للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

[مسؤولية الكلمة.. دعوة لتصحيح ألفاظنا كما نصحح نياتنا]

د. السيد العربي

العقيدة أو التوحيد أو الإيمان وهي مسميات لقضية واحدة تتضمن الاعتقاد

القلبي والكلام اللساني وعمل الجوارح، وهذا يعني أن الكلام أو الكلمة من مهمات

الاعتقاد؛ وقد دل الدليل الشرعي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه

وسلم بما يفوق الحصر على أن الكلام من أعمال المسلم التي يحاسب بمقتضاها،

وأنه يترتب عليه من الثواب أو العقاب ما الله به عليم. قال تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن

قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] (ق: ١٨) ، وقال: [سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ]

(الزخرف: ١٩) ، وقال: [سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا] (آل عمران: ١٨١) وقال:

[وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] (الانفطار: ١٠-

١٢) ، وقال: [كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَداًّ] (مريم: ٧٩) ،

وقال: [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (الجاثية: ٢٩) .

إن هذه النصوص القرآنية الجامعة وغيرها تبين خطورة الكلمة والكلام في

دين الله عز وجل، وأنها معدودة على قائليها، مسجلة عليهم، وأنهم محاسبون على

ما يتكلمون؛ لأن الكلام من جملة الدين الذي يُسأل الإنسان عنه.

وكذلك جاء في السنة المطهرة الكثير من الأحاديث التي تثبت خطر الكلام وأثره في

دين العبد ثواباً أو عقاباً؛ فمن ذلك ما أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد من

حديث معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال

صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على

وجوههم أو على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم» [١] .

وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة

رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليتكلم

بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار» [٢] .

وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان عن بلال ابن الحارث المزني أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما

كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل

ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه

إلى يوم يلقاه» [٣] .

من هذه النصوص وغيرها يتبين أن الكلمة في دين الله عظيمة الشأن، من

حيث الربح أو الخسارة؛ ولله در صاحب الداء والدواء ابن القيم عندما قال في ذلك

الكتاب: «وأما اللفظات فحفظها بألا يخرج لفظة ضائعة، بألا يتكلم إلا فيما يرجو

فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل ربح فائدةً أم لا؟

فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تُفَوَّت بها كلمة هي

أربح منها فلا يضيعها بهذه؟» إلى أن قال: «ومن العجب أن الإنسان يهون عليه

التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن

النظر إلى المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحرز من حركة لسانه، حتى ترى

الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي

لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من

رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري أعراض الأحياء والأموات ولا

يُبالي ما يقول؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه من

حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رجل:

والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله عز وجل:» من ذا الذي يتألى [٤] عليَّ أني لا

أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك «. فهذا العابد الذي عَبَدَ الله ما شاء أن

يعبده، أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله، ثم قال أبو هريرة صاحب الرواية

الأخرى من الحديث:» تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته « [*] [٥] .

كل منا على خطر دائم مما يجنيه لسانه، ولو كان مجرد كلام فيما لا يعنيه،

وما أكثر ما نتكلم به فيما لا يعنينا، وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس

رضي الله عنه قال:» توفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشرْ بالجنة! فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل

بما لا ينقصه» ، وفي لفظ: «إن غلاماً استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة

مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة،

فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه،

ويمنع ما لا يضره «.

لهذا كان الصمت أحياناً أضمن طريق للنجاة من ورطات اللسان؛ حيث يمتنع

الإنسان عن التكلم إلا فيما يعلم حقاً أنه خير، وهذه وصية رسول الله صلى الله

عليه وسلم التي أخرجها الشيخان في صحيحيهما؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام:

» من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت « [٦] .

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف علينا من ألستنا، ويأمرنا

بالاستقامة التي يدخل فيها استقامة اللسان، فقد طلب سفيان بن عبد الله الثقفي من

رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً عزيزاً: قال له: يا رسول الله! قل لي في

الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم» [٧] ،

وفي رواية للترمذي: «قل: ربي الله، ثم استقم» . فقال: يا رسول الله! ما

أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: «هذا» [٨] .

فاحذر أخي رحمني الله وإياك أن تخرج من فمك الألفاظ الضائعة التي لا تعي

معناها؛ فقد تكون من كلام الشر والسوء التي تضرك في دنياك وآخرتك؛ فالله

تعالى يقول: [وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ

عَظِيمٌ] (النور: ١٥) .

لقد فقه السلف مسؤولية الكلمة، وعرفوا أمانتها، ووعوا خطورتها؛ فهذا

صدِّيق هذه الأمة: أبو بكر رضي الله عنه كان يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه

عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: «هذا الذي أوردني الموارد» .

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «والله الذي لا إله إلا هو!

ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان» ، وقال طاووس: «لساني سَبُع؛ إن

أرسلته أكلني» [٩] .

لقد فهم سلفنا الصالح مراد الله تعالى من قوله: [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ

إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ

اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء: ١١٤) . وعلموا أن النجاة في كف

اللسان إلا من ذلك الذي أشار إليه القرآن في التناجي بين الناس؛ ولهذا سأل عقبة

بن عامر الجهني رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «ما النجاة؟ قال: أمسك

عليك لسانك، ولْيسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك» [١٠] .

قال النووي رحمه الله: «اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن

جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في

المصلحة؛ فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه؛

وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء» [١١] .

وقد يقول قائل عند التنبيه بما تقدم: إنني عند تكلمي بالكلمة السيئة الخبيثة

المحرمة؛ فإن نيتي تكون حسنة، ولا أعتقد ما وراء هذه الكلمة من اعتقاد سيئ

خبيث، ولا أعتقد حِلَّها بل أعتقد حرمتها؛ لأن نيتي وقصدي حسن؛ فهل أعاقب

بما أقول والحال كذلك؟ والجواب أنه ينبغي أن يصحح العبد لفظه كما يصحح نيته؛

فمتى علم أن الكلمة في دين الله حرام، وجب عليه تصحيحها، أو التخلي عنها،

وإن لم يعتقد حل القول بها أو جوازها، وهذا ما أجاب بنحوه الشيخ محمد بن صالح

العثيمين رحمه الله عندما سئل: «بعض الناس يقول: إن تصحيح الألفاظ غير مهم

مع سلامة القلب؛ فهل هذا صحيح؟ فأجاب رحمه الله: إن أراد بتصحيح الألفاظ

إجراؤها على اللغة العربية؛ فهذا صحيح؛ فإنه لا يهم أن تكون الألفاظ غير جارية

على اللغة العربية ما دام المعنى مفهوماً سليماً، أما إذا أراد بتصحيح الألفاظ ترك

الألفاظ التي تدل على الكفر والشرك، فكلام غير صحيح، بل تصحيحها مهم، ولا

يمكن أن تقول للإنسان: أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النية صحيحة،

بل نقول: الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإسلامية» ا. هـ[١٢] .

ومن أخطر ما يمكن أن يجري على لسان الإنسان أن يقع في الاستهزاء بدين

الله أو شيء من دين الله ظاناً أن ذلك يجوز على سبيل الفكاهة واللعب. يقول ابن

تيمية رحمه الله محذراً من عاقبة ذلك في أثناء بيانه لمعنى قول الله تعالى: [وَلَئِن

سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ] (التوبة: ٦٥) : «فاعترفوا واعتذروا،

ولهذا قيل لهم: [لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ

طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ] (التوبة: ٦٦) ؛ فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم

قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيَّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله

كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه؛ فدل على أنهم كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا

المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كفراً كفروا به، فإنهم

لم يعتقدوا جوازه» [١٣] .

فانظر يرحمني الله وإياك خطورة الكلمة، حيث لا يصح الاعتذار بالنية؛ فإن

ذلك تلبيس إبليس؛ فالكلام الفاسد والعمل الفاسد، لا تشفع له النية الصالحة، والنية

السيئة الخبيثة لا يشفع لها العمل الصحيح والكلام الحسن، وصدق من قال:

احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان

وقال آخر:

يصاب الفتى من عثرة لسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجِل

فعثرة في القول تُذهب رأسه ... وعثرة في الرِّجل تبرأ على مَهَل


(١) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (١١٢٢) ، وفي صحيح الجامع برقم (٢٠٥) .
(٢) صححه الألباني في الصحيحة برقم (٥٤٠) ، وفي صحيح الجامع برقم (١٦١٨) .
(٣) صححه الألباني في الصحيحة برقم (١٨٨) ، وفي صحيح الجامع برقم (١٦١٩) .
(٤) يتألى من الإيلاء، وهو اليمين.
(*) رواه أبو داود، برقم (٤٢٥٥) ، وأحمد، برقم (٧٩٤٢) .
(٥) الداء والدواء لابن قيم الجوزية، ص ١٧، المطبعة السلفية ومكتبتها.
(٦) متفق عليه.
(٧) رواه مسلم.
(٨) أخرجه النسائي والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (٤٣٩٥) .
(٩) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، شرح حديث «قل آمنت بالله ثم استقم» .
(١٠) أخرجه ابن المبارك في الزهد، وأحمد والترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة برقم.
(٨٩٠) .
(١١) رياض الصالحين، للإمام النووي، باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان.
(١٢) نقلاً عن كتاب (المناهي اللفظية) ، للعلامة الشيخ بكر أبو زيد، مكتبة السنة بالقاهرة.
(١٣) مجموع فتاوى ابن تيمية، (٧/٢٧٣) .