للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

الأمة الحائرة بين تصادم الحضارات وعلمانية العالم..!

عطية فتحي الويشي

في إطار نظرية المفكر الأمريكي صموئيل. ب. هانتنجتون عن تصادم

الحضارات: انصبت جهوده في استعداء الحضارات الإنسانية على الإسلام باعتبار

ما يتمثل خطره - على حد قوله - في التيارات الأصولية المتشددة، تلك التيارات

التي ألمح إليها في مطاوي نظريته، مشيراً إلى مقولة أخيه المفكر اليهودي

الأمريكي برنارد لويس Luis، التي يقرر فيها: «إننا نواجه حالة نفسية، وحركة

تتجاوز إلى حد بعيد مستوى القضايا والسياسات التي تنتهجها الحكومات، وهذا

ليس بأقل من صدام الحضارات، وهذا إن كان رد فعل غير عقلاني، ولكنَّ له

جذوراً تاريخية مناوئة لتراثنا اليهودي المسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع

العالمي لكليهما» ا. هـ.

ووفق هذا التصور الغربي الذي تغلب على جل أدبياته - الفكرية والسياسية

وغيرها - مسحة الكراهية والرفض والتشويه، يُعَدُّ الإسلام مصدر تهديد، ومبعث

قلق وتوجُّس غير مقرون ببينة؛ فمن ناحية الواقع السياسي والاقتصادي الإسلامي:

فإنه ليس ثمة مدعاة للخوف والترقب من جهة الغرب بأي حال. قد تكون قضية

الوعي التاريخي التي انفتحت ملفاتها مع وخز الاستفزاز الغربي المعاصر، أنعشت

خيالنا المثقل بالقضايا والهموم: تاريخ الصليبيات والاستعمار والعلمانية، وكلها

ذكريات بالغة في إيلامها الحس الإسلامي مبلغاً مروعاً، ذلك الوعي الذي تجسده

بصورة أو بأخرى: ظاهرة الصحوة الإسلامية التي تمتد على طول عالمنا الإسلامي

المترامي الأطراف وعرضه..!

ولعل كراهية هانتنجتون وبرنارد لويس، وحقدهما الفريد على الإسلام لا

يمنعان بحال من التوقف والتأمل فيما يعنُّ لحاضرنا العربي والإسلامي من منغصات

وحساسيات علائقية بين بعض الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وقد بلغت في

جانب منها حد المواجهات المسلحة تلبية لداعية الفتنة وتمشياً مع تخطيط المركز

السياسي العالمي للحيلولة دون عملية التبلور الحضاري داخل النسق الإسلامي..!

وتنطوي مقولة لويس هذه على بعض المعاني والدلالات التي نرى أن تبيانها

من الأهمية بمكان كبير، ومنها:

أولاً: إن الأحداث الكائنة على المسرح العالمي المعاصر تمخض المفاهيم

الإنسانية مخضاً شديداً، فتنفض عنها غبار العوارض والملابسات الأيديولوجية

الآتية، وتعود بها سيرتها الحضارية الأولى؛ فبعد طلاق تاريخي موغل في القدم،

ورغم عوارض العلمانية على مجتمعنا: نلحظ ثمة إرهاصاً بحالة «رجعة» مسيحية

إلى فراش الزوجية اليهودي، وعلى الرغم من كون تلك الرجعة تكتيكية،

بيد أنها كما تبدو: حالة فريدة من التناغم المفاهيمي، والانسجام الفكري،

والتنسيق الاستراتيجي المؤسس على قواعد وأصول عقدية وحضارية، والذي لا

حيلة في الافتراق من بعدُ مرة أخرى.

هذا، ولن يصبح الدعم الغربي للكيان الصهيوني مؤسساً على المصالح

الاستراتيجية فحسب، وإنما على العقائد الدينية والأفكار كذلك، وهو ما يؤمن بقوة

مسيرة تلك العلاقة نحو أهدافها المنشودة في دنيا الوجود!

ثانياً: أن المرء يتشكك كثيراً إزاء المقولات التي تذهب إلى أن ميراث ما بعد

القرون الوسطى من عداء للدين لا يزال يلقي بظلاله على الوضع السياسي

الأوروبي.

ويجدر في هذا السياق أن نشير إلى أن موقف العلمانية الغربية من المسيحية

قد خضع بدوره لمنطق المنفعة بصفة عامة؛ فتارة نراها تعادي الدين إلى حد

«شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» ، وتارة تهادنه، حين تنص دساتيرها على

احترام المشاعر الدينية للمجتمع، وعدم المساس بحرية العقيدة والعبادة، وتارة

أخرى تسخره لخدمة أغراضها، كما حدث في حملاتها الاستعمارية على الشرق

المسلم، مثلاً؛ حيث كانت الإرساليات التنصيرية بمثابة «هراوات حضارية»

لضرب الفكر الإسلامي، وتفريغ جوهر التوحيد من مضامينه ومعانيه، جاعلة من

ذلك نوعاً من الإحلال الحضاري في البلاد المستعمرة، ولكن الكنيسة الغربية في

كل الأحوال والكنيسة البريطانية بصفة خاصة استطاعت أن تتكيف مع البيئة

العلمانية، فوفقت أوضاعها على نحو قد سهَّل لها وعبَّد كثيراً من صعوبات التغلغل

بصورة أو بأخرى - وبمرور الوقت - إلى عمق المؤسسة السياسية في الغرب

المعاصر!

وقد يتأكد هذا الزعم في ضوء الضغوط الغربية اللحوحة على بعض حكومات

الدول الإسلامية لتقويض أركان الصحوة الإسلامية، وتثبيط تيارها المتدفق بالخير

على امتداد القرن العشرين، بل وصل الأمر إلى حد التلويح بالعقوبات والمضايقات

السياسية للدول التي تبدي تجاوباً مع ظاهرة الصحوة، ليس هذا فحسب، بل إن

عصا الاتهام الغربي باضطهاد الأقليات غير الإسلامية لا تزال ممتدة ومرفوعة من

حين لآخر في وجه بعض البلاد المسلمة؛ ذلك فضلاً عن حالات فرض الثقافة

الغربية من غير سبيل على بعض بلادنا، كالترويج لتيار الفرانكفونية في الشرق

المسلم، وتحبيب التشيع لثقافة العولمة والطريق الثالث، وكلها وسائل للخروج

بالعالم الإسلامي عن إطار خصوصياته الحضارية، وللحد من شعوره بذاتيته

الإسلامية، وقد وصل الأمر بالغرب إلى استصناع أنماط نخبوية في بيئاتنا المحلية

حملت على عاتقها رسالة إنسانية - بزعمهم - تعنى بتجميل تاريخ الاستعمار

الغربي إلى درجة الجهر في كل واد وصعيد - دون حياء - بالدعوة إلى الاحتفال

بالمئوية الثانية للحملة الفرنسية على مصر، إيماناً منها وإيهاماً بأن للحملة الفرنسية

فضلاً سابغاً ليس على مصر وحسب، وإنما على الشرق الإسلامي كله..! كل هذا

يحدث على حساب ذكرى مرور أربعة عشر قرناً على الفتح الإسلامي لمصر، تلك

الذكرى التي تلقى من جانب طيور العقوق كل جحود..! وهكذا تغرر التيارات

العلمانية بالأمة المسلمة لترديها في حفر التبعية وأغوار المهانة والضياع والتلاشي

والانمحاء..!

ولعل ميلاد تلك الحالة النفسية الإسلامية المناوئة للغرب ليست مسؤولية

المسلمين بقدر ما هي إفرازات التعصب الغربي لثقافته وقيمه وأيديولوجياته

السياسية المدججة بأقلام وحركات ومنظمات تدندن حول أفكار استفزازية وانفعالية

من أخطر ما فيها أنها مؤسسية، ليس بوسع أحد أن ينكرها، أو أن يجهل مدى

نفوذها، وعظم تأثيرها في مجتمعها الغربي، وكل مجتمع ينتمي للحضارة الغربية

الممتدة أفقياً ورأسياً، حتى لم يعد للجغرافيا الغربية أي حيلة إزاء زخمها التاريخي -

الحضاري الطاغي..!

ومما يُستغرَب له: أن تلك الحالة النفسية الإسلامية التي يتحدث عنها برنارد

لويس، وهذا الشعور بالهضم والاحتواء الذي يعم المجتمع الإسلامي ويسوده، لم

يصل حتى الآن إلى الدوائر العليا الحكمية في كثير من بلداننا المسلمة؛ إذ لم تزل

معظم هذه الدوائر تنظر إلى الغرب باعتباره مركزاً للقيم كما هو مركز للتقنيات

الواجب تبنيهما معاً، ولا جدوى لإحداهما دون الأخرى..!

وفيما ضمن نظريته اتصالاً بالعلمانية: يزعم هانتنجتون أن «اقتلاع

العلمانية من العالم هي إحدى حقائق الحياة الاجتماعية المهيمنة في أواخر

القرن العشرين» اهـ.

ومن جملة اعتباراتنا نقرر أن ظاهرة اقتلاع العلمانية من العالم تنم في حقيقتها

عن عمق في التصورات الدينية، وتعاظم في الشعور بحتمية صياغة الذات

الحضارية لدى الأمم والشعوب على نحو صحيح يرتقي بنظرة الآخر الحضاري

إليها وفق ما يتناسب وقدرها الذي تحسه وتشعر به، وأبلغ ما توصف به هذه

الظاهرة: أنها حركة «تفلية» حضارية..!

ومن غير الموضوعية أن نبدي إزاء ولاء هانتنجتون المطلق لليهودية أي شك

هذا ولن يغرنا بتدثره بلباس مسيحي باهت تبدو بغير قصد منه في بعض الأحيان

أنياب تلمودية زرقاء..! ومن ثم فهو حين يرصد أفكاراً من قبيل ظاهرة اقتلاع

العلمانية من العالم: إنما يكرس العلمانية ذاتها بدهاء شديد..! فهو يرمي إلى أن

الفائدة من بث وترويج الأفكار والفلسفات التي تدفع بالعالم بعيداً عن الدين والتدين:

تتجلى في استئمان جانب الكيان الصهيوني الغاصب من خطر أي مواجهة حضارية

مع الأغيار - لا سيما العرب والمسلمين - في ظل فريضة اقتلاع العلمانية من

العالم..! ومن ثم فهو يستحث من جهة أخرى بل يعنى بتحفيز آلة الفكر السياسي

الغربي للتصدي ومواجهة تلك التيارات التي سماها بالأصولية الرجعية..! وذلك

بحسبانها لديه الخطر الحقيقي الذي يتهدد فلسفة النظام العالمي الجديد التي يسعى

روادها إلى تكريس آليات العلمنة داخل الأنساق الإنسانية، لا سيما عند نقاط

التماس الحضاري الساخنة، ولدى البؤرة الأشد سخونة هناك في فلسطين المحتلة

بصفة خاصة..!

والحقيقة أنه من يوم أن تجردت القضية الفلسطينية من بُعدها الديني

الحضاري، والأوضاع لا تزداد إلا خبالاً وتعقيداً، ومضياً نحو أفق مسدود، ولئن

عولجت تلك القضية في سياق مفاهيم التدافع لكان أوْلى وأجدر ألا تدخل في

تضاعيف الانتكاس والإخفاق الذريع!

ولعل ما يعفينا من الاستطراد بهذا الخصوص ما صرح به الزعيم الكوبي

فيديل كاسترو Kastro حين قال: «على إسرائيل أن تسعى لتجعل كل دولة

عربية غير إسلامية، كأن تكون وطنية أو اشتراكية؛ فإن منتهى المطاف لأي

حركة مقاومة عربية ذات طابع علماني هو التعايش السلمي مع الدولة الإسرائي [١] .

لماذا؟ لأنه في ظل العلمانية تتجاوز المؤسسات السياسية كثيراً من الثوابت

الحضارية، وقد تتجاهلها إلى حد الرفض الصريح في بعض البلدان؛ وذلك تلافياً

لأي أفكار من قبيل القيم الدينية التي تظنها تصادمية: [إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ

شَيْئاً] (يونس: ٣٦) .

العلمانية وأوهام الحل:

إن خرق سنن التعددية ونواميس التنوع والاختلاف والتمايز بين الأمم

والشعوب الإنسانية، إنما ينم عن اتجاه ما إلى تحييدها قسراً وإخصائها، وتغييبها

عن وعيها، فتفقد عناصر تكافئها ومقومات تنافسها، مما يعد تكريساً لمنطق

الأحادية والاحتكار الحضاري بكافة صوره وأنماطه السياسية والاقتصادية

والعسكرية والاجتماعية، وهو ما يتأكد في خِضَمِّه حدوث حالة من الحساسية وفقدان

معايير الصواب في سياق التدافع الإنساني، وهو ما يستدرج خطى البشرية إلى شفا

الحروب والمشاحنات الإنسانية غير المحكومة باعتبارات مقبولة..! وهذه واحدة

من أخطر مثالب العلمانية.

ولعل أي مشروع بإزاء عزل الدين عن حركة الحياة بمختلف وجوهها - ولو

بصورة نسبية - إنما يمثل في حقيقته انتحاءً بهذه الحياة عن سياقها الفطري،

وخروجاً على مألوفها. والعلمانية بطبيعة الحال تعد انحرافاً في التصور الإنساني

لطبيعة الوجود؛ ذلك فضلاً عن كونها مظنة قوية لتصادم الحضارات باعتبار ما

سيقدر للقيم المادية والتوسع والانتشار في الأرض، وهو ما يعد ذريعة لسنَّة كونية

جديدة من التدافع الإنساني، ويبزغ من ثم فجر جيل رباني جديد يقود دورة جديدة

من التاريخ الإنساني بشيء من الوعي والتحضر والتفاعل الإيجابي المثمر بين

حضارات هذا العالم، وتفلت من ثم البشرية من كلاليب التصادم الأعمى، وسفك

الدماء بغير حق.

ومن ثم فإن الفرضية القائلة بوجود» علاقة وثيقة بين تصادم الحضارات

وعدم علمانية العالم «إنما تطوي دلالات بالغة الخطورة - حسب رؤية هانتنجتون

ولويس - فبمقتضى تلك الرؤية تعمد كل من الأنساق الحضارية إلى تقلد خصال

الحقد والطمع والجور والنهب والاغتصاب والتحرش والاصطدام، وتلك مغالطة

فاحشة وزيف منكور، ثم هي على جانب آخر: مدعاة للخوف والترقب.

ولكن إذا ساغ للبعض أن يتخوف من عواقب تلاشي العلمانية من العالم،

ويلقي ببذور الرعب والترقب في روع الفكر الإنساني، فحري بهم أن يُبدوا تخوفاً

أعظم من سلطان المفاهيم المادية، ومن غلبة الشهوات والنوازع الشريرة على

أدمغة البشر أجمعين التي بلغ الصراع بزخمها ذروة الهمجية والتوحش بين الأمم

والشعوب على اختلافها، والحروب الأهلية الأوروبية التي لم تهدأ نارها منذ بدايات

القرن السابع عشر، وانتهاءً بالحربين العالميتين: الأولى، والثانية ليست بخافية

على أحد.

ولم يكن للتاريخ على امتداد عصوره أي نظرة إيجابية إزاء قضية التعايش

السلمي بمنأى عن بيئة القيم الدينية الربانية، ولقد كانت قيم العلمانية في المقابل

على مدار تاريخها: مثاراً للأحقاد والبغضاء والتحرش والاحتكاك، والتصادم بين

مختلف الحضارات، ولعله في ظل تلاشي العلمانية - على عكس مذهب

هانتنجتون - أن يدرك العالم الراحة والسلام والتفاهم والحوار؛ لأنه كلما اقترب

منحنى الوعي الحضاري من خط القيم الدينية والروحية تحرك مؤشر التفاعل

الإنساني ليسجل نتائج تثير التفاؤل والاستبشار بمستقبل إنساني كريم.

ونحن إذ نعني بمصطلح تلاشي العلمانية من العالم؛ فإنما نريد أن تتجه

المجموعات الحضارية - على اختلافها - إلى تعاطي مناهجها وقيمها ومأثوراتها

الدينية تعاطياً إيجابياً وافياً بغير ابتسار أو اجتزاء، فتكون هذه المناهج وتلك القيم

معياراً وقاسماً مشتركاً للسلوك الإنساني والتفاعل بمختلف أنماطه واتجاهاته، مما

يعني ترسيخاً جاداً لمبادئ التسامح والتراحم.

وتأصيلاً لمرجعية التفاهم والمجادلة بالتي هي أحسن. يقول أرنولد توينبي

Twinpy:» إن مستقبل الإنسانية يتوقف على أخوة روحية لا يمنحها غير الدين،

وهو الشيء الذي يحتاج إليه النوع الإنساني في هذا الوقت. الشيوعية تزعم أنها

تستطيع أن توحد النوع البشري، وقد أخفقت في ذلك، كما أن الإسلام يثبت

صلاحيته بوصفه قوة موحدة للإنسان، والمسيحية أيضاً تستطيع أن تلعب هذا الدور

إذا عملت بمبادئها، ولكن القومية لا تستطيع أبداً أن توحد الإنسانية، بل إنها

توزعها وتشتت شملها، ومن أجل ذلك ليس لها مستقبل؛ وإنها لا تستطيع إلا أن

تدفن الإنسانية في ركامها « [٢] .

وهنا ينبغي التقرير بأن حاجة الإنسانية إلى الدين بعامة، والإسلام بوصفه

رسالة عالمية بخاصة: ليست حاجة ثانوية من قبيل الترف والكماليات.. كلا، بل

ضرورة ملحة؛ فلقد أنبأت الخبرة التاريخية عن الصلاحية المطلقة لذلك الدين

لتأسيس علاقة إنسانية سوية ومتوازنة بكل من الكون والحياة، علاقة ترفد البشرية

بقيم الحق والعدل والحرية والمساواة، تفصل بكل صرامة في تلك علاقة تفتح

أبواب الحوار المتكافئ بين الحضارات، وتسد ذرائع الصراع والمشاحنات

الفوضوية التي تقتل في الإنسانية المؤمنة كل طموح إلى عمارة الأرض بمنهج

السماء.

وغاية ما نخلص إليه: أن العقائد الدينية التي يسعى العلمانيون إلى تحييدها،

ونزع مؤثراتها من واقع الحركة الإنسانية المؤرقة بهواجس تصادم الحضارات هذه

العقائد: إن لم تطلها يد التحريف، ولم تعبث بها الأهواء، أو تحركها النوايا

الفاسدة، كانت بحقٍّ مأمنَ الإنسانية، وملاذَها الوحيد مما يلاحقها من ويلات التناحر

وهواجس الأحقاد، بل إن تلك العقائد والعقائد الإسلامية على وجه الخصوص تعد

من أهم مقومات اندفاع التيارات الحضارية في مسارات سوية ومعقولة: [وَاللَّهُ

يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (يونس: ٢٥) .

وعلى الصعيد العلمي: حقق المسلمون في ظلال عقيدة التوحيد ثورة علمية

هائلة قد أثمرت منتجات حضارية فريدة لم يكن للإنسانية إلْفٌ بها في أزمنتها الغابرة؛

تلك الثورة التي امتدت هداياتها العلمية والتطبيقية إلى العالم أجمع، حتى لقد

أوعزت تلك العقيدة إلى حركة النهضة الغربية الحديثة بالفكاك من إسار الجهل

وأغلال الفكر الظلامي الشائه الذي غرقت في بركه الآسنة قروناً طويلة. يقول

(مونتجمري وات) في تقييم الظاهرة الإسلامية بأوروبا:» حين يصبح الإنسان

على بينة من كامل التجربة العربية والتفكير العربي (يعني التفكير الإسلامي) ؛

فإن المرء يقول: إنه لولا العرب لما كان لعلم أوروبا وفلسفتها أن يتطورا، وحين

أصبحت أوروبا مهتمة بالعلم والفلسفة: كان عليها أن تتعلم كل ما يمكن من العرب

قبل أن تتمكن من تحقيق خطوة إلى الأمام « [٣] .

ولقد أخطأت أوروبا - كما أخطأ مقلدوها - حين خاصمت السماء بالعلمانية،

وأبدت لقيمها تنكراً بيناً بوازع من ضغوطات كنسية موتورة، مورست ضد سنَّة

العلوم الكونية باسم المسيحية، وبدلاً من أن تتجه دفة التقدميين الغربيين إلى الإسلام

إقراراً بالفضل وعرفاناً بالجميل، نابذته الجحود والنكران والإلحاد، بل ظاهرت

عليه بالإثم والعدوان، فحق عليها الحرمان من مدد الله، وأوكلت في مواجهة سعار

ماديتها التي اصطنعتها بأيديها: إلى تدبير فلسفتها التي انتحت بالغرب كله - في

حين من الزمن - شطر الضلالة والتمزق الضياع.

ولقد امتدت يد العلمانية الآثمة إلى كيان الخلافة الإسلامية، فطعنت قلبه،

وصدعت أركانه، ومزقت أوصاله، وأقصت نخب الفكر الإسلامي ورموز الوفاء

عن دائرة الحضور والفاعلية في بلدانهم، وكان في هذا الإجراء الحنون ردم لرافد

حضاري ثري، وتدمير لمنهج مدني مؤسس على الضمير والفكر والروح الإنسانية

المؤمنة، وكان في إبعادهم والقضاء على بعضهم والتغرير ببعض آخر حكم على

طبيعة الحياة الإنسانية في هذه البقعة الممتدة بالموت البطيء، كان في هذا الإجراء

كما في الفلسفة العلمانية سلخ للروح عن الجسد، ونزع للعقل عن الضمير،

وتغييب للقيم الأخلاقية النبيلة عن دنيا الناس أجمعين إلا من رحم الله.

والذي تجدر إثارته في هذا السياق عدة أسئلة: ماذا بوسع الإنسانية تحقيقه من

مكاسب بعيداً عن الدين والتدين؟ وماذا جنت بانتكاسها عن قيم السماء، وإعراضها

عن منهج الفطرة وتنكبها سبيل الأخلاق الفاضلة؟ أو بتعبير آخر: ماذا كسبت

الاتجاهات العلمانية بعد أن خسرت الله؟ ! وهل كانت العلمانية عند حسن الظن بها

في تجنيب العالم مشكلات التصادم وفواجع الحروب؟ !

لقد مضينا والعلمانية في بلداننا الإسلامية قرابة قرن من الزمان، فهل حققت

العلمانية وعودها إلى الجماهير من نهضة منشودة، وصحوة ممدودة، ومدنية

موعودة، وعيشة مرغودة؟ ! وهل تحرك مؤشر هذه المدنية التي زعم العلمانيون

تحولها بفارغ وسعهم وغاية جهدهم: نحو الصعود بدرجة أو بأخرى؟

أم أننا لا زلنا منزوين في خانة التبعية والانحسار دون أن نلوي على شيء

مما كنا نتطلع إليه بعيداً عن الله؟ ! ! إن القيم الربانية بأبياتها الخلاَّقة المبدعة

وآلياتها الفاعلة هي وحدها مدعاة بلوغ الإنسانية أمر رشدها الذي لا ضلال معه ولا

سبيل إلى تصادمها وتناحرها به! فالعلمانية إذن» ليس لها مكان في وجود الإنسان

مع الإسلام: فإما أن يوجد الإسلام ولا علمانية، أو توجد العلمانية ولا إسلام « [٤] ؛

فالتركيبة الحضارية الإسلامية ذات خواص متميزة ومضادة للعلمانية، ومفطورة

على مجافاة الابتذال الحضاري على هذا النمط الغربي الكريه، ولأن هذه التركيبة

اختلطت بعناصر غريبة فقد غيرت من طبيعتها نوعاً ما؛ فإن ظواهر الصحوة

الإسلامية على مر السنين كانت بمثابة عنصر التوازن المنشود الذي يعيد إلى هذه

التركيبة حيويتها المدهشة الفعالة.

والإسلام في هذا السياق كله: لا يعتد بأنصاف الحلول ولا بأرباعها؛ فإما

علمانية وإما إسلام؛ فلا تملق ولا تلفيق، ولا عوج أو انحراف. يقول - تعالى -:

[فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُوا

إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ]

(هود: ١١٢-١١٣) .

إنني لأرى العالم بأسره شارعاً سفائنه - طوعاً أو كرهاً - باتجاه رياح

العولمة والطريق الثالث وغيرهما، وكلها صوارف وذواهل عن طريق الله المستقيم،

وكأنني بالله ينادي هذه القطعان الشاردة: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ

تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام: ١٥٣) .

يناديها فلا تلقي له سمعاً أو تعيره أي انتباه، ثم ما يلبث نداء الله يتكرر باتجاه

تلك الجموع السادرة لا سيما أولئك الذين بينهم وبينه عهد وميثاق، ولكنَّ وَهَنَ

التبعية لغيره جل وعلا أعياهم، وصرفهم بريق الحول عنه سبحانه فهل سيصغي

المعنيون بنداء الله، فيفيئوا إلى مرافئ الهداية وشطآن النجاة؟ ! أم أنهم سيظلون

سادرين حتى تمخر بهم سفائنهم في لجج التخبط والحبوط، فيمضوا إلى المجهول

غير مأسوف عليهم، فإذا بنداء رباني عاتب وأخير: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ

أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ]

(يس: ٦٠-٦١) .


(١) نقلاً عن مجلة نور الإسلام، مصر، العدد الثالث، لسنة ٦٥، ربيع الأول ١٤١٧هـ، ص ١٤.
(٢) نقلاً عن: رجعية التقدميين، أبو الحسن الندوي، مقال صحيفة الرائد الهندية، العدد: ٨ ١٤١٧هـ، ص ٤.
(٣) Montgompry watt, The influence of islam on medieval Evrope, Edimb urgh, ١٩٧٢ p ٥٨.
(٤) العلمانية والإسلام، محمد البهي، كتاب مجلة الأزهر، مصر، ١٤١٥هـ، ص ١٥.