للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[العولمة مقاومة واستثمار]

د. إبراهيم بن ناصر الناصر

هذه المقالة محاولة اجتهادية لطرح رؤية موضوعية لقضية العولمة، وهي

الجمع بين فكرة المقاومة والاستثمار؛ وذلك أن معظم الخطاب الإسلامي في هذه

القضية يتناول جانب المقاومة وبيان المخاطر الضخمة للعولمة؛ وهذا أمر مهم لا بد

منه. ولكن جانب الصورة الأخرى يبدو أنه لا يقل أهمية على الرغم من قلة من

يتطرق إليه؛ حيث نتلمس وجودنا الإسلامي من خلال خريطة العولمة الضخمة

والسريعة الإيقاع فيما نسميه في هذه المقالة بالاستثمار.

وهناك جانب آخر وهو جانب تصوريٌّ يساعد على التوصل إلى الحكم

السابق، وهو فهمنا لطبيعة هذه العولمة من خلال الملامح والواقع والمستقبل،

وأن فيها جانباً ليس إرادة مقصودة للأقوياء، وينبني على هذا الفهم أن بعض سلبياتها

قد يرتد على أصحابها؛ فهل تنجح هذه المقالة في تحويل بعض صور الخطاب

العاطفي حول هذه القضية ليكون أكثر موضوعية؟

مقدمة:

مصطلح العولمة مصطلح جديد ظهر في العالم الغربي في بداية عقد

التسعينيات، وقد سبقه حدثان ضخمان أثرا في حركة العلاقات الدولية واتجاهاتها

وعلى موازين القوى في العالم: الأول: سقوط المعسكر الشرقي الذي اتخذ من

سقوط جدار برلين رمزاً له في عام ١٩٨٩م، والذي أنهى فترة من الحرب الباردة

بين المعسكرين (وارسو / الأطلسي) بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية،

وصاحبها حالات من الاستقطاب والمد والجزر في علاقات هذين المعسكرين؛

بحيث وصلت في الجَزْر إلى التهديد بحرب عالمية ثالثة مباشرة أثناء أزمة

الصواريخ الكوبية، وفي المد وصلت إلى الاتفاق على تقسيم مناطق نفوذ في بعض

بقاع العالم، وبين ذلك حصلت حروب بالوكالة كما حصل في فيتنام وأفغانستان.

وقد أتاحت حالة الحرب الباردة والصراع والتنافس العالمي على مناطق النفوذ وجود

هامش من الحرية لما سمي بـ (دول عدم الانحياز) مكّن كثيراً من الدول من

الاستقلال عن الدولتين الكبيرتين أو إحداهما.

ثم جاء الحدث الآخر الكبير وهو حرب الخليج الثانية في عام ١٩٩١م، وهي

حرب شبه عالمية لكن من طرف واحد ودون تكافؤ في القوى. وانتهت هذه الحرب

بانتصار أمريكي غربي أضيف إلى ذلك النصر التاريخي على المعسكر الشرقي.

وهذان الانتصاران أتاحا لأمريكا نوعاً من السيادة العالمية مستغلة تقدمها التقني

والاقتصادي وقوتها العسكرية في تكريس هذه السيادة. فبدأ في هذا الظرف

التاريخي ظهور مصطلحات جديدة مثل «العالم الجديد» ومثل «العولمة» . وهذا

المصطلح الأخير أخذ حظه من الانتشار باعتبار أنه يمثل حركة الهيمنة والسيادة

الغربية بأسلوبها الحضاري الجديد، وظهرت أعمال وكتابات كثيرة لدى الغربيين

تؤدلج هذه الفكرة مثل فكرة «نهاية التاريخ» ، وكذلك فكرة «صراع

الحضارات» وإن كانت سابقة لفكرة نهاية التاريخ إلا أنها شُهرت أخيراً.

تعاريف:

البعد الاقتصادي يأخذ النصيب الأكبر في أدبيات الكُتَّاب الغربيين عن العولمة

لقوة تأثيره على الدول والمجتمعات وارتباط كثير من المجالات به. وكمثال لذلك

كتاب: «فخ العولمة» ؛ فإنه يركز على البعد الاقتصادي وأثره على المجتمعات

الغربية. كما أن العولمة الاقتصادية هي المجال الوحيد الذي اتفق على تعريف له؛

حيث تبنى مؤتمر الأمم المتحدة للإدارة والتنمية UNCTAD تعريفاً لها يقوم على

فكرة فتح الأسواق والتبادل الحر وتقليل سلطة الدولة على حركة الاقتصاد. لكن هذا

المصطلح اكتسب فيما بعد دلالات استراتيجية وثقافية مهمة من خلال تطورات

عديدة بدأت منذ أوائل التسعينيات. ومن هنا لا نستطيع أن نتوقف عند هذه النظرة

والرؤية الجزئية للعولمة، وإن كانت مهمة. ولذا عبر كثير من المفكرين والكتاب

عن رؤية أشمل للعولمة. وهذه النظرة الشمولية بدأت تظهر أخيراً حتى على

الكتابات الغربية. ومن الطريف أن كاتبين غربيين أصدرا في عام ٢٠٠٠م كتاباً

بعنوان: «إعادة النظر في العولمات» هكذا بصيغة الجمع Rethinking

Globazation (s) .

ونستطيع أن نلخص أهم توصيفات العولمة وملامحها بما يلي:

هي التوجه الأيديولوجي لليبرالية الجديدة التي تركز على قوانين السوق،

والحرية المطلقة في انتقال البضائع والأموال والأشخاص والمعلومات في الاقتصاد،

وعلى فكرة الديمقراطية في البعد السياسي، وعلى مفهوم الحرية والمساواة

المطلقة في البعد الاجتماعي والأخلاقي. فهي نظام عالمي يشمل المجالات السياسية

والفكرية والثقافية والاجتماعية، كما يشمل مجال التسويق والمبادلات والاتصال.

ويرى بعضهم أنها فكرة تعبر بصورة غير مباشرة عن إرادة الهيمنة على

العالم وتغريبه أو أمركته مستغلة مظاهر وآليات التطور الحضاري الذي يشهده

العصر: فالهيمنة العسكرية بواسطة الأحلاف العسكرية ومنها حلف الأطلسي،

والسياسية بواسطة الهيمنة على مجلس الأمن، والاقتصادية من خلال المنظمات

الدولية الاقتصادية مثل منظمة التجارة العالمية، والاجتماعية من خلال مؤتمرات

دولية وإقليمية، والفكرية من خلال القوانين والاتفاقيات والصكوك الدولية في هذا

المجال؛ مدعومة بقوة دفع ضخمة بواسطة إمبراطوريات إعلامية وشبكة معلومات

دولية (إنترنت) يسيطر الغربيون على معظمها؛ حيث اعتبر بعضهم (جارودي)

العولمة هي الاسم الجديد للاستعمار.

وفي المقابل يرى بعض آخر أن العولمة هي اتجاه فطري للإنسان يتسارع

أثره مع تطور آليات الاتصال بين المجتمعات وتركيز الصناعات وتجاوز المجتمع

التقليدي، وأنها مظهر من مظاهر التطور الطبيعي الحضاري المعاصر، وأن

المجتمعات الأكثر حضارة تفيض على المجتمعات الأقل حضارة بشكل تلقائي عبر

قنوات تصل بين المنبع والمصب. فهو نظام رأسمالي أكثر تكاملاً وليس رسملة

للعالم بالمفهوم الغربي أو الأمريكي. وقد يعبر عن ذلك بطريقة أخرى فيقال: إن ما

يحدث هو إفراز من إفرازات الدولة الحضارية في لحظة تضخم قوتها في المجالات

المختلفة على العالم من حولها.

ويتفق عدد من المفكرين بأنها آلية يمكن أن تؤدي بشكل متسارع إلى نشوء

نظام عالمي جديد بواسطة ثلاثية التكنولوجيا ورأس المال والإدارة، وتشمل السياسة

والاقتصاد والثقافة والاجتماع والأعراف، ليؤسس القرية الكونية الجديدة التي تقوم

على ثورة الكمبيوتر والاتصالات والثورة المعلوماتية والأسواق المفتوحة والشركات

متعددة الجنسيات لتوحيد مصير الإنسانية.

هذه أهم الأدبيات في توصيف واقع العولمة ومستقبلها؛ على أن الساحة

الفكرية المنظِّرة لفكر العولمة لا تخلو من اتهام لمثل هذه الأطروحات موجه إلى

بعض نقاد العولمة وإلى بعض مؤيديها بالمبالغة.

السؤال الآن:

هل العولمة مظهر من مظاهر التطور الحضاري الطبيعي الذي يشهده العصر

ولكنه يتم بمقاييس الأقوياء؟ أم أنها عقيدة تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة

على العالم من قِبَل الأقوياء؟ ليكن الحال مزيجاً من الأمرين والنتيجة واحدة وهي:

سيطرة الأقوياء مادياً وحضارياً على الضعفاء مستخدمين قدراتهم وسبقهم في

توظيف آليات العولمة وثمار التقنية لصالحهم؛ حتى تتم عملية «تغريب العالم»

كما وصفها أحد الكتاب الغربيين أو «أمركة العالم» حسب وصف أحد الكتاب

المسلمين، وهو ما دعا الرئيس الأمريكي السابق كلينتون إلى أن يقول: «إن

أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً

مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا» .

مجالات العولمة:

تظهر العولمة في مجالات عديدة من مجالات الحياة التي تشكل شبكة العلاقات

الدولية المعاصرة، وأهم هذه المجالات:

أولاً: المجال الاقتصادي:

وترتكز العولمة فيه على فكرة وحدة السوق، وإزالة العوائق أمام حركة رأس

المال، وحرية الاقتصاد، واتخاذ الدولار معياراً للنقد، وتحويل المجتمعات إلى

مجتمعات منتجة هي مجتمعات الدول الصناعية، ومجتمعات مستهلكة هي مجتمعات

الدول الأخرى؛ حتى أصبح مظهر التأثر الاستهلاكي للعولمة هو لبس الجينز

وشرب الكوكا كولا وأكل الهمبرجر ومشاهدة المحطة الأخبارية CNN، وكلها نتاج

أمريكي، لدرجة أن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتيران وقف يخطب في

الجموع المحتشدة محذراً من تفشي ظاهرة لبس بنطلون الجينز بين الشباب الفرنسي؛

لأنه مظهر من مظاهر الغزو الأمريكي.

وتستخدم العولمة الاقتصادية عدداً من الوسائل والآليات:

١- صندوق النقد الدولي والبنك الدولي: وهما منظمتان أمميتان. فالأول

يقوم على ضبط النقد الدولي واستقراره، والآخر يمارس عمليات الإقراض

ودراسات الجدوى في مجال الإنشاء والتعمير للدول المتضررة من الحروب والدول

الفقيرة ضمن شروط قاسية.

٢ - منظمة التجارة العالمية: من خلال قوانينها في السلع والخدمات وحقوق

الملكية الفكرية، ومن خلال هيئة فض المنازعات والتحكيم؛ حيث تحوَّل مفهوم

التجارة لدى المنظمة من مفهوم تقليدي إلى مفهوم يشمل البيئة والعمل وحقوق

الإنسان والعمال. وهذه المؤسسات الثلاث تشكل ثالوثاً خطيراً يمكن أن يمسك

بخناق الدول الفقيرة حتى يجعلها في تبعية شبه كاملة للغرب وشركاته.

٣ - الإعلام والدعاية الإعلامية: وهي من أوضح الوسائل لترويج المنتجات

الاستهلاكية، وتروج معها بشكل غير مباشر البيئات المطلوبة التي هي إفراز

للثقافة والمصالح الغربية، وتقوم إمبراطوريات إعلامية على خدمة الدعاية

والإعلان، وتنفق الشركات الكبرى مئات الملايين من الدولارات سنوياً على هذه

الخدمة.

٤ - الشركات المتعددة الجنسيات: التي نجح الكثير منها في الهيمنة على

السوق بنوعية منتجاتها وخدماتها، وبضخامة رأس مالها، وباندماجاتها.

ولقد شهد العالم اندماجات ضخمة بين شركات عملاقة Mega Mergers

فمثلاً:

أ - في مجال السيارات: اندمجت مرسيدس مع كرايزلر.

ب - وفي مجال النفط: اندمجت شركة أكسون مع شركة موبيل.

ج - وفي مجال الاتصالات: اندمجت شركة AT& T مع برتش تلكوم.

د - وفي المجال المصرفي: اندمج Citi corp مع Travelers group.

ويكفي أن نعلم أن رأسمال الشركات المندمجة في مجال الحاسبات فقط على

مستوى العالم قد قفز إلى ٢٤٦ مليار دولار عام ١٩٩٩م بينما كان ٢١ مليار دولار

عام ١٩٨٨ م.

وهناك صناعات أخرى لم تذكر: كالتأمين، وصناعات الطائرات المدنية

والحربية. وفي المجالات المذكورة أمثلة أخرى مهمة جداً.

وقد يكون من المناسب التذكير بالتغير الذي طرأ على موقف الحكومات

الغربية من مثل تلك الممارسات؛ فقد كانت تلك الممارسات تعد صيغة احتكارية

يمنع منها القانون. ولكن اللعبة تغيرت، والسوق كبرت، وأصبح التحدي ليس

محلياً، بل ولا غربياً، بل على مستوى العالم كله، مما حدا بالدول الغربية إلى

تجاوز الفهم التقليدي للاحتكار في أسواقها لمساعدة شركاتها للحصول على نصيب

أكبر من السوق العالمية.

ثانياً: المجال الاجتماعي:

وذلك بتنميط العالم على نحو من نمط المجتمعات الغربية (تغريب العالم)

وبالذات أمريكا (الأمركة) ؛ وذلك بنقل قيم المجتمع الغربي والأمريكي بالذات

ليكون المثال والقدوة، سواء ما نقل منها بإرادة مقصودة، أو ما انتقل منها نتيجة

طبيعية لرغبة تقليد الغالب؛ لأن الأمة المغلوبة مولعة بتقليد الغالب؛ كما قال ابن

خلدون. وتسلك العولمة الاجتماعية وسائل لذلك منها:

أ - المؤتمرات الدولية في مجال المرأة والشباب والأطفال والسكان والتنمية

الاجتماعية والمستوطنات البشرية، التي شهدتها حقبة التسعينيات بشكل كبير وما

زالت متواصلة؛ حيث تطرح وثائقها وتوصياتها نموذج الحياة الاجتماعية الغربية.

ومثالاً على ذلك ما طرح في وثيقتي مؤتمر السكان في القاهرة ومؤتمر بكين عن

المرأة.

ب - نقل السلوكيات والعادات الغربية من خلال المواد الإعلامية في القنوات

الفضائية وشبكة الإنترنت. والمثال على ذلك عيد الحب Valentine، وهي عادة

غربية ذات أصول دينية وثنية وأخلاقية غربية، وقد بدأ ينتشر حتى في المجتمعات

المحافظة كدول الخليج.

ثالثاً: المجال الفكري والثقافي:

وذلك بترويج الأيديولوجيات الفكرية الغربية، وفرضها في الواقع من خلال

الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية أيضاً؛ وذلك في مجالات عدة

كحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحقوق الأقليات، وحرية الرأي. وتستخدم في

ذلك آليات ووسائل منها:

أ - إصدار الصكوك والاتفاقيات الدولية المصاغة بوجهة نظر غربية

والضغط من أجل التوقيع عليها، مثل (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مكافحة

التمييز ضد المرأة.. إلخ) . وهذه الاتفاقيات وإن كان فيها بعض الحق إلا أن فيها

الباطل، ويكفي أنها مصاغة بوجهة نظر غربية صرفة.

ب - إصدار القوانين من أجل استخدامها ضد دول العالم الثالث باسم حماية

الأقليات، مثل قانون التحرر من الاضطهاد الديني الصادر عن الكونجرس

الأمريكي.

ج - إصدار التقارير الدورية للضغط الإعلامي والسياسي والاقتصادي على

المجتمعات الأخرى، مثل إصدارات الكونجرس الأمريكي ووزارة الخارجية

الأمريكية الدورية، وإصدارات المنظمات العالمية الكبرى الدورية، بل حتى

الشركات التي تعنى بالتصنيف الائتماني (أي الملاءة المالية) للدول؛ حيث تستغل

لصالح الدول والبنوك والمؤسسات المالية الغربية.

رابعاً: المجال السياسي:

وذلك من خلال استخدام الأمم المتحدة بعد الهيمنة عليها وعلى مؤسساتها

السياسية المؤثرة خاصة مجلس الأمن الذي تعتبر قرارته ملزمة عالمياً، واستخدام

حق النقض (الفيتو) المجحف عند الضرورة أو التلويح باستخدامه لمنع أي قرار

لا يريده الغرب وخاصة أمريكا. ولعل ما يجري الآن من تعسف أمريكي بدعم

بريطاني ومجاملة من بقية الأعضاء الدائمين في استعمال هذه المنظمة العالمية

لتكريس هيمنة أمريكا دليل على ذلك. وما كشفه بطرس غالي الأمين العام السابق

للأمم المتحدة في كتابه: «بيت من زجاج» بعد خلافه مع أمريكا هو غيض من

فيض.

خامساً: المجال العسكري:

وذلك من خلال الأحلاف والمعاهدات العسكرية التي تعقدها الدول الكبرى

وبالذات أمريكا مع الدول الصغيرة، ومن خلال الأحلاف الإقليمية التي تكون هذه

الدول طرفاً فيها، وكذلك من خلال حلف الأطلسي الذي حددت أهدافه تجاه الجنوب

بعد أن كان تجاه الشرق بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي

وانحلال حلف وارسو.

آليات العولمة التقنية:

وهي الوسائل التقنية التي تعتبر ثمرة المعرفة العلمية، ونتاجاً للثورة التقنية

الضخمة التي يشهدها الغرب؛ حيث تضاعفت الاختراعات التقنية بشكل كبير ربما

يصل إلى معدل اختراع أو اكتشاف جديد كل دقيقتين. وأبرز مجال يشهد ثورة

تقنية ضخمة هو مجال الاتصالات. ومن مظاهر ذلك ما يلي:

- سوف يدور قريباً حول الأرض حوالي ٢٠٠٠ قمر صناعي للاتصالات

المدنية سوى أقمار التجسس والأقمار ذات الأغراض العسكرية. ويكفي أن نعرف

أن (بل جيتس) صاحب شركة مايكروسوفت وعد بمفرده بإطلاق ٥٠٠ قمر

صناعي لخدمة الاتصالات ونقل المعلومات.

- تضاعف استخدام هذه التقنية عالمياً حتى جاوز الوقت الذي استهلك في

الاتصالات ٦٠ مليار دقيقة في عام ١٩٩٥م، وتضاعف سوقها حتى قارب الآن من

نصف مليار دولار سنوياً، ويزداد بنسبة ١٠% سنوياً.

- ستقل تكلفة الاتصالات إلى أن تصبح شبه مجانية في غضون السنوات

العشر القادمة. فعن طريق الإنترنت الآن بإمكان أي شخص في منطقة الخليج

الاتصال بأوروبا وأمريكا بتكلفة لا تزيد عن ٤ سنتات للدقيقة.

- صرحت شركة كيوويست Qwest للاتصالات الأمريكية أن نظامها التقني

الحديث يستطيع نقل كم هائل من المعلومات يوازي ما تحويه مكتبة الكونجرس من

واشنطن إلى أي مكان في العالم خلال مدة لا تتجاوز عشرين ثانية.

- التطور التقني القادم سيشمل أجهزة التلفاز خاصة بعد تطوير الشاشة عالية

الوضوح (High definition TV) . وسيكون الدخول إلى الإنترنت عن طريق

التلفاز والتحكم بالبرامج أسهل. وقد بدأت الكثير من القنوات التلفزيونية بث

برامجها عبر شبكة الإنترنت Web TV مثل قناة CNN، وقناة الجزيرة،

وغيرهما.

- ومع تطور كاميرات الفيديو الرقمية سيكون بإمكان الأشخاص العاديين بث

برامج ومعلومات عبر قنوات ومحطات شخصية خاصة بهم كما هو الحال في مواقع

شبكة الإنترنت.

- وفي مجال الإنترنت وهي الشبكة التي حطمت القيود والحواجز وحققت

وحدة معلوماتية نرى أهمية هذه الشبكة وخطورتها من خلال سعتها ومحتوياتها

وحرية استخدامها وسهولته، ومن ذلك:

- مستخدمو الإنترنت حوالي ٥٠٠ مليون مستخدم؛ كما أن مواقع الإنترنت

Web Sites التجارية والحكومية والخاصة قد زادت على ٢٠٠ مليون موقع

(عام ١٩٩٩ م) ، وهي تزداد يومياً بشكل سريع.

- طرحت بدائل جديدة للتجارة تسمى الآن التجارة الإلكترونية

Commerce E-ونشأت الأسواق الإلكترونية، وتحققت وحدة للسوق

العالمي وضُخت مليارات الدولارات في هذا السوق. ولمثل هذا الغرض أنشأت

إمارة دبي مدينة الإنترنت. وقد يكون هذا بعض معنى ما روي عن النبي صلى الله

عليه وسلم في تقارب الأسواق في آخر الزمان.

- زادت صفحات الإنترنت (في نهاية عام ٢٠٠٠م) على ٥ر١ مليار

صفحة، والمستخدمون العرب أقل من ١% من مجموع المستخدمين.

- محركات البحث لا تغطي سوى ١٥% من سعة الشبكة؛ فمحرك ياهو

Yahoo مثلاً لا يغطي إلا حوالي ٥ر٧% تقريباً من الشبكة.

ومع أن هذه الإحصائيات ليست دقيقة؛ وذلك لصعوبة تحقيق ذلك في مثل

نظام الشبكة، لكن المقصود هو تقريب الصورة.

مخاطر العولمة:

للعولمة مخاطر ضخمة ومفاسد جمة من خلال تحوُّل العالم إلى غابة إلكترونية

يستعلي فيها الكبار على الصغار؛ وتظهر هذه المخاطر داخل المجتمع للدولة

الواحدة، وكذلك داخل المجتمع العالمي. ومن أهم المخاطر:

الخطر المجتمعي:

يحذر علماء الإصلاح الاجتماعي من أن أسوأ ما يقع على الأمم هو انقسام

مجتمعها إلى طبقات الأغنياء والفقراء، وأن الآثار السيئة لتكدس الأموال في أيدي

قلة من الناس تسبب تسلطهم وتحكمهم في مصير الكثرة، وتسخرهم لخدمتهم بغير

حق. وكمثال لذلك أمريكا ذات النظام الديمقراطي، وكيف يؤثر المال على امتلاك

وسائل الإعلام ومن ثم التأثير على العملية الانتخابية؛ بحيث لا تعبر في النهاية عن

رأي الأغلبية. ولهذا كان منهج الإسلام هو وجود تشريعات تمنع أن يبقى المال

دُولة بين الأغنياء؛ وقد ظهرت الطبقية والاحتكار من خلال إيجاد آليات وهياكل

ومؤسسات اجتماعية، سواء كانت اقتصادية أو قانونية أو تشريعية، يتم من خلالها

توجيه المال والسلطة والتأثير للأغنياء دون الفقراء، وتكرس انعدام الفرص أمام

الفقراء في مزاحمة الأغنياء. بل ويكون المال والغنى معياراً لكثير من المناصب

والمهام. ومن ذلك التشريعات الخاصة ببعض الأسواق التجارية والبورصات

والتشريعات القانونية (غير المكتوبة) في أمريكا والمنحازة إلى فئة دون أخرى،

ومن ذلك ما يظهر في طبيعة هيكلة الأحزاب السياسية. وقد حذرت مجلة

Foreign Affairs الأمريكية في عدد سابق من نشوب ثورة اجتماعية عالمية بعد

نقدها لفكرة العولمة؛ لأنها تترك وراءها الملايين من العمال الساخطين، وحالات

اللامساواة، والبطالة، والفقر المستوطن، واختلال التوازن الاجتماعي، بالإضافة

إلى تخلي الدولة عن مواطنيها، ونشوء الطبقية الفاحشة داخل مجتمع الدولة الواحدة

كذلك تسبب تكريس الهوة بين الدول النامية والدول المتقدمة وبين أغنياء العالم

وفقرائه.

ومن مظاهر الخطر الاجتماعي:

- ثلاثة أغنى أغنياء أمريكا ثروتهم أكثر من ثروة قارة إفريقيا كلها التي فيها

٦٠٠ مليون نسمة.

- ٣٠% من سكان العالم دخلهم اليومي يقل عن دولارين، و٢٠% من سكان

العالم يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، وكلهم من الدول النامية.

- ٢٠% من سكان العالم يملكون ٨٠% من ثروته، والباقي من السكان

يملكون الباقي من الثروة.

- حركة المال العالمي اليومي تزيد على ١٠ تريليون دولار يملك معظمه عدد

محدود من الشركات والأشخاص في هذا العالم، معظمهم في العالم الغربي.

- التجارة الإلكترونية (السوق الإلكتروني) شبه محتكرة للغربيين خاصة

أمريكا التي تحصل على نصيب الأسد من هذه التجارة، حيث بلغت حصتها من

هذه السوق نسبة قريبة من النصف والباقي لبقية العالم وخاصة الدول الغربية

الأخرى، بينما الدول النامية لا تحصل إلا على واحد بالألف.

- خمس دول غربية فيها ١٧٢ شركة من أصل ٢٠٠ شركة كبرى في العالم،

وهي أمريكا، واليابان، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا.

- في العالم ٣٥٨ شخصاً يملكون ما يملك ٤٥% من سكان العالم أي ٦ر٢

مليار شخصاً.

- هناك توقعات بازدياد البطالة والفقر مستقبلاً؛ فحوالي ٣٠% من طاقات

العمل تكفي عندما تدخل التقنية الإلكترونية في الإدارة وفي سوق العمل.

- الأرباح المتوقعة من اتفاقيات منظمة التجارة العالمية قد تصل إلى ٢٠٠

مليار دولار، معظمها يذهب إلى الشركات الغربية بينما لن يحصل العالم العربي إلا

على ١% منها.

- كل خمس دولارات في العالم يملك الغرب أربعة منها ويترك دولاراً واحداً

فقط لبقية المناطق.

- وفي مجال التكنولوجيا نجد أن ٤٠% من كمبيوترات العالم توجد في أمريكا؛

بينما نجد واحداً من كل ثلاثمائة أفريقي يملك خطاً هاتفياً واحداً، ونجد أن ٨٠ %

من مالكي الهواتف الخلوية هم من العالم الغني بينما توصف بنغلادش بأنها صحراء

هاتفية.

الخطر الثقافي:

محاولة صهر الثقافات الموجودة في ثقافة واحدة هي الثقافة الغربية وبالذات

الأمريكية، وجعلها النموذج العالمي مستغلة التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات،

وما ترسله عبر الفضائيات من سيل جارف من المواد الإعلامية، وتفريغ العالم

من الهوية الوطنية والقومية والدينية.

ومن مظاهر ذلك أيضاً:

- يوجد في العالم ٦٠٠٠ لغة، لكن ٩٠% من برامج الإنترنت تبث باللغة

الإنجليزية مما يسبب تهميشاً للغات الأخرى حتى الحية منها؛ مما دعا الرئيس

الفرنسي شيراك إلى الدعوة إلى إقامة تحالف بين الدول التي تعتمد لغات من أصل

لاتيني للتصدي بشكل أفضل لهيمنة اللغة الإنجليزية لدى افتتاحه منتدى حول

تحديات العولمة في ٢٠/٣/٢٠٠١م. ومن المعلوم أن الوكالة الفرنكفونية والمنظمة

الدولية للفرنكفونية أُنشئتا لهذا السبب. كما أفادت دراسة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة

نشرت في ٨/٢/٢٠٠١م أن نصف اللغات المحلية في العالم في طريقها للزوال،

وحذرت الدراسة من أن ٩٠% من اللغات المحلية سوف تختفي في القرن الحادي

والعشرين.

- استخدام بعض الصكوك الدولية والقوانين عند بعض الدول للضغط من أجل

تغيير الهويات وصهر الثقافات، وكمثال على ذلك قانون (التحرر من الاضطهاد

الديني) الأمريكي الذي تستخدمه في التدخل بشؤون العالم الإسلامي بدعوى حماية

الأقليات، وإتاحة حرية ممارسة العبادة وإقامة دور لها.

- الآثار الثقافية السلبية التي يمكن أن تنشأ من السير في فلك منظمة التجارة

العالمية؛ حيث تتيح تفسيرات قوانينها الاعتداء على الخصوصيات الثقافية بدعوى

تسهيل انسياب حركة التجارة العالمية.

الخطر الأخلاقي:

- وذلك بما يبث عبر شبكات التلفزة والإنترنت من أفلام جنسية ومواد

إعلامية تروج الفاحشة والرذيلة. وقد بلغ هذا النوع من المواد والأفلام من الكثرة

لدرجة أن ألمانيا التي يسمح قانونها بعرض العملية الجنسية على المسرح مباشرة

أمام المشاهدين قامت بإغلاق ٢٠٠ موقع إباحي عام ١٩٩٦م. وبلغت تلك البرامج

رواجاً كبيراً لدرجة أن استفتاءً في بريطانيا أظهر أن نسبة ١: ٣ من طلاب

المدارس الثانوية يشاهدون أفلاماً إباحية.

- هناك نصف مليون موقع على الإنترنت تتعامل مع الصور المخلة بالآداب،

وتشرح طرق استعمال المخدرات، ووسائل استخدام العنف (١٩٩٧م) .

- استخدام جسد المرأة أداة نفعية مادية؛ وذلك بتضخيم الجانب الشهواني؛

حيث تعتبر المرأة سلعة يمكن تسويقها من خلال العروض التلفزيونية والإعلانات.

وكذلك تعتبر المرأة آلة لتسويق السلع الاستهلاكية لمستحضرات التجميل والأزياء،

ويظهر ذلك من خلال عروض الأزياء، ومسابقات ملكات الجمال، وقد توسعت

مسابقات ملكات الجمال لتشمل ملكات جمال الإنترنت.

الخطر الاجتماعي:

ويتمثل ذلك بمحاولات الدول الغربية تحت مظلة الأمم المتحدة أن تفرض

أنموذجها الاجتماعي، وأن تفرض على العالم قيم المجتمع الغربي المختلة في مجال

الأسرة والمرأة من خلال المؤتمرات الدولية في المجالات الاجتماعية المختلفة،

ومن خلال المؤتمرات الإقليمية ولجان المتابعة لتوصيات هذه المؤتمرات المتعددة

والمنتشرة، والتي تدعو إلى اعتماد النموذج الغربي في الحياة الاجتماعية والسكان،

كما أن توصيات هذه المؤتمرات قد تصل إلى ما يشبه القرارات الملزمة.

ومن أبرز توصيات هذه المؤتمرات:

- الحرية الجنسية وإباحة العلاقات الجنسية خارج إطار الأسرة، وتقليل قيمة

الزواج.

- تكريس المفهوم الغربي للأسرة، وهو أنها تتكون من شخصين فأكثر ولو

كانا من نوع واحد.

- إباحة الشذوذ الجنسي بكل أنواعه، ومن المعلوم أنه مُقَرٌّ في بعض القوانين

الغربية.

- فرض مفهوم المساواة الشكلي بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات

والحياة العامة.

ومن مظاهر الاستجابة لهذه العولمة الاجتماعية في العالم العربي نلاحظ:

- تزايد النشاط النسوي الوافد بما يحمله من فكر تغريبي، ومثاله: الخطة

الوطنية لإدماج المرأة في التنمية في المغرب (٢٠٠٠م) .

- الاتجاه لإعادة النظر في قوانين الأسرة في العالم الإسلامي، كما حصل في

مصر أخيراً.

- تزايد التمويل الأجنبي المشبوه لمنظمات وهيئات نسوية أو معنية بشؤون

الأسرة والمرأة.

- طرح مناقشات وبرامج حول المرأة في المجتمعات المحافظة، كما حصل

في بعض دول الخليج أخيراً.

خطر الفوضى العالمية وعدم السيطرة:

تتيح التقنية وسائل جديدة للمجرمين واللصوص وتجار المخدرات؛ حيث إن

توحد السوق وضخامة ما يضخ فيه من مال يغطي عمليات السرقة وغسيل الأموال،

فتكثر عصابات المافيا وأساليب الاحتيال، وقد تغري بدخول أجهزة استخبارات

لبعض الدول وسط معمعة الفوضى لتحقيق أغراض مالية أو سياسية. ومن مظاهر

ذلك:

- مواقع على الإنترنت فيها إرشادات للإرهابيين؛ حتى وصل الأمر إلى أن

يناقش هذا الموضوع في الكونجرس الأمريكي تحت عنوان: «الإنترنت وعلاقته

بالإرهاب» .

- عشرات الألوف من المواقع على الإنترنت تشرح طرق استعمال المخدرات

ووسائل استخدام العنف.

- سرقة البرامج؛ حيث قدرت قيمة البرامج المسروقة في عام ١٩٩٣م

ببليوني دولار.

- سرقة أرقام بطاقات الائتمان؛ حيث قامت عصابة واحدة بسرقة ٠٠٠.

١٤٠ بطاقة عام ١٩٩٤م، وتم نشرها على لوائح.

- إفساد البرامج داخل أنظمة الكمبيوتر. وبحكم ترابط شبكات الكمبيوتر

والمعلومات يعظم الإفساد. وكمثال قريب لذلك فيروس «الحب» . وما زالت

محاولات نشر الفيروسيات عبر الإنترنت والبريد الإلكتروني مستمرة.

هذه جوانب من المخاطر، وهناك جوانب أخرى لم نتطرق إليها لوضوحها

للمراقب والمتابع، ومنها خطر العولمة الاقتصادية ذلك الغول الخطير الذي يهدد

دول الجنوب عامة، ويمكن أن يحولها إلى شبه ملكية خاصة للشركات الغرببة

العملاقة المتعددة الجنسيات.

مستقبل العولمة:

يظهر والله أعلم أن هيمنة الغرب وبالذات أمريكا الدولة المركزية على عملية

العولمة لن تستمر طويلاً؛ وذلك بحسب استشراف الأمريكان أنفسهم لمستقبل

دولتهم، وإن كانت ستبقى ذات مركز عالمي مهم لكن ليس مهيمناً، للأسباب

الآتية:

١ - أن فكرة العولمة ليست مثاقفة بين المجتمعات وحواراً بين الحضارات،

والتي من شأنها أن تتلاقح فيها الحضارات مع الاحتفاظ بالخصوصيات، وإنما هي

هيمنة نمط حضارة واحدة بكل ما تحمله من ازدواجية في المعايير، وتناقض في

القيم، وفوضى في الحياة الاجتماعية، وهذا يؤدي إلى روح المقاومة والمغالبة من

الآخرين، عندما تبدأ عملية الاختراق والتحدي الثقافي والفكري والاقتصادي

والسياسي.

٢ - أن طبيعة الإنسان عندما يملك القوة ولا يضبطه منهج رباني، ولا يجد

مقاومة مكافئة فهو كما قال الله تعالى عنه: [إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب:

٧٢) ، وقال: [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ

الخَيْرُ مَنُوعاً] (المعارج: ١٩-٢١) . ولذلك سيكثر الظلم والبغي والابتزاز

ومحاولة السيطرة على موارد الآخرين من قِبَل الأقوياء. وأما دعاوى الحرية

والمساواة وحقوق الإنسان فتلك داخل مجتمعاتهم، وتستخدم خارجها من أجل مزيد

من الهيمنة في الغالب، وهذا سيزيد من حجم العداء وإثارة روح المقاومة.

٣ - أن أيديولوجية العولمة التي تقوم على الترغيب بمجتمع الليبرالية الغربية

كما في فكرة (نهاية التاريخ) عند فوكوياما، وعلى الترهيب من الصدام الحضاري

كما في أطروحة (صدام الحضارات) عند هنتنجتون، وهما مفكران أمريكيان

يستشرفان علاقة الغرب بالعالم الآخر، هما فكرتان توحيان بأن هذه الأيديولوجية

التي تسعى إلى محاولة إلغاء الخصوصيات الحضارية بالترغيب والترهيب يخالف

طبيعة الأشياء، مما يسبب قيام تيار معاكس في كل حضارة، وبالذات الحضارات

التي تملك عناصر القوة والمنعة، ثم يحصل الصراع الذي يعتقده هنتنجتون،

والإسلام في طليعة تلك الحضارات، وخاصة في ظل استهداف الإسلام بخصومة

ضخمة بالرغم من حالة ضعف المسلمين.

٤ - إن توقع أن العالم سيتحول إلى ولايات أمريكية كما يعتقد أحد مؤلفي

«فخ العولمة» في ندوة له بالرياض هذا العام هو مخالف للسنة الإلهية التي تحكم

هذا الكون، ولسنة التدافع والصراع التي تحكم العلاقة بين الحق والباطل منذ

وجود الإنسان على هذه الأرض. فالاختلاف والتدافع والصراع كانت من سمات

الحياة البشرية عبر التاريخ بسبب الاختلاف بين الحق الذي جاء به الأنبياء والباطل

الذي تدعو إليه الشياطين، أو بسبب نوازع النفس البشرية وأنانيتها وعنصريتها

وظلمها وبغيها على الآخرين. قال الله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم

بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: ٢٥١) وقال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ

بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً]

(الحج: ٤٠) ، وقال تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ

مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود: ١١٨-١١٩) .

٥ - إن وجود الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم

إلى نهاية الزمان والتي هي بعض قدر الله في هذه الأرض يتناقض مع الدعوى

العريضة لهذه العولمة والمبشرين بها. بل فيه إشارة إلى أن ظهور هذه الطائفة

سيكون في بعض المراحل على ظلمات وظلم هذه العولمة، وأن عدم تضررهم بمن

خالفهم وخذلهم إشارة إلى بعض الفئام من المسلمين الذين سيركبون قطارها.

وعلى أرض الواقع نشاهد ما يلي:

١ - المشكلات الداخلية مثل التفكك الأسري المخدرات الطبقية: ٦٠مليون

في أمريكا تحت خط الفقر، وفي الاتحاد الأوروبي ٥٠ مليون تحت خط الفقر،

وفي أمريكا ١% من الناس يملكون ٤٠% من الثروة.

٢ - الأمراض الناتجة من التحلل الأخلاقي (الإيدز) : تشير تقديرات

منظمة الصحة العالمية (الغرب له نصيب كبير من هذه الأرقام) :

- حتى عام ٢٠٠٠م هناك ٤٠ مليون مصاب بالإيدز، والنساء أكثر إصابة

بهذا المرض.

- عدد المتوفين بسبب الإيدز منذ بداية المرض في أواخر السبعينيات حتى

عام ٢٠٠٠م حوالي ٢٢ مليون، أكثر من ٤ ملايين منهم من الأطفال.

- ٢٥٠ مليون حالة جديدة من حالات الإصابة بأمراض انتقلت عن طريق

الاتصال الجنسي.

٣ - الفوضى الأخلاقية:

وهي إحدى مظاهر القصور في مجتمعات الحضارة المعاصرة، وهذا المظهر

مع غيره من جوانب قصور أخرى تخفف من بريق هذه المجتمعات وتزهد فيها،

ومن أمثلة ذلك:

- في بعض الدول الأوروبية ٦٥% من النساء العاملات يتعرضن للتحرش

الجنسي في أماكن عملهن، وعلى مستوى كل دول الاتحاد الأوروبي تبلغ النسبة

٣٥%، وهذا بحسب مسؤولة التوظيف والسياسة الاجتماعية في المجلس الأوروبي

في بروكسل.

- حوالي ١٨% من النساء في أمريكا اغتصبن أو تعرضن لمحاولة اغتصاب

في مرحلة من مراحل عمرهن، وأكثر من نصف الضحايا كن تحت سن ١٧ سنة

عندما تعرضن للاغتصاب للمرة الأولى، وهذا بحسب دراسة أعدت بتكليف من

وزارات العدل والصحة والشؤون الاجتماعية في أمريكا.

- كثر التحرش الجنسي في السنوات الأخيرة في اليابان حتى بات من

الضروري وضع قانون وطني لمكافحته، وذلك بحسب رأي خبيرة القضايا القانونية

في الحزب الديمقراطي. وجاء في هذا الصدد أن شركة القطارات في اليابان تفكر

جدياً بتخصيص عربات خاصة بالنساء، وقد بدأ تطبيق ذلك أخيراً، علماً أن

عربات النساء الليلية موجودة منذ سنين.

٤ - ظهور ملامح صراع بين أمريكا وبعض الدول الغربية بسبب الاختراق

الثقافي والاقتصادي كما حصل مع فرنسا ومع كندا عندما احتجتا على الهيمنة

الأمريكية على حساب الثقافة المحلية والامتيازات الاقتصادية. وسبق ذكر موقف

الرئيس الفرنسي السابق ميتيران من ظاهرة لبس الجينز، وموقف الرئيس شيراك

من الغزو اللغوي.

٥ - توقع ظهور مراكز قوى جديدة عسكرية واقتصادية (الصين، الاتحاد

الأوروبي، اليابان) يمكن أن تنافس أمريكا وتنهي بذلك حقبة القطبية الأحادية؛

وخاصة مع ما يتوقع من أن أمريكا ستبدأ مرحلة انكفاء على الذات على حساب

الهيمنة العالمية في غضون السنوات العشرين القادمة حسب دراسات أمريكية.

٦ - مقاومة العديد من دول العالم خاصة النامية للعولمة أو على الأقل عدم

الاستسلام لشروطها القاسية؛ وذلك لما ترى لها من أثر على تقليص السيادة الوطنية

في مجال صنع السياسات الاقتصادية وغيرها؛ وخاصة أن هذه الدول ترى أن

الأزمات المالية والاقتصادية الطاحنة التي ألمت بالمكسيك عام ١٩٩٤م، والبرازيل

عام ١٩٩٩م وفي غيرهما كانت نتيجة حتمية للعولمة والاندفاع إلى الاندماج فيها

دون قيد وشرط، وأن الطبقية التي تحصل في بعض الدول كمصر، والمتوقعة في

أخرى كدول الخليج التي سارت في قطار العولمة أو التي تستعد لركوبه مؤشر آخر

على ذلك. وكمثال على ذلك السعودية التي كان من المقرر أن تنضم لمنظمة

التجارة العالمية في نهاية عام ٢٠٠٠م، لكنها قاومت الانصياع للشروط واستمرت

في المفاوضات إلى الآن.

٧ - الأزمات العسكرية والثقافية والاجتماعية والشعور بالتفكك الداخلي لدى

الغرب تزداد عمقاً، كما أنه يزداد عجزاً عن فرض سياسته، وإن تم له ذلك

فبتكاليف باهظة.

٨ - ازدياد وعي جماهير العالم الثالث وخاصة العالم الإسلامي، وازدياد فهم

النخب لقواعد اللعبة الدولية، وبروز روح تمرد عند دوله على الهيمنة الغربية

(نموذج ليبيا في ما يسمى مشكلة لوكربي) ، حيث تمردت دول منظمة الوحدة

الأفريقية على الحصار الجوي المفروض على ليبيا، وتهديد الدول العربية بالتمرد

أيضاً كما في توصيات مؤتمر القمة العربي في عمان.

٩ - إخفاق بعض الأطروحات الغربية (تحرير المرأة) في تلك المجتمعات

لدرجة أن باحثة أمريكية أصدرت كتاباً باسم: «أخوات في الجريمة» ترى أن

تحرر المرأة سوف يزيد من إجرامها، وأنه يمكن التعامل مع الحالة الإجرامية

للمرأة كمؤشر على درجة التحرر التي تحققها في المجتمع. وأوردت بعض

الإحصائيات التي تدعم وجهة نظرها، وكمثال لذلك خريطة النساء في البرلمانات:

إحصائية عام ١٩٩٣م الصادرة عن الاتحاد البرلماني الدولي:

أمريكا ١١% بريطانيا ٩% فرنسا ٦%

روسيا ٨% اليابان ٢% مصر٢% تركيا ٢%

ويمكن القول إن معدل وجود المرأة في البرلمانات والمجالس الشعبية في العالم هو

١٠% بالرغم من الدعاوى والجهود المبذولة منذ مطلع القرن من أجل تحقيق مساواة

بين الرجل والمرأة وإلغاء التخصص بين الجنسين على أساس وظيفي.

١٠ - مصيدة الديمقراطية وحقوق الإنسان جعلت الغرب يظهر بعدم صدقه

فيما يدعو له، وبأنه صاحب معايير مزدوجة، وهو كذلك كما حصل مع الصين

ومع الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة، وهو كذلك الآن عندما تأتي الديمقراطية

بخصوم الغرب إلى الحكم أو تأتي حقوق الإنسان على حساب بعض أصدقائهم في

دول العالم الثالث، ولذا سكت الغرب عن انقلاب العسكر على الديمقراطية في كل

من نيجيريا والجزائر، وهذا يظهر الغرب بعدم صدقه في ادعائه حماية القيم.

١١ - ظهور بوادر إخفاق وعود العولمة ومبشريها في تقليل الفجوة بين

الشمال والجنوب على مستوى العالم وعلى مستوى الدولة الواحدة؛ فالعولمة تمنح

الفرص للشريحة الغنية الضيقة وتظل الشرائح الكبيرة على مستوى الدول والأفراد

تعاني ويلات العولمة مما يعني تكريس الظلم واللامساواة الاجتماعية. ومن طريف

ما كتب في كتاب: (عالم منفلت Runway World) أن العولمة التي توصف

بأنها حولت العالم إلى قرية معولمة صغيرة global village قد حولته أيضاً إلى

عملية نهب معولمة صغيرة global pillage.

١٢ - ظهور تيار عالمي مناوئ للعولمة له جمعياته ومنظماته ومنتدياته داخل

الدول الصناعية مثل المنتدى الاجتماعي العالمي المناهض لمنتدى (دافوس)

والتنسيق العالمي المناهض لمنظمة التجارة العالمية. ويقوم هذا التيار بدور التوعية

بمخاطرها وآثارها السيئة على المجتمعات، ويحاول الاحتجاج عليها وإبطال أي

فعالية لدفع ودعم تيارها مثلما حدث في (سياتل، ودافوس، ومونتريال، وجنوا

أخيراً) . وتظهر عدائية عدد من منظمات المجتمع المدني الغربي للعولمة في

الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أقوى كالمنظمات العمالية واتحادات الشغل التي

تراقب أثر عولمة الاقتصاد على معدلات أجور العمال وعلى نسبة البطالة.

كيف نستثمر آليات العولمة؟

كما أن للعولمة أخطارها الضخمة فإن هناك كثيراً من المكاسب والفرص التي

هي جزء من الحركة الفاعلة والإيقاع السريع لمعطيات العصر؛ فالموقف العقلاني

الرشيد ليس فقط المقاومة، وإنما نضيف إلى ذلك ما ينبغي أن يكون عليه موقفنا من

استثمار الفرص السانحة باستخدام آليات العولمة بما يخدم المسلمين ويحافظ على

هويتهم ويبرز موقفهم ويحمي كيانهم. ومن أمثلة هذا الاستثمار:

في مجال الإعلام والاتصالات:

- إن سهولة الاتصالات ونقل المعلومات ستُحدِث نقلة نوعية في أساليب

الإدارة والعمل، فيستطيع الأفراد العمل من منازلهم في بعض الوظائف. وقد بدأت

عدد من الشركات الأمريكية والأوروبية بتخصيص أوقات معينة لكي ينجز

الموظفون أعمالهم الموكلة بهم من منازلهم دون الحاجة للحضور، وأغلب الذين

يعملون بهذا الأسلوب من النساء. فهذا الأسلوب سيتيح الفرصة أمام الأسر

المحافظة والمجتمعات المحافظة لإنجاز أعمال كثيرة عن طريق الإنترنت دون

الحاجة لخروج المرأة من منزلها وترك بيتها وأطفالها، وخاصة إذا علمنا أن نسبة

استخدام النساء للإنترنت في مجتمع محافظ كالسعودية نسبة عالية بحسب إحصائية

أخيرة.

- تحرير وسائل الإعلام وتطورها وسهولة امتلاكها وإنشاء القرى الإلكترونية

الحرة سيتيح مجالاً لأي فرد أو مجموعة أو منظمة تريد أن تقيم محطات فضائية أو

وسائل إعلام أخرى لنشر الإسلام والدعوة إلى الله، ونشر العلم، والدفاع عن

المسلمين، والرد على الشبهات بحرية دون وصاية أو رقابة رسمية أو الخضوع

لأنظمة مقيدة، ومن أمثلة ذلك الجهود الحثيثة في أكثر من جهة لإنشاء قنوات

فضائية إسلامية مستقلة داخل القرى الإعلامية الحرة المقامة في بعض الدول.

- التغطيه الإعلامية الواسعة للأحداث من خلال الفضائيات أتاحت تغطية

واسعة لقضايا المسلمين، وقلل من فرصة الإعلام الغربي أن يعتم إعلامياً على

قضايا المسلمين أو يعرضها من وجهة نظره المنحازة في أغلب الأحيان، وكمثال

على ذلك التغطية الواسعة لما يجري في فلسطين المحتلة بحيث وضع العالم في

صورة ما يحدث لحظة لحظة، وكشف ممارسات الصهاينة هناك، ولا شك أن

الإعلام له تاثير مباشر على صنع الرأي العام الذي يؤثر على الأنظمة السياسية في

سبيل تعديل مواقفها، ومما هو جدير بالذكر أن صورة مقتل (محمد الدرة) التي

أثرت بشكل ملحوظ على الرأي العام العالمي كانت لقطة لمصور وكالة الصحافة

الفرنسية، وهذا أمر أغضب اليهود، وأغضبهم أكثر أن تكون من مصور وكالة

غربية.

وفي المجال الاقتصادي:

مع التسليم بخطورة العولمة الاقتصادية على اقتصاديات الدول الضعيفة،

وخطورة فتح الأسواق وتحرير التجارة في هذه الدول والذي سيكون لصالح

الشركات الكبرى الغربية إلا أن كثيراً من هذه الدول إذا أحسنت استخدام إمكاناتها

وما تتميز فيه من موارد على غيرها من الدول الغربية، ورشدت سياساتها

الاقتصادية، وحاربت الفساد المالي والإداري المستشري، فإنه يمكنها أن توظف

جانباً من هذه العولمة الاقتصادية لصالحها فمثلاً:

- الانضمام لمنظمة التجارة العالمية يمنع أوروبا من وضع رسم ١٢% على

المستوردات البتروكيمائية من بعض الدول الإسلامية البترولية؛ فمثلاً الإنتاج

السعودي من البتروكيمائيات يزيد على ٥% من الإنتاج العالمي؛ فكم ستكون الفائدة

إذا أزيلت الحواجز الجمركية أمام هذه السلعة المتوفرة لدى الدول المنتجة للنفط

ومعظمها دول إسلامية؟

- يتيح انضمام الدول المنتجة للنفط إلى المنظمة الفرصة للضغط بمعاملته

باعتباره سلعة صناعية من سلع المنظمة، فتزول الضرائب المفروضة عليه في

الدول المستوردة. ففي تقرير لمنظمة الأوبك مؤخراً أظهر أن أكثر من ٧٠% من

سعر النفط المصدر إلى دول الاتحاد الأوروبي يذهب إلى الخزائن الحكومية بينما

يحصل منتجو النفط على أقل من ٣٠%. كما أوضحت تقارير أخرى أن عائدات

أربع دول أوروبية من ضرائب النفط في عام ١٩٩٨م يفوق عائدات كل دول أوبك

من تصدير النفط في ذلك العام. فإذا علمنا أن معظم الدول المنتجة هي دول

إسلامية، ومنها السعودية التي يعادل إنتاجها ١٣% من الإنتاج العالمي يتبين مدى

الفائدة المرجوة.

- كذلك فالانضمام إلى المنظمة سيدفع إلى إزالة معوقات كثيرة تقف في وجه

التنمية، وإلى تحديث الأنظمة وإلى وجود الشفافية لتصحيح مسارات التنمية، وإلى

تحديث الإجراءات القضائية، وتخليص الأنظمة الحمائية التي لا تتمشى مع روح

النظام الاقتصادي الإسلامي وتضعف هياكل الإنتاج.

- انفتاح السوق مع ما يجلبه من سلبيات إلا أنه سيدفع إلى التنافس الذي

سيحكم طبيعة السوق الحر المفتوح، وهذا سيدفع إلى تخصيص مؤسسات عامة

كثيرة؛ وخاصة قطاع الخدمات الذي يعاني من سوء في الإدارة وضعف في

الإنتاجية في معظم دول العالم الثالث، لتكون أقدر على المنافسة وأوضح للمحاسبة،

مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى الخدمات وتحسين مستوى المعيشة والرفاهية،

وسيخلق بيئة عمل حيوية وفعالية أكثر للمجتمع.

- انفتاح السوق وإزالة العوائق النظامية سيتيح طرح البدائل الإسلامية في

الخدمات، كالبنوك الإسلامية التي قيد انتشارها في عدد من البلدان مع نجاح

التجربة، بحيث ستجد فرصتها في سوق الخدمات الحر، كذلك بدائل التأمين

التعاوني الشرعي في مواجهة التأمين التجاري بصورته الرأسمالية.

- تتيح التقنية الحديثة للاستثمار (التجارة الإلكترونية) لمشاركة عدد من

مستثمري دول العالم الثالث عبر القنوات المفتوحة، خاصة إذا استحدثت قنوات

آمنة للاستثمار من الناحية الشرعية في أسواق البورصات العالمية، مثل محاولة

عدد من المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي إيجاد مؤشر إسلامي على «مؤشر

داوجونز» باسم Dowjones' Islamic Index.

وفي مجال الإنترنت:

- الإنترنت ثمرة من ثمار التقنية كسرت احتكار الغرب للمعلومات، وأتاحت

فرصة الوصول إلى المعلومات في المجالات المختلفة بنفس السرعة المتاحة

للغربيين سواء كانت معلومات علمية أو إخبارية. وإذا كانت مقولة أن العصر هو

عصر المعلومات، وأن هيمنة الغرب هي بالمعلومات وذلك باستخدامه الفاعل لها؛

فإن هذه الفرصة أصبحت متاحة لغيرهم، فإذا أحسنا استخدام المعلومة، وعرفنا

طرق الوصول إليها فسنستطيع أن نقلل الهوة بيننا وبين الغربيين في مجالات عدة.

- كذلك فالإنترنت منبر حر دون رقيب، وميدان فسيح دون قيود لكل من

يحسن استثماره واستغلاله، ويستطيع أي مفكر مسلم أو داعية مسلم أن يطرح ما

يريد من خلال صفحات لا حصر لها، ويمكن نشر الإسلام والعلم الشرعي وإتاحته

لكل من يطلبه دون عناء. ويمكن أن تصدر صحف ومجلات دورية دون قيد أو

شرط. وكمثال على ذلك موقع القوقاز الذي يغطي أخبار المجاهدين الشيشان على

شبكة الإنترنت؛ فلقد استطاع أن يحطم حاجز التعتيم الإعلامي عليهم، وأن يضع

العالم في صورة ما يحدث هناك بشكل شبه يومي، وشكَّل مصدراً مهماً لأخبار

المجاهدين الشيشان لوكالات الأنباء العالمية.

- كذلك نستطيع استخدام هذه الشبكة في مجال الاحتساب العام من خلال

توسيع مجاله وتطوير مفهومه ليتلاءم مع الآليات المتطورة. وبذلك نستطيع رفع

فعالية المصلحين والمحتسبين على المنكرات العامة الدولية منها والإقليمية.

ومن أمثلة هذه المحاولات: إصدار وثيقة تستنكر أفعال الصهاينة بالفلسطينيين

في بداية الانتفاضة الثانية والتي وقعها مئات العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين في

أنحاء العالم عن طريق الإنترنت. كذلك ما تجريه بعض القنوات الفضائية من

التصويت على قضية من القضايا وموقف من المواقف الهامة تجاه مستقبل الأمة

ومصيرها، وما تطرحه بعض المواقع على هذه الشبكة من حشد التواقيع ضد

قضية ظلم تجاه المسلمين وإرسالها إلى الظالمين. وكذلك ما تقوم به المنظمات

الإسلامية في أمريكا والمدافعة عن حقوق المسلمين مثل منظمة «كير» CAIR

في واشنطن واستخدامها الفعال للإنترنت في الاحتساب على منتهكي حقوق الإسلام

والمسلمين. ومن أبرز الأمثلة في هذا الجانب كيفية توظيف معارضي العولمة أثناء

قمة سياتل عام ١٩٩٩م أدوات العولمة لمواجهتها، حيث نظم المعارضون جهودهم

ونسقوها عبر شبكة الإنترنت مما أربك المؤتمر وساعد على هزيمته.

- استثمار تقنيات نقل المحاضرات، مثل تقنية غرف PAL TALK في

نظام هذه الشبكة، حيث تستطيع أن تلقي دروساً وتقدم محاضرات وتجري حوارات

وتدفع بردود على الهواء مباشرة بشكل مرئي ومسموع، ويُستمع إليك من كل أنحاء

العالم. وإذا علمت أن المشتركين في هذا النظام بلغ حتى الآن خمسة ملايين

مشترك ويزيدون باطراد؛ فلك أن تتصور مقدار المصالح التي يمكن أن تتحقق في

باب الدعوة ونشر العلم وإزالة الشبهات وترسيخ المنهج. وقد استخدم هذا النظام في

نقل بعض دروس الحلقات العلمية الصيفية بالرياض فكان المستمعون لها من كل

أنحاء العالم يتابعون دروسها في الوقت نفسه الذي يستمع لها المشاركون في المسجد

نفسه، ويطرح البعيدون أسئلتهم كما يطرحها القريبون.

وفي المجال الثقافي والفكري والاجتماعي:

- نستطيع أن نوظف المشاركة في هذا النوع من المؤتمرات واللجان في

طرح الرؤى الإسلامية في المجالات الفكرية والثقافية الاجتماعية، ونبين مخاطر

قيادة الغرب للعالم في هذه المجالات، ببيان الآثار في الواقع وأن ذلك ثمرة لحَيْدة

البشرية عن مصدر الهدى والرشاد وهو الوحي. كما أن منتديات حوار الحضارات

ستكون ميداناً فسيحاً للغزو الفكري المضاد، وسنجد أننا استطعنا القيام بواجب

الدعوة إلى الله والشهادة على الناس من خلال هذه المنتديات والفعاليات. وسنجد

أننا نملك ما لا يملكه الآخر، وأنه أتيحت الفرصة لنا لإبراز جوانب القوة التي

نملكها أمام قوة الغرب المادية والتقنية. ولعله أن يهتدي من أراد الهدى من خلال

الدعوة إلى المنهج الحق وبيان محاسنه ومقارنته بفساد مناهج الآخرين في هذه

المجالات.

والملاحظ أنه رغم تأثيرات الإعلام الغربي والأمريكي بالذات في نشر نمط

الثقافة والحياة الأمريكية في العالم عبر الفضائيات والأفلام والمجلات والإنترنت فإن

الدعوات الدينية والأخلاقية المضادة ما تزال تكسب أنصاراً جدداً في غير مكان من

العالم وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهذا يجعلنا نتفق مع تأكيد صاحب

كتاب: «توالد العولمة: التحولات والممانعة» بتلازم التحولات العولمية مع

ازدياد تحولات الممانعة والمقاومة لها، وأن المنظومات الدينية تعتبر من أكبر

المنتفعين من العولمة لا سيما من جهة استثمار وسائل الاتصال الحديثة وتوظيفها

لنشر رسالتها الدينية.

- كذلك يستطيع العرب المسلمون أن يحدثوا عولمة للغة العربية خاصة في

أوساط المسلمين، وذلك بما يضخونه من مواد علمية وفكرية وشرعية وقرآنية

مكتوبة أو مسموعة بحيث يعتاد المسلمون من غير العرب قراءة هذه المواد وسماعها

مما ينعش حيوية اللغة العربية؛ خاصة إذا استحضرنا العلاقة الوثيقة بين اللغة

العربية والدين الإسلامي. ومن جهة أخرى يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقليل شأن

اللهجات المحلية والقطرية لصالح الفصحى.

وخلاصة القول:

هناك فرص أخرى كثيرة يمكن للمتأمل أن يجدها فيما تتيحه المعطيات الجديدة

المشكِّلة لبيئة العولمة، ولكن لا نعقلها وندرك كيفية استثمارها إلا بفهم عميق

وإدراك ذكي لقوانين هذا العالم وطبيعة هذه العولمة، ومعرفة جوانب القوة وجوانب

الضعف في مراكز القوى، وكيف ينشأ القرار العالمي، واستيعاب استخدام التقنية

وتعميمها بحيث لا تبقى في محيط النخبة فقط.

الموقف:

إذا استثنينا اتجاه فريق يرى المقاومة بالانعزال عن هذا العالم لضعف تأثيره

وقلة مؤيديه وعدم قدرته على الصمود الطويل؛ فهناك اتجاهان بارزان يحددان

مواقف النخب الفكرية من تيار العولمة:

الأول: اتجاه الذوبان، وهو الذي ينطلق من أن العولمة محتوى وآليات هي

خيار وحيد وحتمي لهذا العالم ولا بد من الذوبان فيها والانصهار الحتمي معها؛

ويمثله طائفة من المفكرين العلمانيين.

والثاني: اتجاه نقدي عقلاني رشيد يحاول تفهم قوانين العولمة دون التسليم

بحتمية القيم التي تجلبها، ويعرف كيفية مواجهة تحدي المحافظة على الهوية

الإسلامية والثوابت العقدية والثقافية مع معايشة العصر بفكر متفتح ورأي مستنير

وسلوك رشيد. وهذا الموقف الصحيح يقوم على مقاومتها موضوعًا ومحتوى،

واستثماره وسائل وآليات.

ولذا نحتاج إلى ما يلي:

أ- تعميق الوعي العقدي والديني والخلقي؛ ذلك أن العولمة تحمل روحًا

علمانية مادية، وتؤسس حياة استهلاكية دنيوية تختزل الإنسان في بعده المادي

والاستهلاكي، وتهون من شأن القيم والمعايير الأخلاقية والثوابت الدينية. والتركيز

على التربية الدينية والأخلاقية للحماية من تيار الشهوات الجارف الذي تغذيه وتدفع

به فكرة العولمة من جهة الآليات والمحتوى.

ب- إنعاش قيم التفوق الثقافي والفكري والأدبيات الحضارية المكافئة

والملائمة لقيم العولمة الثقافية والحضارية، مثل الشورى والعدل وحقوق الإنسان

بأصولها الشرعية بدلاً عمَّا يقابلها من القيم الغربية بأصولها العلمانية.

ج- المحافظة على الخصوصية الثقافية مع الانفتاح الفكري الذي يجعلنا

نستوعب ما عند الآخرين من علوم وفهوم ومنجزات حضارية، ونمتنع عن التأثر

السلبي لهذا الانفتاح.

د- قيام حركة تأصيلية نشطة لبعض قضايا المنهج، وتحرير بعض المواقف

العلمية، والتفريق بين قضايا الاجتهاد وقضايا الافتراق، ومواجهة النوازل

المستجدة التي تفرضها طبيعة العصر، والردود العلمية على الشبهات التي تنشرها

بعض وسائل الإعلام.

هـ - الحذر من ظهور تيارات عقلانية ومدارس منحرفة متأثرة بالاكتساح

الحضاري تفسر الإسلام وأحكامه وقيمه تفسيرًا يتلاءم ويتوافق مع قيم وفلسفة

الحضارة الغربية، ويستجيب للروح المنهزمة التي يعيشها كثير من المسلمين.

و الانفتاح والحوار الفكري والحضاري؛ بحيث تمتد أيدي الحوار،

والصراع الحضاري حيث تشرئب أعناق الهيمنة الحضارية.

ز- الاستعلاء بالإيمان، والثقة بأن المستقبل لهذا الدين ولهذه الأمة، وتحرير

العقل من ثقافة الغرب والولع به، واعتبار ذلك من الثوابت الدينية التي لا بد من

الإيمان بها، وأنها من مقتضيات الدين الصحيح، وهي من لب الرسالات وكلام

المرسلين، وقد توصل لهذه الحقيقة من أراد أن يحرر شعبه من هذه التبعية عندما

قال (مانديلا) : " حرروا عقولكم من ثقافة الرجل الأبيض تحرروا أرضكم من

هيمنته ".

ح- استخدام وسائل التقنية وآليات العولمة بكفاءة من أجل عولمة مضادة،

وذلك في معركة المشروع الغربي (التغريبي) بكل مفرداته وبين المشروع

الإسلامي الشامل بكل مفرداته، وذلك من خلال عولمة الرؤى والمواقف الإسلامية،

وتجاوز الروح والنظرة الإقليمية الضيقة في النظر إلى مستقبل الإسلام في أتون

الصراع العالمي.