للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

إطلالة من نافذة العَظمة

سلطان عبد الله الشهري

يقف الداعية أحياناً في منتصف الطريق الذي يسير عليه، يوقفه طوله،

وتضنيه مشقته، فيلتفت يميناً فيأسر نظره كثرة الناقدين الحاقدين من بني قومه

الذين أجلبوا بخيلهم ورجلهم ليرسموا الخطط وينصبوا الشراك، ويندهش حين

يلتفت شمالاً ليرى أَكفّ الأعداء تتحد لتوقع به. سهرٌ بالليل لإعداد العدة والعتاد،

وعملٌ بالنهار لرصد الحراك، ثم يدير وجهه للخلف رجاء أن يجد من يزكي فيه

روح الأمل الذي يشكو وطأة الألم، ولكن للأسف فهو لا يرى إلا نفراً قليلاً يسيرون

معه، ويرون ما يرى.

فتنثني قدماه تدريجياً، ليهبط مكانه، وكأنه آلة نفد وقودها! !

ثم تلهمه الفطرة لأن يتجه ببصره إلى السماء لعلّ صفاءها يزيح كآبة أرست

بثقلها على فؤاده، ويشاء الله أن تتلبد السماء بالضباب الذي وضع آخر حلقة في

سلسلة الحزن التي تخنق ذلك القلب الشجي.

ثم يطلق تلك الزفرات الحارة، لتنساب إثرها دمعات ثقيلة تكتب على وجهه

قصيدة اليأس، يلقيها الشيطان بلسان الشفقة والعطف، وما أن ينتهي حتى يوسوس

في ذهنه بهذه الكلمات:

«أيها المسكين أنت تبذل وتزرع ... ولكن أين الثمرة؟ ! !

تعمل وتتعب ... فهل ترى من مجيب! ! ؟

تمدُّ يدك فترى الإعراض ... تنادي ولا مستمع؟ ! !

أنت في الطريق وحيد ... فلِمَ الشقاءُ والحرمان؟» .

ليوقع إبليس بهذه الشبهات الفصل الأخير من سيناريو تلك المسرحية! !

معاشرَ الدعاة..

إنّ من الأبجديات التي يجب أن نعلمها ونفهمها جيداً من أول خطوة نضعها في

هذا الطريق أنْ نعلم ماهية هذا الطريق وحقيقته وما واجبنا؟ ! ! ومن يمد العون

لنا؟ !

أما حقيقة الطريق فلأنه طريق الجنة؛ فهو محفوف بالمكاره، لا يستمر في

المسيرة عليه إلا الجادون، قال فيه ابن القيم رحمه الله: «أين أنت والطريق تعب

فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل،

وبيع يوسف بثمنٍ بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا،

وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاءُ داود،

وسار مع الوحوش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه

وسلم» [١] .

هذا هو طريق الأنبياء ومن حمل الرسالة وسار على نهجهم من الدعاة

والصالحين من بعدهم، ومع وعورته، وقلة الثابتين عليه: هل هذا يعني أن يخالج

صدورنا رعشة خوف، أو هزة رعب؟ كلاَّ وألف كلاَّ؛ لأن أعمالنا وتحركاتنا إنما

هي نتائج أخيرة لدوافع الحب والشوق الذي يسير في عروقنا لهذه الدعوة، وهذه

الوظيفة الربانية.

نسير على الدرب وليس في عقولنا إلا الجنة وكيف السبيل إليها! ! وما هو

مهرها؟ ! !

نعمل دون خوف ولو هددونا بإراقة الدماء..! سبحان الله بالموت يخوفوننا! !

وهل الموت عندنا إلا أمنية؟ ! وطرفة زماننا! ! يهددوننا بالفقر والجوع! !

سبحان الله أهم يملكون خزائن رحمة الله! ؟ يتوعدوننا بالإهانة والتعذيب.. هل

نهدأ لحظة واحدة؟ ! ! قولوا غيرها.

فهناك من يهتف من جانب الأفق بصوت عالٍ: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ

الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: ١٣٩) أعلون منزلة، أعلون قيماً،

أعلون منهجاً، أعلون لأن ارتباطنا سماوي علوي بربنا، هذه الآية تجعلنا ننطلق

ونصرح بالحق دون أن نبالي ولو وقفت أمم الأرض بآلياتها ودباباتها، لتعيق

طريقنا نحو الأمام؛ فالصدارة والرفعة مكان شاغر حتى نأتيه؛ لأنه باختصار:

مكاننا الذي يجب أن نكون فيه! ! وأنّى لمن هم أرضيو المبادئ، سفليو الهمم أن

يزعزعوا عزمتنا، وعندنا عقيدة منقوشة في صميم قلوبنا أن العاقبة للمتقين، فمِمَّ

الخوف! ! ولمن الوهن! !

إذن مساكين أهل الدنيا ما علموا أن الجماجم التي قدمناها في بدر، واليمامة،

وعين جالوت، وحطين وما زلنا نقدمها في أفغانستان والشيشان والبوسنة إنما

هي براهين أشواقنا لموعود ما في السماء، وبهذه الدماء نسبك تاريخنا الذهبي

المجيد.

يقول سيد قطب رحمه الله: «نحن في الدنيا نتحرك، تحركنا أشواق

وهواتف، ومطامح ومطامع، وآلام وآمال وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية

المضمرة، والستار الذي تراه العيون، لليد التي لا تراها الأنظار، ولا تدركها

الأبصار، يد المدبر المهيمن القهار» [٢] .

أما عن واجبنا ووظيفتنا الحقيقية فهي أن ننقل البشرية من براثن الجاهلية في

أشكالها المتعددة، ومجالاتها المختلفة السياسية والثقافية والاجتماعية إلى رياض

الإسلام والاستشراف الروحي عبادة الله وحده. إن البشرية تنحدر نحو هوة سحيقة

حفرتها أسنة الحضارة الغربية الزائفة، ولا نجاة للعالم إلا بالإسلام، وليس غير

الإسلام ينقذ الكون والأمم من الخطر المحدق بها؛ فمن يمد يد النجاة.. غير

الدعاة؟ !

وكيف ستكون المصيبة عظيمة إذا تخلى الدعاة عن هذه المهمة؟ !

«نحن الذين نمنح للحياة جمالها ومعناها ومغزاها، ونحن الثقل الذي يمنع

الأرض أن تميد، وما من منصفٍ إلا ويتساءل معنا أن:

كيف الحياة إذا خلت منّا الظواهر والبطاح؟ ! ... أين الأعزة والأسنة عند ذلك والسماح؟ !

ستعوج الحياة، وتغيب المروءة بغيابنا، والمقارنة توضح ذلك جلياً.

ففي غياب دعوة الإسلام اليوم عن الصدارة ساد غير الأعزة فيها، فترى

تبعية للدول الكبرى، وخوفاً من يهود، وترقيعاً فكرياً، وانهزامية نفسية، وبغيابنا

غابت الأسنة، وما عادت رءوس الحراب تلمع بين الروابي ولا النبال، وافتقد

السماح، وحصر للناس التعذيب والحديد والحبال» [٣] .

نحن لا نملك عصا موسى عليه السلام وليس بأيدينا خاتم سليمان لكي نحقق

الهداية للبشرية لكن الذي نملكه هو العمل لهذا الدين والاجتهاد كل قدر استطاعته

وحسب موضعه الذي يشغله، فإذا ما عملنا واجتهدنا فلسنا مسؤولين عن الثمرة،

وليست بأيدينا النتائج النهائية، إنما تدير تحركاتنا إرادة الله، والله بحكمته يقدر ما

يشاء، هذا هو الميزان الذي به نحاسب أنفسنا لا يضيرنا أنَّا على الدرب قليل،

ولن نشتط غضباً إذا نادينا الناس: الطريق من هاهنا، فسلكوا فجّاً غيره، سنسير

ونحن ننشد ما قاله الشاعر:

عجبت لهم قالوا: تماديت في المنى ... وفي المثل العليا والمرتقى الصعبِ

فاصبر ولا تجهد يراعك إنما ... ستبذر حبّاً في ثرى ليس بالخصبِ

فقلت لهم: مهلاً فما اليأس شيمتي ... سأبذر حبي والنبات من الربِّ

إذا أنا بلَّغت الرسالة جاهداً ... ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي؟

هذه معذرتنا أمام الله عز وجل نقدمها بين يديه.

حياتنا ومماتنا لله رب العالمين، الدعوة إلى الله دمٌ يجري في عروقنا، فلله

درُّ لمؤمن حين يستعلي بإيمانه في تواضع، ويخالط الناس في تميز.

أمّا الركن الذي إليه نأوي فهو ركن شديد، تكلؤنا عناية الله عز وجل يراقبنا،

ينظر إلينا، يدافع عنا [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا] (الحج: ٣٨) سنظل

نبتسم للكروب، نقبِّل جبين الحتوف؛ فمن رَحِمِ الظلام سيولد الفجر بإذن الله.


(١) الفوائد، ص ٤٩.
(٢) في ظلال القرآن، سيد قطب، ٤/٢٣٣٠.
(٣) نحو المعالي، محمد أحمد الراشد، ص ٥٠.