للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

[مسائل مهمة في باب القضاء والقدر]

فؤاد بن عبده أبو الغيث

تعريف القضاء والقدر والعلاقة بينهما:

القدر: ما اقتضاه علم الله وحكمته في تسوية أمر الكائنات [١] .

والقضاء: وقوع الخلق على وزن الأمر المقدر السابق، وقيل العكس [٢] .

معنى الإيمان بالقضاء والقدر:

معنى الإيمان بالقضاء والقدر يتضمن الإيمان بأربعة أركان [٣] تسمى مراتب

القدر وهي:

١ - الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملةً وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، سواء كان

ذلك مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده. فالله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو

كان كيف يكون!

٢ - الإيمان بأن الله تعالى كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم

القيامة في اللوح المحفوظ.

٣ - الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة؛ فما شاء كان، وما لم يشأ

لم يكن لعدم المشيئة لا لعدم القدرة.

٤ - الإيمان بأن الله خالق كل شيء لا خالق غيره، ولا رب سواه خلق

الخلق وأعمالهم. فأفعال العباد من الطاعات والمعاصي كلها داخلة في خلق الله

وقضائه وقدره، وهي من العباد فعلاً وكسباً، والله هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون

لها.

مسائل مهمة في هذا الباب:

المسألة الأولى: لا يجوز قياس أفعال الله تعالى على أفعال خلقه [٤] ؛ فلا

يصح أن يوجب أحد على الله شيئاً ولا أن يُحَرِّم؛ فالله سبحانه وتعالى له الملك التام؛

أما المخلوق فملكه ناقص؛ فإذا اقتضت حكمة الله فعلاً في خلقه يتضمن شراً من

وجه وهو سبحانه لا يخلق شراً محضاً لم يكن سبحانه مسؤولاً عن ذلك بخلاف

المخلوق؛ فالله سبحانه وتعالى لا يُسأل عما يفعل؛ ليس لأنه الخالق المالك

المتصرف وحده فحسب، بل لكمال علمه وحكمته أيضاً، ولكن لا يلزم أن نعلم

الحكمة في كل فعل؛ إذ قد تخفى الحكمة في بعض الأفعال فيجب التسليم بها مطلقاً.

وإذا تقرر أنه لا أحد يوجب على الله شيئاً ولا يحرم فقد أوجب سبحانه على

نفسه بعض الأمور وحرَّم بعضاً باختياره لا أن هذه الأمور واجبة الصدور عنه

لذاتها وإنما هي صادرة عن إرادته وعلمه [٥] .

المسألة الثانية: دعوى الجبر باطلة؛ فلا أحد يشعر أنه مجبر على ما يفعل

بالقوة، ولا أحد إلا وهو يميز أن حركاته وسكناته على نوعين:

١ - إرادية اختيارية كالقيام إلى الصلاة والامتناع عن الزنا.

٢ - لا إرادية اضطرارية إجبارية كالارتعاش من البرد وغلبة النعاس.

فمن زعم أنه مجبر على عدم القيام إلى الصلاة وعلى فعل الزنا فقد سوَّى بين

النوعين؛ وكفى به بهتاناً وإثماً مبيناً [٦] .

المسألة الثالثة: «القدرة» نوعان، و «ما لا يطاق» له إطلاقان، ومن

الخلط بين هذه الأنواع، والإجمال في الإطلاق وقعت الإشكالات:

فنوعا القدرة:

١ - القدرة المصححة للتكليف، وهي: سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من

الفعل، وصحة أعضائه ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل وتهيئة طريق فعله

وفتح الطريق له، وتكون قبل الفعل مثل شرط الاستطاعة في الحج.

٢ - القدرة الموجبة للفعل المستلزمة له التي لا يتخلف الفعل عنها، ولا

تكون إلا مع الفعل.

والأولى عدل تقوم بها حجة الله على عبده، والثانية فضل يؤتيه الله من يشاء.

وأما «ما لا يطاق» فله إطلاقان:

١ - ما لا يطاق لاستحالته؛ كالجمع بين النقيضين. أو للعجز عن فعله؛

كتكليف الأعمى بنقط الكتاب.

٢ - ما لا يطاق لتركه والاشتغال بضده؛ كالكافر كلفه الله عز وجل الإيمان

حال كفره؛ لأنه غير عاجز عنه ولا مستحيل منه؛ فهو كالذي لا يقدر على العلم

لاشتغاله بالمعيشة.

فالأول لا يجوز تكليف العبد به. أما النوع الثاني فلا مانع من تكليفه [٧] .

المسألة الرابعة: إذا كان الأمر مفروغاً منه وما من أحد إلا كُتب مقعده من

النار أو من الجنة؛ ففيمَ العمل، ألا نتكل على القدر ونحتج به؟ !

استشكل بعض الصحابة رضي الله عنهم هذا فأوردوه على الرسول صلى الله

عليه وسلم، فقال: «لا أي لا تتكلوا على القدر اعملوا؛ فكل ميسر» [٨] ؛

فالعاقل لا ينشغل بالبحث عن سر لا يمكن أن يكتشفه ويدع ما هو مأمور به وفي

مقدوره أن يعمله.

إن الله عز وجل قد أراد بنا وأراد منا، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا

أمر بالقيام به [٩] ، وهو الذي كتب المقادير وأوجب العمل بالشرائع؛ فتوهُّم المنافاة

بين القدر والشرع يعني نسبته إلى خلاف العلم والحكمة، تعالى الله عن ذلك. فقد

قدَّر الأمور على نحو لا تبقى معه حجة لمحتج أو اعتراض لمعترض؛ فالقدر سر

مكتوم لا يعلمه العبد؛ فكيف يحكم بمنافاته للشرع؟ ! وعلم الله بالضال والمهتدي لا

ينافي الأمر والنهي؛ لأن العلم ليس صفة مؤثرة، ولأن ما علم الله عدم وقوعه

جعله مقدوراً للعبد بالقدرة المصححة للتكليف، وإذا قيل للعبد: أمرناك بأمر ونحن

نعلم أنك لا تفعله لم يكن في ذلك تنافياً أو تكليفاً بما لا يطاق [١٠] .


(١) انظر: لسان العرب، مادة: ق د ر.
(٢) الإيمان بالقضاء والقدر، لمحمد بن إبراهيم الحمد، ص ٢٧ ٢٩.
(٣) هذه الأركان مشروحة في معظم مراجع باب الإيمان بالقضاء والقدر.
(٤) انظر: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام (٣/١٥١) .
(٥) انظر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، لمحمد ربيع المدخلي، ص ١١١.
(٦) انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن القيم، (١/ ٣٢٨، ٢٦٩) ، ط الشلبي.
(٧) فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، (٨/٢٩٤) .
(٨) رواه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
(٩) الإيمان بالقضاء والقدر، ص ١٤٣.
(١٠) انظر: الحكمة والتعليل، ص ١٢٧، ١٢٩.