للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[انتفاضة الأقصى مكاسب جلبتها وإخفاقات كشفتها]

أمير سعيد [*]

مضت مرحلة انتفاضية أولى قلبت فيها طاولة المفاوضات في وجه المتآمرين

على فلسطين، وأسقطت رئيس وزراء إسرائيل أيهود باراك وأرغمت أنفه في ثرى

فلسطين، ورفعت قادة النضال الحقيقيين إلى مكانهم السامق اللائق، وسمت بأرواح

لتحلق فوق قبة الصخرة فوق سماء القدس المباركة لتعلن بكل ما آتاها الله من عزة

وكرامة أن النصر مع الصبر، ولتُؤْذِن بمرحلة جهادية جديدة يكون الشهيد هو

عنوانها وموقد نورها، ولتضع الأمور في مكانها الصحيح: هذا اختيار الأمة؛

فأين المفاوضون منه، وأين الحكام منه، وأين المطبعون منه؟

إن من أخطر وأعظم ما كشفته انتفاضة المسرى المبارك هو أن مصير العالم

كله أصبح مرهوناً بمصير هذا المسجد وتلك المدينة المباركة؛ فلقد تحرك شارون

خطوات تفصل بين بيته وبين المسجد الأقصى، فما كانت الطامة إلا مجرد خطوات

نقلته بعدها إلى سدة الحكم في (إسرائيل) ، وخلعت عليه لقب (ملك إسرائيل)

حسبما يقول عنه حلفاؤه.. خطوات أطاحت بخصمه باراك - ربما للأبد - وأشعلتها

ثورة عارمة في فلسطين والعالم العربي والإسلامي.

الكثير فعلته وكشفت عنه الزيارة وما استتبعها من انتفاضة لا تزال تدور

رحاها حتى الآن، تدفعنا - لأهميتها - إلى إلقاء الضوء عليها عبر عرض أهم ما

حققته الانتفاضة من مكاسب، وما كشفت عنه من إخفاقات ومن سلبيات.

أولاً: المكاسب التي ساقتها الانتفاضة:

١ - تربية جيل جهادي جديد:

أضحت الانتفاضة من أهم الأسباب التي عملت على تكوين جيل قادر على

حمل الحجر والمقلاع والسلاح والمتفجرات، جيل مؤمن بقضيته إيماناً راسخاً يحيا

لها ويموت في سبيلها. هذا الجيل صاغته انتفاضة الأقصى من جديد، ورسمت

معالمه وأعادته إلى صدر القضية مرة أخرى، وجعلته رقمها الصعب الذي لا يمكن

بحال تجاوزه بشهادة أعدائه قبل المنتصرين له، فباراك مثلاً كان يرى أن عليه

التفاوض مع أطفال الحجارة - الطرف الأقوى فلسطينياً - ليتمكن من وقف

الانتفاضة.

لقد ترسخ لدى هذا الجيل الناشئ من شباب فلسطين وأطفالها أن الله -

سبحانه- قد وضع الأقصى أمانة في أعناقهم وحدهم، وأنهم إن ضيعوه فلن يقوم

مقامهم أحد في الدفاع عنه؛ فما لانت لهم قناة، واسترخصوا أن تزهق أرواح

المئات منهم ليبقى الأقصى قائماً مطهراً.

ولئن كانت انتفاضة ١٩٨٧م قد أفرزت شباباً مجاهداً وقادة ميدانيين على

مستوى رفيع كيحيى عياش، ومحمد أبو ضيف، وعماد عقل؛ فلقد أضحت

انتفاضة الأقصى هذه مفرخة للعشرات من هذا الطراز، ولعل كثيراً من المحللين

يلحظون الخلفية الدينية التي تبدت ملامحها بصورة أكثر وضوحاً في هذا الجيل

الانتفاضي الجديد مقارنة بجيل ١٩٨٧م، ومن بين الذين لاحظوا بروز الخلفية

الدينية بشكل لافت في الانتفاضة الأخيرة (داني روبنشتاين) الخبير الإسرائيلي في

الشؤون الفلسطينية الذي أكد أن المتظاهرين الفلسطينيين لم يعودوا يمتثلون للسلطة؛

ملمِّحاً إلى أن أعلام الإسلام الخضراء - على حد وصفه - أصبحت هي التي

تغطي جنازات الشهداء بدلاً من أعلام السلطة الوطنية الفلسطينية.

شباب الانتفاضة هو جيل جديد يستشرف النصر ويرفع شعار الانتفاضة لدحر

الاحتلال دون قيد أو شرط. جيل لا يثق بالسلطة الوطنية وإنما يثق بربه وحده،

وينطلق بعد ذلك مستعيناً بالحجر والمقلاع.

٢ - تنامي الوعي بالقضية الفلسطينية لدى شعوب العالمين العربي والإسلامي

وتفاعلهم معها:

أسهمت انتفاضة الأقصى بشكل لافت في تنامي الوعي الإسلامي والعربي

بالقضية الفلسطينية؛ إذ لم يخلُ بلد إسلامي أو عربي بارز من مظاهر ذلك الوعي،

ولقد بدا ذلك جلياً من خلال:

١ - التظاهرات الضخمة المنددة بالعدوان الإسرائيلي على مدن فلسطين

وقراها، والتي عمت معظم الدول العربية والإسلامية، وامتدت إلى الجاليات

الإسلامية في أنحاء العالم.

٢ - لجان مقاومة التطبيع التي انبثقت عن النقابات المهنية في غير ما بلد

عربي.

٣ - الندوات والتجمعات والمهرجانات التي أقامتها الاتحادات الطلابية

والنقابات المهنية بهدف دعم الانتفاضة والتنديد بقامعيها، وكان جديراً بالاهتمام

شمول المساندة الشعبية للانتفاضة في بعض البلدان العربية لجميع النقابات المهنية.

ورأى الناس في العالم العربي أشخاصاً بعيدين كل البعد عن الهم الفلسطيني وهم

يبكون محمد الدرة وغيره من الشهداء أمام شاشات التلفزيون. وامتد الغضب

الشعبي كذلك إلى المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية التي جاب أبناؤها الشوارع

والميادين في معظم مدن تلك البلاد منددين بالقمع الإسرائيلي. وغني عن القول أن

انتفاضة الأقصى أسهمت بشكل فعال في إسكات أصوات المطبعين مع اليهود،

وضاعفت من حجم الرفض الشعبي للكيان الصهيوني، وأعادت بلورة جزئيات

القضية في قلوب وعقول جيل من العرب والمسلمين على نحو فعال ومغاير للشكل

الذي ارتسمت ملامحه في تلك القلوب والعقول لسنوات طوال.

٣ - الخسائر البشرية الكبيرة نسبياً التي لحقت بإسرائيل:

من الصعب على المقاومة الفلسطينية على اختلاف توجهاتها إحصاء عدد

القتلى والجرحى الإسرائيليين التي تخلفها عملياتها الفدائية؛ ولذا فإن أي إحصاء

ولو تقريبي مرهون بإعلان السلطات الأمنية الإسرائيلية عنه، وهو ما تتجنبه هذه

السلطات بشكل مريب خلال تلك الانتفاضة، وقد أثار ذلك الشكوك لدى العديد من

المراقبين العسكريين، ودفعهم إلى الظن بأن إخفاء (إسرائيل) لأعداد قتلاها

وجرحاها لا يستشف منه سوى فداحتها، وهو ما أكده مصدر في كتائب عز الدين

القسام الذراع العسكري لحماس، وتؤكده يومياً الأنباء المتلاحقة عن تعرض

دوريات إسرائيلية ومستوطنات لإطلاق النيران من قِبَل فدائيين فلسطينيين يستبعد

أن تبوء جميع عملياتهم بالإخفاق.

الذي يمكننا تأكيده في هذا السياق أن (إسرائيل) تتعرض لحرب استنزاف

حقيقية أسفرت - بحسب مصادر إسرائيلية - عن مقتل عشرات الجنود

والمستوطنين الإسرائيليين، وعن جرح العديد منهم، وكذلك مقتل عدد كبير من

عملاء (إسرائيل) منذ بدء الانتفاضة في ٢٩/٩/٢٠٠٠م، ولعل ما يدعم ذلك

القدرة المتوافرة لهذه الانتفاضة على الصمود في وجه القمع الإسرائيلي، وهي لن

تتأتى إذا استمر نزيف الدم من جانب واحد فقط.

٤ - الخسائر المادية والمعنوية التي منيت بها إسرائيل:

لم يكن الفلسطينيون وحدهم الخاسرين اقتصادياً بسبب انتفاضة الأقصى؛

فالإسرائيليون تكبدوا هم الآخرون خسائر فادحة قدرت بأكثر من ملياري دولار منذ

بدء الانتفاضة أصابت العديد من مرافق إسرائيل ومواردها، نشير إلى جانب منها

فيما يلي:

أ - أدى استمرار الانتفاضة إلى انهيار مناطق صناعية للاحتلال مثل منطقة

شمال القدس الصناعية التي أصيبت بالشلل التام.

ب - ارتفعت ميزانية الجيش الإسرائيلي بمقدار ٢ مليار شيكل بالإضافة إلى

٠. ٥ مليار شيكل طلبتها قيادة الجيش الإسرائيلي للسنة الحالية بسبب استمرار

الانتفاضة، وتكبد الجيش خسائر فادحة نتيجة لزيادة عدد أيام الاحتياط فيه بمقدار

مليون يوم مقارنة بالسنة الماضية.

ج - تراجع معاملات الشيكل في غزة نتيجة الانتفاضة.

د - تأثر السياحة الإسرائيلية (مورد أساسي من موارد الاقتصاد الإسرائيلي)

تأثراً بالغاً من جراء تدهور الأوضاع الأمنية؛ حيث قل عدد زوار إسرائيل بنحو

٨٠%.

وإلى الجانب المادي، ثمة جانب يفوقه تأثيراً وهو الجانب المعنوي الذي يمثل

عنصراً هاماً من عناصر الصراع تبدو أوضح ملامحه في اتساع الهوة بين

التنازلات الرسمية الفلسطينية وبين الواقع الشعبي المقاوم لها. وفي السياق ذاته

تأتي الانتكاسة التي منيت بها علاقة (إسرائيل) الرسمية مع الأنظمة العربية حتى

أضحت (إسرائيل) كما وصفت (بلداً داخل بحيرة من الكره) ، وتلقت (إسرائيل)

أقوى صفعة دبلوماسية لها - حسب صحيفة معاريف الإسرائيلية - حينما قررت

مصر استدعاء سفيرها في تل أبيب، وذلك إلى جانب إحجام الأردن عن إرسال

سفير جديد في تل أبيب، وقطع كل من سلطنة عمان وتونس والمغرب علاقاتهم

مع (إسرائيل) ، وإغلاق مكاتب التمثيل التجاري لـ (إسرائيل) في كل من

عمان وقطر.

٥ - بروز الإعلام الفلسطيني والعربي عبر القنوات الفضائية، والأرضية،

وشبكة المعلومات الدولية إنترنت، سلاحاً مقاوماً لأول مرة في تاريخ الصراع:

غلامُ أصحاب الأخدود الذي أشار القرآن الكريم إلى قصته حينما جمع قومه

ليشهدوا مقتله على نحوٍ يجعلهم يؤمنون بفكرته، هذا الغلام تذكرته جيداً وأنا أشاهد

مع مئات الملايين غيري مقتل غلام فلسطين محمد الدرة على شاشات التلفزة؛ إذ لم

يُعلم عن غلام في التاريخ الحديث كان لمقتله ذلك التأثير مثلما كان لهذا الغلام.

والحق كما يشهد على ذلك العديد من الإعلاميين العرب البارزين أن مشهد

مقتل محمد الدرة لم يكن بدعاً في تاريخ فلسطين، ولم تكن جريمة قتله هي الأبشع

بين الجرائم الصهيونية الرهيبة على مدى أكثر من نصف قرن؛ بيد أنها كانت

الأبرز والأوضح على مر التاريخ الجهادي؛ حيث التقط مصور عربي وقائعها

وتلقت تسجيلها المتلفز العديد من شبكات التلفزة العالمية ليتم عرضها بعد ذلك على

شاشات العالم بأسره مؤذنة بنقطة غالية جداً يسجلها الإعلام العالمي، ولتفتح الطرق

للإعلام العربي والإسلامي ليدخل في حلبة الصراع بعد أن غيب عنها عشرات

السنين.

لا شك أن الإعلام العربي والإسلامي لا يضاهي الإعلام الغربي في إمكاناته

عالمياً لكنه إقليمياً أصبح قوة لا يستهان بها، وبرغم التحفظات الكثيرة التي تسجل

على الإعلام العربي وفضائياته، إلا أن الانتفاضة بفيضها الدافق أرغمت فضائيات

العرب على احتلال جانب كبير من برامجها مما أسهم بشكل فعال في تعريف

العرب بقضيتهم الأولى، وإلهاب حماس الشباب منهم، وكسب تعاطف الرجال

والنساء والأطفال والشيوخ.

الخبير الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية (داني روبنشتاين) قال من جهته:

إن أحد الفوارق بين الانتفاضة السابقة والحالية وجود عشرات قنوات التلفزة العربية

مضيفاً: أن هناك ٢٢ محطة فضائية عربية جميعها تتناول بالتفصيل أحداث

انتفاضة الأقصى. مشيراً إلى أنه بواسطة انتفاضة الأقصى يكتشف الشباب الذي لم

يسمع شيئاً عن فلسطين من جيل ١٩٤٨م - الذي لم يعد معظمه على قيد الحياة -

يكتشف الآن المشكلة الفلسطينية مجدداً؛ فالأجيال الشابة من المحيط إلى الخليج

تشاهد الآن برامج عن معاناة الفلسطينيين والمجازر الإسرائيلية مثل مجازر: (دير

ياسين، وكفر قاسم، وصبرا وشاتيل ا) ، ويشاهد كذلك بث برامج عن أوضاع

اللاجئين المأساوية في لبنان وغيرها مما يعيد تعريف النشء العربي بالقضية

الفلسطينية. كما نوه روبنشتاين بالبرامج الدينية التفاعلية في الفضائيات العربية

الداعية إلى الجهاد ضد (إسرائيل) بالسلاح وبالمال عبر التبرع للانتفاضة، والتي

لاقت تجاوباً عالياً خاصة في الخليج العربي.

ولا يفوتنا في هذا الإطار الإشارة إلى عدد كبير جداً من المواقع العربية

والإسلامية على شبكة الإنترنت الداعمة إعلامياً للانتفاضة، والمنددة بالقمع اليهودي

لها، والتي أعطت بدورها بعداً إعلامياً متميزاً للانتفاضة.

٦ - النجاح الجزئي لسلاح المقاطعة للبضائع الإسرائيلية:

لاقت الدعوات المتواترة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والأمريكية صدى عالياً

في عدد غير قليل من الدول العربية والإسلامية ما لبث أن خبت حدته بعد ذلك

بسبب اعتمادها على العاطفة وعدم التنسيق بين لجان التطبيع المتناثرة في أرجاء

العالمين العربي والإسلامي؛ ووقوف العديد من الأنظمة حائلاً دون نجاحها في كثير

من الأحيان؛ ورغم ذلك فقد وجهت تلك المقاطعة ضربات موجعة لعدد من

الشركات العالمية في منطقة الشرق الأوسط، مثل مجموعة سوبر ماركت

(سنسبري) ، ومطاعم (ماكدونالدز) و (بيتزاهت) ، وشركات (كوكاكولا)

وإريال وغيرها، ولو لم تقض تلك المقاطعة على الوجود الاقتصادي اليهودي

الأمريكي في المنطقة إلا أنها أرسلت رسالة واضحة جداً تمثل الغضب الشعبي

والإسلامي من ممارسات (إسرائيل) القمعية فهمتها تلك الشركات بحاستها

الاقتصادية بسرعة؛ فراحت تغازل مؤيدي الانتفاضة بمشاركتهم الدعم الصحي

للفلسطينيين، وفهمتها كذلك دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية

و (إسرائيل) من وراء تلك الشركات. وعسى أن تكون تجربة المقاطعة مدعاة

لإحسان تفعيلها عند استخدامها مرة أخرى بشكل يوجع الاقتصاد الأمريكي

والإسرائيلي، ويحد من كبريائهما السياسي والعسكري.

٧ - تخفيف وطأة الضغوط التي تمارس ضد المعارضة العربية والإسلامية

واستفادة المعارضة من ذلك:

أعطت الانتفاضة زخماً عظيماً ودفعة هائلة لقوى المعارضة في الدول العربية

والإسلامية لا سيما المعارضة الإسلامية منها لأسباب منها:

١ - أظهرت بُعد نظر تلك المعارضة في عدم جدوى المفاوضات لعدم وفاء

الإسرائيليين بالمعاهدات والمواثيق، وللانحياز الكامل من جانب الولايات المتحدة

لـ (إسرائيل) ، ولأن المفاوضات لم تمنع (إسرائيل) من تنفيذ مخططاتها

الاستيطانية، ولم تعد اللاجئين الفلسطينيين البالغ عددهم أكثر من ٣,٧ ملايين

فلسطيني إلى ديارهم، كما لم تحد من غلواء العصابات الصهيونية في سعيها

الحثيث لهدم المسجد المبارك، بُعد نظر تلك المعارضة ترجمته بصدق أربع

انتفاضات في مرحلة المفاوضات: (١٩٩٤م انتفاضة الحرم الإبراهيمي، ١٩٩٦م

انتفاضة النفق، ١٩٩٧م انتفاضة جبل أبو غنيم، ٢٠٠٠م انتفاضة الأسرى) ،

وجسدته أعظم الانتفاضات: انتفاضة الأقصى الحالية التي وصفت بأنها جاءت

بمثابة حرق لجثة السلام.

٢ - تنعم المعارضة في الدول العربية - لا سيما المعارضة الإسلامية منها -

بهامش حرية أكبر كلما ابتعدت أنظمة تلك الدول عن الارتباط بالكيان الإسرائيلي،

أو كلما أرادت تلك الأنظمة أن تستغل ورقة المعارضة لديها.

٣ - تعد قضية الأقصى ببعدها الديني تربة خصبة لأحزاب وقوى المعارضة

تستنبت فيها أيديولوجياتها المختلفة التي ترى وفقها كل منها حلاً للمعضلة

الفلسطينية يتنافر بطبيعة الحال مع رؤية الأنظمة الحاكمة التي لم تستطع أن تقدم

سوى مفاوضات عرجاء لا تتجاسر تلك الأنظمة على الدفاع عنها الآن.

٤ - استغلت تلك الأحزاب والقوى السياسية عدم قدرة الأنظمة العربية على

قمع تظاهراتها وندواتها في قضية واضحة المعالم تتمثل في الدفاع عن الأقصى

الشريف وعن حراسه، وهي قضية لا يتناطح علانية فيها عنزان.

٨ - زيادة الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية:

تقول صحيفة دي فيلت الألمانية: إن إطفاء النيران المشتعلة في الشرق

الأوسط ليس بالأمر الذي يسمح بتركه للإسرائيليين والفلسطينيين فقط، وتحذر تلك

الصحيفة من مغبة تفجر الصراع في الشرق الأوسط وانعكاساته على العالم بأسره،

مذكرة بتفجير المدمرة الأمريكية كول - مركز التجارة العالمي - سفارتي أمريكا في

نيروبي ودار السلام - الاعتداء على كنيس يهودي في فرنسا - الاعتداء على

سفارة بريطانيا في صنعاء.

لقد شعر العالم بمستوييه الرسمي والشعبي بخطورة تدويل الصراع الفلسطيني

الإسرائيلي، وأحس بذلك - خصوصاً - في الأيام الأولى للانتفاضة، وكادت

الدولة العظمى الأولى تمنى بخسارة عسكرية فادحة جراء تفجير المدمرة كول،

وأغلقت معظم سفاراتها وقنصلياتها في الشرق الأوسط وإفريقيا، ولم تستطع الآلة

الإعلامية اليهودية العملاقة ممارسة التدليس الكامل على شعوب العالم في شأن

القضية الفلسطينية بل أرغمت على بث جانب من الحقيقة المدينة لـ (إسرائيل) ؛

فاكتسبت المقاومة الفلسطينية بذلك تعاطفاً محدوداً في الدول الغربية لم تكن تطمح

إليه سابقاً، ودبت الروح مجدداً في الجاليات المسلمة والعربية في الغرب،

واستشعرت دوراً حيوياً لها في المهجر، فسيرت التظاهرات، وأحيت الندوات،

وجمعت التبرعات. وقد أدى ذلك كله إلى نمو وعي العالم بالقضية الفلسطينية،

وتعاطف البعض معها حتى إن التبرعات التي جمعت في دول أوروبا على

المستويين الرسمي والشعبي بلغت نحو نصف ما قدمه العرب للفلسطينيين.

٩ - جسارة حراس الأقصى تقطع الطريق على الداعين لهدمه:

من إيجابيات الانتفاضة الأخيرة أنها أثبتت لليهود أن للأقصى رجالاً يذودون

عن حماه، وأن على متدينيهم ومتطرفيهم التفكير ألف مرة قبل الإقدام على هدمه.

لقد كانت زيارة مسؤول إسرائيلي للأقصى الشريف قمينة بأن تلهب الغضب

في فلسطين، وأن تتدافع الجماهير مسترخصة الأرواح والأنفس للحيلولة دون

تدنيسه فضلاً عن هدمه.

لا ريب أن نزيف الدم كان ضرورياً لحرف جماعات التطرف اليهودي عن

مسارها الشيطاني الهادف إلى هدم المسجد الأقصى، وما ينبغي للعرب أو المسلمين

أن يندموا على دم طاهر أريق على أعتاب القدس أبداً.

١٠ - الكشف عن مدى فساد السلطة الفلسطينية الأمني والمالي، واهتزاز

ولاء صغار الجنود للزعيم:

فساد السلطة الأمني والمالي هما من أهم ما أماطت الانتفاضة الفلسطينية اللثام

عنه؛ إذ أسقطت به السلطة الفلسطينية أسهماً كثيرة من رصيدها لدى الشعب

الفلسطيني المناضل؛ فحين كان القصف الإسرائيلي الرهيب يمطر قطاع غزة

والضفة الغربية كان محمد دحلان يطلق تصريحه مفاخراً: (دافعنا عن إسرائيل ٦

سنوات كاملة) ، وكان جنوده يعتقلون كوادر حماس والجهاد الإسلامي، ومن بينهم

مخططو انفجار الخضيرة الكبير بعد أيام من تنفيذه، وكانوا يحررون ويا لبؤسهم

رئيس مجلس بلدية (بيرتيبالا) من عملية اختطاف، ولا يخفى على ذي عينين أن

الفلسطينيين وهم ذوو حس نضالي رفيع لم ينظروا بارتياح إلى مشهد القادة

والمفاوضين وهم يبتسمون لأعدائهم أمام شاشات التلفزة، ويلوحون للصحفيين وهم

مع الإسرائيليين في مركب واحد وسيارات فارهة.

كشفت انتفاضة الأقصى عن هوة سحيقة بين الجهاد والنضال الذي يمارسه

الفلسطينيون وبين الخيانة التي تقوم بها سلطتهم (الوطنية) ، وفتحت ملفات

حرصت السلطة كثيراً على إخفائها، وهبت القوى الفلسطينية بـ ١٣ تنظيم

إسلامي ووطني لتوقع على وثيقة تدعو عرفات لوضع حد لكل مظاهر الفساد؛ حتى

إن عرفات تلقى تحذيراً شديداً من داخل حركته (حركة فتح) للقضاء على كل

مظاهر الفساد بالسلطة، أتبعه مقتل هشام مكي مسؤول التلفزة الفلسطينية على يد

منظمة مجهولة تدعى: (كتائب الأقصى) متهمة إياه بالفساد، وتنادت جهات

رسمية وشعبية عربية وإسلامية تدعو إلى منع السلطة من بسط سيطرتها على

أموال التبرعات التي تلقتها منظمة التحرير الفلسطينية منذ إنشائها قبل نحو ٣٥ سنة.

مظاهر الفساد التي كشفتها الانتفاضة حدت بمسؤول أوروبي رفيع إلى التحذير

من انهيار السلطة الفلسطينية منوهاً في الوقت ذاته إلى أن ذلك يعني أن (إسرائيل)

تكون قد فقدت شريكها في عملية السلام مما سيهدد أمنها.

١١ - تضامن فلسطينيي الأرض المحتلة عام ١٩٤٨م:

خرجت جماهير فلسطين ١٩٤٨م في انتخابات يوم ٦ فبراير عام ٢٠٠١م

لتصوت للانتفاضة لا لباراك ولا لشارون ولا حتى للسلطة الفلسطينية التي دعتهم

صراحة لتأييد باراك لمواصلة ما تبقى من عملية السلام، هبت تلك الجماهير هبة

وثابة إبان الانتفاضة والانتخابات الإسرائيلية لتؤكد بكل حسم ما يلي:

١ - عمق الفجوة بين المواطن الفلسطيني الذي أرغم على الانتماء (ورقياً)

إلى (دولة إسرائيل) وبين هذه (الدولة) وهو ما يعني هشاشة المجتمع الإسرائيلي

الزاعم بأنه استوعب عرب ١٩٤٨م.

٢ - رغم كل محاولات إسرائيل (أسرلة) عرب ١٩٤٨م إلا أنهم لما رأوا

الخطب عظيماً، وأحسوا بأن القدس في خطر هبوا بكل قوة مشاركين في الانتفاضة

الغراء حتى سقط منهم ١٣ شهيداً.

٣ - أن السلطة الفلسطينية تفتقر إلى الشعبية في صفوف عرب ١٩٤٨م وقد

باءت دعوتها بالإخفاق لعدم التصويت لصالح شارون إخفاقاً مخجلاً حينما أصر

عرب ١٩٤٨م على وضع بطاقات بيضاء في صناديق الاقتراع مصرِّين بذلك على

معاقبة باراك لقتل ١٣ منهم، ومصرِّين في الوقت نفسه على عدم إعطاء أي مزية

للسفاح شارون، لتأكيد أن لا مصلحة لهم في نجاح هذا ولا ذاك.

٤ - أن الانتفاضة وما استتبعها من انتخابات إسرائيلية قد أعطت وضعاً فائق

التميز لعرب ١٩٤٨م داخل المجتمع الإسرائيلي حيث أخذ الساسة الإسرائيليون

يخطبون ودهم ويحاولون استقطابهم؛ لدرجة أن السفاح شارون نفسه عمل على ذلك

قبل وأثناء وبعد الانتفاضة الإسرائيلية، أما الاستخبارات الإسرائيلية؛ فقد بدا عليها

الانزعاج إزاء ما أسمته الطابور الخامس العربي؛ وهو ما يعني مزيداً من القلق

الإسرائيلي.

٥ - وحدت الانتفاضة عرب ١٩٤٨م، وأعادت إليهم هويتهم شبه الذائبة،

وبصرتهم بدورهم الهام الذي ينبغي لهم أن يضطلعوا به، فكانت صرختهم مدوية،

وكان لها مردودها الطيب على الفلسطينيين في داخل فلسطين ١٩٤٨م، ١٩٦٧م.

١٢ - إحراز الفلسطينيين ومحازبيهم تقدماً نوعياً في حربهم الإلكترونية ضد

إسرائيل على شبكة المعلومات الدولية إنترنت:

باستخدام (البت والبايت) إلى جانب الحجارة والرصاص تمكن الفلسطينيون

ومحازبوهم من المسلمين العرب من تحقيق نصر رمزي ومادي على (إسرائيل)

قدر بأكثر من مليون دولار جراء تعطيل واختراق عدد كبير من مواقع (إسرائيل) ،

من أهمها موقع الكنيست الإسرائيلي على شبكة إنترنت، وبالرغم من أن

(إسرائيل) قد داهمت عدداً من المواقع الفلسطينية والعربية والإسلامية إلا أن مجرد

تحقيق تقدم للجانب الفلسطيني في هذا المضمار يعد انتصاراً كبيراً لهم بالنظر إلى

الإمكانات الإلكترونية الهائلة لليهود في العالم.

١٣ - استخدام الأسلحة بشكل متناغم مع الحجارة في الانتفاضة:

تميزت انتفاضة سبتمبر ٢٠٠٠م عن سابقاتها بتنوع أسلحة المقاومة وتدرجها

من الجانب السلمي (قذف الحجارة) إلى الجانب العسكري (استخدام البنادق

والمتفجرات والهاون) ، حيث تم جر إسرائيل إلى حرب استنزاف تهدف إلى العمل

على إفقاد (إسرائيل) التدريجي لقدرتها على المقاومة، ودفعها إلى اتخاذ موقف

مشابه لمثل الذي اتخذته في الجنوب اللبناني.

١٤ - الاضطراب السياسي وتعاقب الحكومات الضعيفة في إسرائيل:

بالطبع ليس الأمر مقصوراً على هذه الانتفاضة الأخيرة وحدها؛ وإنما جاءت

انتفاضة الأقصى لتتم عملاً سبقتها إليه سلسلة من الانتفاضات أدت جميعها إلى

اضطراب الساحة السياسية الإسرائيلية، وعدم قدرتها على إيجاد حكومة إسرائيلية

واحدة قوية تستطيع أن ترسم مشاريعها وتنفذها على أرض الواقع، وإذ يعمل كل

رئيس حكومة إسرائيلي وسط فسيفسائية حزبية إن أرضى وزيراً وحزباً أغضب

آخرين؛ فليس بمقدوره أن ينفذ سياسة واضحة المعالم؛ ولقد بدا ذلك جلياً في

شخص رئيس الوزراء السابق أيهود باراك حينما بدأ حكمه بصفة بديل سلمي

لنتنياهو فإذا به ينتهي أسوأ منه؛ فالهدف الأسمى عند أي رئيس حكومة إسرائيلي

أصبح هو أن يبقي حكومته قائمة دون اقتراع برلماني لحجب الثقة عنها فقط.

١٥ - العالمان العربي والإسلامي في الميزان:

قد كانت شعوب العالمين العربي والإسلامي بحاجة لأن تضع نفسها وأنظمتها

في الميزان لتعلم مدى جديتها في التعامل مع القضايا المصيرية، ومنذ وطئت قدما

شارون أرض الحرم وردود الفعل تتوالى في العالمين العربي والإسلامي، وبدا ما

يلي:

١ - لهث الرسمي وراء الشعبي محاولاً إثبات وطنيته وعروبته وإسلامه؛

لكن لغة السياسة ما لبثت أن فضحته؛ فرد فعله على المستوى الأقصى لم ولن

يتجاوز سقف القرارات الدولية والمؤتمرات والشجب والتنديد.

٢ - مثلت غالبية الأنظمة القائمة حاجزاً مريراً يحول بين الشعوب ومناصرة

الشعب الفلسطيني الأعزل.

٣ - ظلت بعض الدول العربية - على المستوى الرسمي - مصرة على

السباحة ضد التيار الرافض لـ (إسرائيل) ، ولم تبال بالغضب الشعبي، بل

عملت على إسكاته، ومن هذه الدول الأردن الرسمي الذي لم تهزه الأحداث فراح

يعتقل بعض جرحى الانتفاضة، وأوقف عدداً من مناهضي التطبيع لديه لنشرهم

قائمة بالمطبعين طالت عدداً من المسؤولين رفيعي المستوى، ووجه إلى المناهضين

عدداً من الاتهامات قد تصل إلى الإعدام.

٤ - تفاعلت الشعوب العربية والإسلامية على اختلاف تركيبتها مع قضية

الأقصى؛ بيد أن ذلك التفاعل تفاعل عاطفي ما يلبث أن تخبو جذوته بمجرد إزاحة

صور الأحداث عن شاشات التلفزة.

٥ - سلاح المال هو السلاح الفعال الأوحد الذي استخدمته الحكومات

والشعوب لدفع الشعور بالتقصير.

١٦ - بث الرعب في قلوب الإسرائيليين ودفعهم إلى الشعور الدائم بعدم

الاستقرار:

ذكرت مصادر إسرائيلية في جيش إسرائيل أن ١٨ إسرائيلياً انتحروا منذ بدء

الانتفاضة، وعدد المنتحرين هذا هو ضعف العدد المسجل في العام الماضي كله.

الانتفاضة أصابت ٤٠% من الإسرائيليين بأمراض نفسية، وتضاعف عدد

المتعرضين للكوابيس، والمصابين بالتبول اللاإرادي لدى أطفال اليهود.

المستوطنون ينزلون إلى الملاجئ بكثرة إثر قصف الفلسطينيين للمستوطنات

اليهودية بقذائف الهاون.

الفتيات اليهوديات يرفضن الزواج من مستوطنين أو ممن يصرون على

الاستقرار في المستوطنات.

سيل من الأنباء تقذفها الوكالات كل يوم قاسمها المشترك هو الرعب الشديد

الذي يشعر به الإسرائيليون؛ مما يؤكد أن الانتفاضيين يدفعون الإسرائيليين إلى

الإحساس بأنهم ليسوا في جنة الله الموعودة، وأنهم ببساطة لا يحيون في بلد ينعم

بالاستقرار.

١٧ - الالتفاف عربياً وإسلامياً حول قضية واحدة:

توافر لانتفاضة الأقصى حجم هائل من التأييد والمؤازرة لم تشهد الأمتان

العربية والإسلامية له نظيراً منذ زمن بعيد، ورُئِيت شعوبنا وهي تنتفض انتفاضة

موازية لانتفاضة الأقصى، وكشفت تلك المحنة عن أن شعبنا العربي لم يمت بعد.

لقد كانت الأمة بحاجة إلى هذه الانتفاضة لتلتف حول قضية واحدة، وليستبين لها

كم تُعادى وكم يُتآمر عليها؟ وكم تثمن في سوق الأمم؟ الأمتان العربية والإسلامية

مريضتان الآن بمرض العولمة، وإنما يرجى لهما العلاج من خلال الصدمات

الكهربية، ولقد كانت انتفاضة الأقصى إحدى هذه الصدمات.

١٨ - التطور النوعي في أسلحة المقاومة:

شهدت الانتفاضة الميمونة تطوراً نوعياً في أسلحتها واستجلاباً لخبرات

جهادية جديدة؛ حيث لوحظ أن عسكريي الانتفاضة قد استخدموا للمرة الأولى

التفجير عن بعد بواسطة الهاتف، واستخدموا تفجير عربة كارو، وقذفوا للمرة

الأولى أيضاً المستوطنات الإسرائيلية بقذائف الهاون.. إلى غير ذلك من مظاهر

التطور، وقد أدى ذلك التطور إلى توزيع كبير في العمليات العسكرية مكنها من

مضاعفة عددها ليصل في أربعة أشهر إلى أكثر من ٨٠ عملية عسكرية بحسب خالد

مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس.

ثانياً: إخفاقات وسلبيات أماطت الانتفاضة اللثام عنها:

١ - الخسائر الاقتصادية والعوز المالي للفلسطينيين:

ضحى الفلسطينيون بمبالغ طائلة من أجل أن تستمر انتفاضتهم، قدرت بنحو

٣ مليارات من الدولارات توزعت على القطاعات والموارد الآتية وفقاً للمركز

الفلسطيني للإعلام:

١ - قطاع الصناعة: تأثر بسبب تدمير الكثير من المصانع وعدم توافر

الخامات للمصانع وصعوبة التسويق.

٢ - قطاع الزراعة: خضع للتدمير الإسرائيلي، وتأثر بانشغال رماة

الحجارة عنه، وأسفر عن خسائر قدرت بـ ١٢٧ مليون دولار.

٣ - قطاع العمالة: أسفرت الانتفاضة عن وجود نحو مليون عاطل عن

العمل.

٤ - الصيد البحري: منعت إسرائيل الصيد البحري في المناطق الجنوبية من

فلسطين.

٥ - قطاع المواصلات: يمثل ١٥% من واردات فلسطين، تأثر هو الآخر

تأثراً كبيراً نتيجة للانتفاضة.

٦ - قطاع السياحة: أحجم السياح عن زيارة فلسطين فأدى ذلك إلى خسائر

قدرت بـ ١٠٠ مليون دولار.

٧ - قطاع الخدمات: تأثر بشدة نتيجة الزيادة الكبيرة في غياب الموظفين.

٨ - قطاع الصحة: ارتفاع عال في المصروفات نتيجة للاستهلاك المرتفع

للأدوية الطبية.

٩ - المدخرات: حدث استهلاك منتظم لمدخرات الفلسطينيين مما قلل من

فرص استثمارهم أموالهم.

١٠ - الاستثمار: تأثر جداً نتيجة لإحجام المستثمرين عن ضخ أموالهم في

منطقة مهتزة اقتصادياً.

١١ - المشاريع التنموية الكبرى: توقفت تماماً.

خسر الفلسطينيون كثيراً ولا غرو؛ فالثورات لم تقم يوماً لتحسين مستوى

المعيشة فحسب؛ وإنما قامت لتحرر الإنسان من ربقة العبودية التي يحكم قيدها

الاحتلال وأذنابه.

٢ - كثرة الشهداء والجرحى الفلسطينيين في الانتفاضة:

ليست الشهادة مغرماً ولا سيما إذا جاءت دفاعاً عن الأقصى الشريف؛ بيد أن

المتتبع لأحداث الانتفاضة لا بد أن يلحظ الكم من القتلى والجرحى في صفوف

الفلسطينيين؛ فالحصيلة الأولى المبدئية للشهور الأربعة الأولى للانتفاضة يزيد عدد

القتلى فيها عن ٣٥٠ قتيلاً، وعدد جرحى أكثر من ١٠٠٠٠ جريح، ويتجاوز عدد

الأسرى ٦٠٠٠ أسير فلسطيني. أما القوى الفلسطينية الرئيسة (حماس فتح الجهاد

الإسلامي) فقد فقدت أكثر من ٢٠ من أبرز نشطائها؛ هذه الفاتورة العالية نسبياً

نتجت عن لقاء الشباب الفلسطينيين أعداءهم بصدور عارية وأيد خالية، وليس لهذا

ما يسوِّغه في كثير من الأحيان، ومن غير السديد أن يكون المؤشر على غليان

الانتفاضة وفتورها هو عدد ضحايانا، بل الصواب أن يكون مؤشر ذلك هو بمقدار

النكاية في صفوف اليهود، فنعلم أن الانتفاضة في وضع جيد إذا ما زاد عدد قتلى

اليهود، أو بمقدار إرهاق الجيش الإسرائيلي، وبث الرعب في قلب المجتمع

الإسرائيلي، ولا شك أن لكل هذا ضحاياه، لكن ينبغي ألاَّ تبلغ فاتورة القتلى

والجرحى حد الانتكاسة، فيُرى في الفعل الانتفاضي ذاته خسارة.

٣ - اقتصار الدعم الخارجي على الجانب المالي فقط، وخفوت الصوت

الداعم للانتفاضة:

الثورة العربية والإسلامية التي أتت مواكبة للانتفاضة انكفأت على دريهمات

تلقى في يد الطفل المنتفض، وعوض أن تتعدد صور المؤازرة العربية والإسلامية

للقضية الفلسطينية انسحبت على تبرعات مالية وصوت زاعق ما لبث أن خفت

حدته بمرور الوقت، مما يشي بعجز الانتفاضة في أقصى درجات تطورها عن قلب

الاندفاع العاطفي العربي الإسلامي إيماناً صادقاً وصموداً واثقاً وثباتاً دائماً والحق أن

ذلك ليس عيب الانتفاضة، وإنما قدرها أن تأتي لتكون بمثابة العدسة التي تظهر

الصورة البائسة بكل ما فيها من عوار لأمة لم تحرك فيها جلالة المصيبة سوى

الزفرات والدمعات وقليل من الدريهمات.

٤ - حالة سلبية مقيتة للتخاذل الإسلامي في حال الإقدام على هدم الأقصى

الشريف:

لقد عُدَّت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي قبل انتخابه إلى المسجد الأقصى

الشريف بمثابة بالون اختبار أريد منه قياس ردود الأفعال العربية والإسلامية داخل

وخارج فلسطين، فجاءت ردود الأفعال من الداخل الفلسطيني مخيبة لآمال

الإسرائيليين، وجاءت ردود الأفعال الخارجية مخيبة لآمال حراس الأقصى على

المستوى الرسمي. ومع هذا لم يحرك العرب لها ساكناً بل مرت الأنباء الآتية عليهم

مرور الكرام:

- نائب بطريريك الكنيسة الكاثوليكية يصرح لأخبار العرب: (هيكل سليمان)

جاهز في أمريكا لا ينقصه سوى النقل والتركيب وينتظر النقل إلى القدس؛ فيما

اليهود منهمكون في مخططهم الإجرامي لهدم الأقصى.

- خطة (إسرائيل) لعزل القدس عن المناطق الفلسطينية.

- قوات مارينز أمريكية تشارك في تدريبات مع الجيش الإسرائيلي في

احتلال الأراضي الفلسطينية، وتشمل تلك التدريبات تدريب اليهود على القنص.

هذه الأنباء ومثيلاتها من ذوات الوزن الثقيل سيقت إبان الانتفاضة ومررها

اليهود على مسامع العرب والمسلمين قادة ومحكومين؛ ومع هذا طاب للأولين أن

يدوروا في ذات حلقاتهم المفرغة.

٥ - جرأة (إسرائيل) في قمع الانتفاضة واستخدام أسلحة فتاكة:

كان من الغريب أن تُقدِم (إسرائيل) على إصابة أكثر من ١٥٠٠ فلسطيني

بقذائف اليورانيوم المستنفذ من غير وازع، وأن تسترسل في قصف قرى ومدن

فلسطين بالدبابات والطائرات والمدفعية من دون أن تلقي بالاً لبث وقائع الانتفاضة

ساعة بساعة على شاشات التلفزة العالمية.

وتبجُّح (إسرائيل) السافر أثناء انتفاضة الأقصى إنما يعني أن (إسرائيل)

لم يعد لديها ما تخشى نشره وإذاعته.

وبعدُ: فالانتفاضة على ما ذكرت قد دفعت من الشر أكثر مما استجلبت من

مآس، لقد كان في صدر برنامج أيهود باراك الانتخابي الذي أسقطته الانتفاضة نقاط

لا تدل إلا على التراجع الإسرائيلي أمام سيل المنتفضين المنهمر، ومن ذلك:

- فك الارتباط الأمني.

- ضم التكتلات الاستيطانية.

- سحب المستوطنات المعزولة.

- إقامة منطقة أمنية في غور الأردن.

هذه النقاط الأربع ترسم الصورة البائسة التي تبدى بها الساسة ومسؤولو

التخطيط الإسرائيلي إزاء عجزهم عن تحقيق مطلبهم الأسمى بالأمن في الأرض

الفلسطينية المحتلة، وبحسب الانتفاضة أنها وحدت الفلسطينيين، ووحدت العرب

على نحو معين، وبصرت الجميع بمن يعمل لمصلحة أمته ومن يخونها، وبثت

الرعب في قلوب اليهود، وعزلتهم سياسياً واقتصادياً في منطقة الشرق الأوسط،

ودفعت أقدام المجاهدين خطوات وثابة في طريق النصر.


(*) صحفي مصري.