للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب المفتوح

[عصا موسى]

خالد عبد الحميد

إن أسلوب التربية والبناء الإيماني للشخصية يتنوع بتنوع المستويات

واختلافها، ويرتبط بنضج الفكر وقصوره؛ ولذلك تنوعت أساليب الدعوة والتربية

في القرآن على يد الأنبياء؛ فعلى سبيل المثال كانت آليات التفكير عند شعب بني

إسرائيل غير مكتملة المكونات، وغير ناضجة التصور، ضعيفة في بنائها، هشة

في مكوناتها، ضحلة في عمقها، فاستتبعت أن يكون منطق معجزة نبيهم قوة ربانية

تخرق نواميس الكون لتنشط الذهن، وتشحذ هذه العقول للعودة إلى ربها، واليقظة

من سباتها، وتمثلت هذه العودة الربانية إلى عصا تتحول إلى ثعبان يلقف ما بأفكار

السحرة، ويرعب فرعون وملأه، عصا تفلق البحر وتشقه فيتفرق كل فرق كالطود

العظيم، عصا يضرب بها الحجر فتنبجس منها اثنتا عشرة عيناً.

وتلاحظ أن الله لم يطالب الفئة المؤمنة في هذه المراحل بأي جهد؛ فلم يكلفوا

بحفر الأرض واستخراج الماء وقد كان ممكناً؛ ولم يكلفوا بمجاهدة فرعون وقتاله،

أو صنع فلك، أو حتى السباحة في الماء وقد كان ممكناً، ولم يكلفوا من قبل

بمجابهة سحر فرعون بدعوة الناس وإظهار زيف وبطلان ما يروجه، ولأن أتباع

موسى رفضوا تحمل تبعة هذا الدين منذ أن قالوا: [أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن

بَعْدِ مَا جِئْتَنَا] (الأعراف: ١٢٩) ؛ فلقد لعبت عصا موسى دوراً بارزاً في

حياتهم، فاستحقت أن يخلَّد ذكرها في القرآن الكريم، وتبقى في ذاكرة التاريخ

شاهدة على التخاذل اليهودي في تحمل المسؤولية، وما سمعنا عن واحد من ذرية

بني إسرائيل ممن برزوا في حياة موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة

والسلام جاهد مع موسى وأيده في دعوته؛ فقد كان مؤمن آل فرعون قبطياً مصرياً،

وكذلك امرأة فرعون، أما الرجلان فلم تأتنا التفاصيل عن هويتهما، كما قال الله

عن قارون معلناً نسبه: [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ]

(القصص: ٧٦) .

وما ذلك إلا لأنهم كانوا يعتمدون في منهج حياتهم على منطق العصا الذي

يعني عندهم عدم المشاركة في تحمل المسؤولية لتحقيق الغاية التي تستلزم الإعداد،

والتخطيط، والأداء. ولما نضجت البشرية أُرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم

حيث نُسِخَ منطق العصا إلى منطق المواجهة، منطق [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن

قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: ٦٠) ، وإلى

منطق [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ

يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ]

(الأنفال: ٦٥) ، فيترجمه الصحابة إلى واقع: «والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن

نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد

لفعلنا» [١] .

وإلى منطق «تجرع مر الهزيمة» [٢] في أحد لتتعلم الفئة المؤمنة أن من

أحسن الدنيا أخذها ولو كان كافراً، وليتربى الموحدون على تحمل المسؤولية.

وإلى منطق «حفر الخندق» ليحفر النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة،

وما كلف بضرب الأرض لتنشق عن خندق، رغم أن حفر بئر أيسر من حفر خندق

يحيط بالجهة الشمالية للمدينة.

وتتجلى ثمار هذه التربية الناضجة في أوضح صورها في غزوة مؤتة يوم أن

واجه المسلمون وهم ثلاثة آلاف مائتي ألف في أحدث أسلحتهم وأكمل عدتهم،

فصمدوا أمامهم وحسبهم ذلك.

لذلك فحق للتاريخ أن يتغنى بسِيَر هؤلاء الأعلام الأبطال، مخلداً ذكرهم،

شاهداً ببطولاتهم، فلم نسمع عن عصا محمد [٣] صلى الله عليه وسلم؛ لكن سمعنا

عن صاحب الغار، وعن فاروق الأمة، وعن مجهز جيش العسرة، وعن الفدائي

الأول، وعن أمين الأمة، وعن أسد الله، وعن رجل اهتز عرش الرحمن لوفاته،

وعن سيف الله المسلول، وعن الكثير والكثير ممن لا ينساهم الزمان وإن تناستهم

الأمة.

ولكن العجيب أن إخوان القردة والخنازير وأشباههم يتعاملون اليوم بمنطق

[وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] (الأنفال: ٦٠) ليترجموها إلى تفكير عميق،

وبحث دقيق، وتخطيط جيد، وتنفيذ وأداء ليباغتوك بتحقيق أهدافهم؛ فتدمَّر

الخلافة الإسلامية، وتبنى دولة المسيخ الدجال أعني إسرائيل وتعرى المرأة،

ويسعى في طمس هوية المسلمين ليتحول الكثير الكثير إلا من رحم الله إلى أذيال

وببغاوات، فتمسخ هويتهم؛ سواء كانوا ممن يدَّعون العلم، أو من البسطاء السذج.

أما الأولون فيتحولون إلى متسولين على موائد الفكر الغربي في شتى مجالاته،

يقنعون بالفتات مما يستجدونه من أسيادهم، أمثال: رفاعة الطهطاوي، طه

حسين، رشاد خليفة، سلمان رشدي، فرج فودة، وغيرهم.

ثم وقف المضللون الذين خدعوا وغرر بهم أعني من المفكرين فمسخت

هويتهم إلا بقايا من أصول الدين والفطرة ينتظرون عصا موسى لتحل لهم مشاكلهم

وتغير أوضاعهم، فوقفوا بذلك على مفرق طريق ليخيروا أنفسهم بين ضلالين:

- إما التبعية العمياء، والرضى بالمذلة والمهانة، وطمس ما تبقى من الفطرة

السليمة وقواعد الدين.

- وإما التخاذل والاعتزال عن طريق الكفاح، واتباع منطق: [لِمَ تَعِظُونَ

قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً] (الأعراف: ١٦٤) ، وانتظار عصا

موسى التي ستعيد لهم المجد المسلوب واللبن المسكوب.

وأما السذج والعوام فينغمسون في محاكاة عدوهم، فيهم همج رعاع يتبعون

كل ناعق؛ فإن تكلم فيهم الرويبضة فدعا إلى خلع الدين على أعتاب المساجد،

صفقوا وهللوا، وإن قيل لقانون «الله» : إنك لا تصلح! وقيل لقانون

«نابليون» : إنك أنت الأصلح رضوا واستحسنوا، وإن دعي إلى حكم الشعب

بالشعب لأجل الشعب ونسيان الرب وافقوا وأيدوا.

وإن نودي بالتفسخ، والإباحة الجنسية، وعدم الختان، وشرب المسكرات،

رأيت من يصفق ويهلل، أو يُسر ويتكتم لكن القلب أسود، مربادٌّ، كالكوز مجخياً،

لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه.

فإن دعوتهم وناصحتهم ادعوا عجزهم وسيطرة أهل الهوى عليهم، وأجابوا

بمنطق «عصا موسى» : «لا أمل في النجاة إنا لمدركون» . فإن قلت: فلنبدأ!

قالوا: [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] (المائدة: ٢٤) ، فإن

كررت لهم الدعوة شفقة عليهم وحباً لهم؛ [جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا

ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً] (نوح: ٧) ، واعتقد كل واحد أن الكلام

لكل الناس إلا هو.

فإن دعوتهم ليلاً ونهاراً عسى القلوب أن تلين والعقول أن تفهم جاء جوابهم

النهائي: [لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا] (إبراهيم: ١٣) ، فإذا

وجدوا ثبات أهل الحق قالوها عياناً بياناً: [أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ

يَتَطَهَّرُونَ] (الأعراف: ٨٢) « [٤] .

فإن تبين لبعضهم الحق حتى عاينوه تأثروا برواسب الجاهلية، وضعفت

الهمة، وعجزت عن نصرة الحق، وتأثرت النفوس بمنطق عصا موسى الذي

يعني عندهم السلبية وعدم تحمل المسؤولية، ولعلك تتلمح ذلك في مصطلحاتهم

اللغوية خذ مثلاً:

أ - (هو أنت ستغير الكون) : والمعنى أنت لا تملك عصا موسى، فلن

تغير شيئاً فلا تتعب نفسك!

أما من دعوة، نصيحة، أمر بمعروف، نهي عن المنكر، إنشاء البيت

المسلم.. لا ... لا ما دمت لا تملك العصا!

ب - (كن بجانب الحائط) : والمعنى أغلق فمك، واترك دعوتك؛ لأنك لا

تملك عصا موسى التي تنجيك من الهلاك.

ج - (من عاش جباناً مات مستوراً) : والمعنى أنت لا تملك عصا موسى

التي تمنحك القوة؛ فكيف تتأتى منك الشجاعة؟ فالأسلم أن تتخلى عن شجاعتك

حتى لا يمثل بجثتك.

ولكن فليعلم الجميع أن سر العصا لم يكن في ذاتها، بل لأنها في يد موسى

النبي الكليم عليه السلام وليعلموا أن عصا موسى قد استبدلها الله بقرآن بلغة محمد

صلى الله عليه وسلم وليس سر إعجاز القرآن وقوته في أن يتلوه محمد صلى الله

عليه وسلم، ولكن أن يُفهَم كما فهمه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يُطبق كما

طبقه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تتربى عليه الأجيال كما ربى محمد صلى

الله عليه وسلم أصحابه، عندئذ سيلقف ما يأفكه السحرة، وسيشق البحر، ويفجر

الحجر، وسيحل المشاكل الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وسينقلنا من

التبعية العمياء والتخلف الحضاري، والتأخر التكنولوجي، والنفعية المتسمة بالسلبية

وعدم تحمل المسؤولية إلى ريادة العالم وقيادة الشعوب.

فيا أمة القرآن! عَوْداً إلى القرآن نفهمه ونتدبره ونطبقه كما فهمه وتدبره

وطبقه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.


(١) أخرجه مسلم، رقم (٣٣٣٠) .
(٢) وإن كان بعض المؤرخين لا يعدونها هزيمة؛ لأن المسلمين نظموا صفوفهم وطالبوا بالقتال من جديد ففضل المشركون العودة.
(٣) انتبه ليس هذا مقارنة بين نبي ونبي لكن مقارنة بين مرحلة تاريخية اتبعت أسلوباً معيناً في الدعوة تمثلت في عصا موسى عليه السلام وبين مرحلة ناضجة استتعبت كفاح الفئة المؤمنة بنفسها.
(٤) ويترجم هذا الإعلان إلى طرد المنقبة من الجامعة، ومن التدريس، ومن شتى مجالات مخاطبة الجمهور، وكذلك كل ملتزم بالسمت النبوي.