلى الله - عز وجل -

والأنس بذكره وعبادته، والرضى بقضائه وقدره، وتلك هي الحياة الطيبة التي لو

علم الملوك وأهل الدنيا بما يجد أهلها من حلاوة الإيمان وبرد العيش لجالدوهم عليها

بالسيوف.

وهذه الحياة الطيبة تفضي إلى جنة عرضها السماوات والأرض حيث ينعم

المؤمن في جنات عدن بالنظر إلى وجه الرحمن - جل وعلا -.

سعادة دنيوية موصولة بسعادة أبدية لا تنقطع [عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ]

(هود: ١٠٨) ؛ وتلك هي ثمرة العبادة التي خلق الجن والإنس من أجلها،

ودعوا إليها فتحملوا أمانتها بعد أن عرضت [عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ

أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا] (الأحزاب: ٧٢) .

ولكي يسعد الإنسان في دار الدنيا وفي دار الآخرة، فإن الله - عز وجل - قد

تولى دعوته، فقال - سبحانه -: [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ] (يونس: ٢٥) ،

وقال - تعالى -: [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

يَتَذَكَّرُونَ] (البقرة: ٢٢١) وقال سبحانه: [قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى]

(إبراهيم: ١٠) .

ثم أمر - تبارك وتعالى - رسله بالدعوة إليه: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ

وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] (النحل: ١٢٥) ، [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا

اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] (النحل: ٣٦) ، [وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ]

(فاطر: ٢٤) .

وأمر المؤمنين بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال - تعالى -:

[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: ١٠٤) ، وأنزل - سبحانه وتعالى - الكتب

وبينها للناس لعلهم يتذكرون، وهكذا أقيمت الحجة، [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ

عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] (النساء: ١٦٥) ، [قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ]

(الأنعام: ١٤٩) ، [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ

لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] (الأنفال: ٤٢) .


(*) كاتب موريتاني.
(١) السبيل يذكر ويؤنث فمن قوله - تعالى -[وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً]
(الأعراف: ١٤٦) , ومن الثاني: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي] (يوسف: ١٠٨) .
(٢) أخرجه الترمذي في كتاب العلم , رقم ٢٦٧٦ , ابن ماجه , المقدمة , رقم ٤٤ , واللفظ له.
(٣) البدايه والنهاية، لابن كثير , ٢ / ٤٧٧.
(٤) أخرجه مالك في الموطأ , الجامع، رقم ١٦٥١.
(٥) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم ٣٠٥٣، ومسلم، كتاب الوصية، رقم ١٦٣٧.
(٦) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، رقم ٩٥، والنسائي في كتاب القسامة، رقم ٢٦.
(٧) تفسير ابن كثير، ٢ / ٤٧٧.