للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

السلوك الأمريكي بعد ضربات الثلاثاء المريعة

الدوافع والأهداف

كمال حبيب

المفاجأة التي مثلتها ضربة يوم الثلاثاء ١١/٩/٢٠٠١م وضعت أمريكا بكل

قوتها بالمفهوم الشامل في الميزان، ويذهب المؤرخ الأمريكي المعروف: (بول

كيندي) إلى أن البداية الحقيقية للقرن الواحد والعشرين تم تدشينها بعد الضربات

القاتلة؛ ومن ثم فهذه الهجمات هي حدث فارق في التاريخ الإنساني؛ لذلك ومهما

حاولت أمريكا استعادة توازنها وتأكيد هيمنتها فلن تعود كما كانت قبل انهيار

أكبر رموزها.. البنتاجون مبنى وزارة الدفاع الأمريكية القوة العظمى في التاريخ

البشري، ومركز التجارة العالمي الذي يناطح السحاب، ويمثل عنواناً على

السطوة الاقتصادية والهيمنة المالية المرعبة للرأسمالية الأمريكية بكل جبروتها

وبشاعتها. إن قوة الضربة وجسامتها وخطورتها لم تتمثل فقط في عنفها وقوتها؛

وإنما أيضاً في عدم توقعها وفجاءتها؛ فقد دهمت الهجمات أمريكا من حيث لم

تحتسب أو تقدِّر؛ فكل الهم الأمريكي قبل الضربة كان مركزاً على تحقيق الأمن

المطلق للمواطن الأمريكي ببناء درع صاروخي يواجه أي هجوم محتمل من دولة

خارج الحدود من التي تطلق علىها أمريكا الدول المارقة rough-state؛ فإذا

بالهجوم الكاسح الشرس يأتيها من داخلها، وهو ما لم يعرفه المواطن الأمريكي

المعاصر منذ الحرب الأهلية الأمريكية في أواسط القرن التاسع عشر.

لقد توارت تماماً فكرة القارة الحصينة الآمنة التي يحميها محيطان عظيمان

هما الأطلنطي والهادي، وتحميها القنابل النووية، كما تعرضت الهيبة الأمريكية

للاهتزاز والشك إلى حد اختفاء رئيس الدولة عن العاصمة ذعراً وهلعاً، وبدت

الولايات المتحدة الأمريكية بكل جبروتها في حالة فراغ كامل من السلطة، وكأننا

إزاء مشهد من مشاهد الانقلابات العسكرية في أفريقيا. لقد بدت نيويورك

وواشنطن عاصمتا السياسة والمال وكأنهما مدينتان للأشباح، ولم تكن آثار الضربة

سياسية ومعنوية واستراتيجية فحسب؛ وإنما كان لها آثارها الاقتصادية الهائلة التي

ضربت قطاعات حيوية تمثل عصب الرأسمالية الغربية في الصميم، مثل التأمين،

والطيران، والبنوك، والبورصات، والاتصالات.

لقد جاءت الهجمات الأخيرة لتعيد أمريكا من جديد إلى وضعها الطبيعي دولة

يجري علىها ما يجري على الدول الأخرى من عوادي الأزمان وصوارف الدهور،

ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن أمريكا قبل الهجمات الأخيرة تلبستها روح التأله

والشعور بأنه لا يعجزها شيء [وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ

نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ] (يونس: ٢٤) ، ومن ثم فإن فهم

السلوك الأمريكي الذي نشاهده أمامنا كل يوم في صورة تحركات وقرارات وضغوط

ومساومات وتصريحات وتهديدات لا يمكن أن نفصله عن عمق ما أحدثته الضربة

من تأثير عميق في التاريخ الأمريكي وإلى الأبد.

بيد أن الدافع الأساسي الذي نعتقد أنه يحرك السلوك الأمريكي هذه الحركة

العصبية الواسعة المضطربة يتمثل في الإحساس الأمريكي بأن الهجمة الأخيرة هي

مؤشر لا يمكن تجاهله لتأكيد أن القوة الأمريكية دخلت بالفعل طوراً جديداً من أطوار

بدايات الهبوط والانحطاط. والمتأمل في تاريخ الأمم وصعود القوى وهبوطها سوف

يلاحظ أن بلوغ أي قوة عظمى لمنتهى قوتها يواكبه في نفس التوقيت بدايات حركة

عوامل الضعف فالانحطاط، وهذا في العادة يكون أمراً غير محسوس؛ إذ إن آثاره

قد لا تبدو إلا بعد عقود طويلة؛ لكنه في الحالة الأمريكية يعلن عن نفسه أمام الدنيا

كلها وكأن الله سبحانه وتعالى يذكِّر أهل الأرض جميعاً بأن سننه لا تغالَب، وقدرته

لا تقاوَم، وأن أمره بين الكاف والنون إذا أراد شيئاً فإنه يقول كن فيكون.

سمات السلوك الأمريكي في الأزمة الراهنة:

١ - أهم سمات السلوك الأمريكي التي تؤكد ضعفه ورعونته هي التردد

والتخبط؛ فالرئيس الأمريكي يعلن أن الحرب التي تشنها أمريكا على أفغانستان

وعلى الإرهاب على حد زعمه هي حرب صليبية، وليس الأمر كما يقال هو أن

قصد الرئيس الأمريكي من كلمة صليبية هو التجييش الهائل، ولكن الصليبية تعني

المعنى الحرفي الحقيقي لكلمة الصليب كما عبرت عنها الحروب الصليبية في

العصور الوسطي، فكما يذكر مؤلفا كتاب (الدين والسياسة في الولايات المتحدة) :

«كان منهج الحرب المقدسة أو حرب الصليب هو أحد المظاهر المهمة للمواقف في

الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الحروب، ومصطلح الحرب المقدسة يعني حرباً

مقدسة يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسياً ودينياً» ،

فحين يتعلق الأمر عند الأمريكان بإيجاد تفسير أو معنى للحروب فإن نموذج الحرب

الصليبية يكون هو التعبير الحاضر في الوعي الأمريكي. تراجع الرئيس الأمريكي

بسرعة عن كلمة الحرب الصليبية هو نوع من التخبط، وهو في النهاية حيلة من

أجل عدم إثارة الدول والحكومات الإسلامية التي أرغمها الأمريكان على الدخول

معها في التحالف الدولي ضد أفغانستان المسلمة بزعم محاربة الإرهاب، ومن ناحية

أخرى نجد العنوان الذي اختاره الأمريكان لحربهم الصليبية الجديدة هو: (النسر

النبيل) ثم عادوا واختاروا عنوان: (العدالة المطلقة أو العدالة بلا حدود) لكنهم

تراجعوا؛ لأن العدالة المطلقة هي عند الله سبحانه وتعالى ثم عادوا أخيراً وجعلوا

عنوان حربهم: (الحرية الدائمة) ، ولا نعرف أي حرية يقصدون، ولا لمن تكون

هذه الحرية؟

ومن مظاهر التردد والتخبط الأمريكي إعلان الرئيس الأمريكي ووزير

خارجيته أنهم سيقدمون للعالم أدلة الاتهام ضد ابن لادن حتى تطمئن الدول الإسلامية

الداخلة في التحالف الصليبي ضد عالمها، ثم التراجع عن ذلك بحجة أن نشر هذه

المعلومات سيجعل الحرب صعبة، فكما قال وزير الخارجية الأمريكي: (لا نريد

أن نجعل الحرب أكثر صعوبة مع نشر معلومات تعتبر سرية) . هذا فضلاً عن

التخبط في نشر أسماء لمتهمين مزعومين هم على قيد الحياة يعيشون في بلدانهم

ويمارسون حياتهم ولا علاقة لهم بأي تفجيرات، وكل هؤلاء المواطنين من العرب

في الخليج أو المنطقة العربية. علماً أنه لم يعلن ولو على سبيل الخطأ أي اسم

لمتهم من جنسية غير عربية وغير مسلمة.

٢ - استثارة المخزون الديني الكامن في الثقافة الغربية ضد الإسلام والمسلمين

عبر المقولات التي جرى الترويج لها عقب نهاية الحرب الباردة، مثل مقولات:

نهاية التاريخ، والعدو البديل، والعدو الأخضر، وصراع الحضارات، والتي

تعتبر الإسلام عدواً والمسلمين معادين لقيم الحضارة الغربية ومناهضين لها. وهناك

داخل الولايات المتحدة نوع من هوس العداء ضد الإسلام والمسلمين باعتبارهم

تهديداً لقيم الحداثة الغربية؛ والذي يراجع ما تكتبه الصحف الأمريكية والكتَّاب

الأمريكان سوف يجد ذلك واضحاً جداً، وهو ما يؤكد البعد الديني في الصراع، كما

يؤكد التحيز الكامن في العقل الغربي ضد الإسلام وضد المسلمين، ولسنا نبالغ إذا

قلنا إن أمريكا استغلت هذا التحيز ضد الإسلام، فأسرعت إلى إعلان التهمة ضد

أحد أبنائه وضد دوله دون التحقق من هذه التهمة؛ وأمريكا في هذا تقدم العدو

الإسلامي كبش فداء لتهدئة خواطر مواطنيها، وعودة الهيبة والثقة التي تمرغت في

الوحل بصرف النظر عن صحة الاتهام أو عدمه.

٣ - اعتبار الحرب الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي حرباً بين الخير

والشر، وأن على العالم أن ينضم إلى أمريكا في هذه الحرب، وإلا فإنه مع قوى

الشر والإرهاب؛ فمن ليس مع الخير الذي تمثله أمريكا فهو مع الشر وهو هنا

الإرهاب الذي يمثله المسلمون. وفي الواقع فإن العقل الأمريكي لكي تكون الحرب

مسوغة عنده وعادلة فيجب أن يكون هدفها زيادة الخير وتقليص الشر، وهنا

الحرب العادلة هذه عند الأمريكان تكون حرباً مقدسة وتستبطن في الواقع الدفاع عن

الدين الحق الذي تمثله المسيحية هنا؛ فنظرية الخير والشر والحرب العادلة جذورها

دينية وأرساها في العقل الأمريكي مارتن لوثر وكالفن؛ ومن ثم فالحرب التي

يجري الإعداد لها الآن والتي يصفها كثير من المحللين الأمريكان وعلى رأسهم

(تماس فريدان) وثيق الصلة بدوائر صنع القرار الأمريكي ووثيق الصلة بدوائر

لوبي رجال المال والصناعة الأمريكان بأنها الحرب العالمية الثالثة ليست بعيدة عن

كونها حرباً بين المسيحية والإسلام، أو حرب الخير المسيحي والشر الإسلامي.

٤ - فقدان الهدف وغموض العدو وتمييع المصطلحات ومعلوم أن الأمريكان

واليهود بارعون فيما يطلق علىه الغموض البنَّاء الذي يتلاعب بالألفاظ لكي يلبس

الحقائق ويضيعها؛ لكن من الواضح أن العبارات التي يطلقها كل يوم الرئيس

الأمريكي ومساعدوه تؤكد أنهم عاجزون فعلاً عن تحديد ومعرفة خصمهم، ولذا لا

تسعفهم بضاعتهم اللغوية؛ فكل يوم يخرج الرئيس على الشعب الأمريكي ليفحمه

بخطبة عصماء أشبه ما تكون بمواعظ القسس لكنها لا تحدد من العدو الذي تسعى

أمريكا إلى محاربته هل هو ابن لادن وحده، أم أفغانستان وحدها، أم ستون دولة

تلك التي تعتقد أمريكا أنها تؤوي إرهابيين وفقاً للمفهوم الأمريكي؟ ! وأخيراً انتهى

وزير الخارجية الأمريكي باول إلى القول بأنهم يفرقون بين العملية العسكرية التي

يجري الإعداد لها وهي غزو أفغانستان والقبض على (ابن لادن) وبين الهجوم

الأمريكي الشامل على الإرهاب الدولي والذي يتطلب استخدام وسائل اقتصادية

وسياسية ودبلوماسية.

٥ - عدم التكافؤ الواضح بين القوة العسكرية الجبارة التي حركتها أمريكا

وبين الأهداف المعلنة، كما يبدو عدم التكافؤ الواضح بين الدولة المقصودة بالحرب

وهي أفغانستان وبين أمريكا والحلف الدولي الذي صاغته بالإكراه من ورائها؛ لذا،

ومن منظور نفسي فإن الحركة الضخمة للآلة العسكرية الأمريكية مقصود بها إثبات

الوجود، وتأكيد القوة حتى لا يظن ظان أن القوة العسكرية الأمريكية في حالة

ضعف أو استرخاء.

أهداف الحملة الأمريكية على أفغانستان:

تستهدف الحملة العسكرية على أفغانستان باعتبارها السلوك الأمريكي موضع

الفهم عدة أهداف في تقديرنا، وهي:

١ - القبض على (ابن لادن) حياً أو قتله باعتباره وفق المنظور الأمريكي

المتهم بتنفيذ الهجمات الأخيرة والتي راح ضحيتها وفق التقديرات المعلنة حتى الآن

أكثر من ٦٠٠٠ آلاف أمريكي، وهو ضعف العدد الذي راح في الاعتداء على

بيرل هاربر.

٢ - إسقاط حكومة طالبان الإسلامية التي تمثل قمة التحدي للصلف الأمريكي،

وهو ما يعني رفض قيم التحديث الغربي ونمط الحياة الأمريكي الذي تريد أمريكا أن

تفرضه على العالم كله دون نظر أو اعتبار للخصوصيات الثقافية والدينية بين الأمم،

وهو ما يعبر عنه كيسنجر برفض قيم العالم المعولم. يقول بوش في معرض

تسويغه الحرب ضد أفغانستان: (إن طالبان حكومة قمعية تقهر النساء) ، ولا

نعرف من الذي نصب الرئيس الأمريكي ليكون محامياً عن المرأة الأفغانية؟ !

٣ - بناء تحالف دولي ضد الإسلاميين الذين يمثلون تهديداً لأمريكا تحت

مظلة مكافحة الإرهاب في البداية، ثم استخدام هذا التحالف ضد العالم الإسلامي فيما

بعد وخاصة الدول التي تسميها أمريكا دولاً مارقة أو منظمات إرهابية مثل حماس

والجهاد الإسلامي الفلسطيني على وجه الخصوص دون تمييز بين حق استخدام

القوة لمكافحة المحتل وبين استخدام القوة لمجرد الترويع، وبمراجعة لقائمة

المنظمات والدول والأفراد والجهات التي أعلنتها أمريكا ممثلة للإرهاب من

منظورها أو تلك المتعاونة معها فإنها تشمل جهات خيرية إسلامية ليس لها أي صلة

بالإرهاب المزعوم، كما أن حماس والجهاد على قوائم وزارة الخارجية الأمريكية

باعتبارهما منظمتين إرهابيتين. وبشكل عام فإن العقل الغربي لا يمكنه التمييز أو

التحليل، ومخزونه الثقافي يجعله يرى في الإسلام وحده هو الدين الذي يغذي ثقافة

الإرهاب.

٤ - إعادة رسم الحدود والجغرافيا السياسية لمنطقة آسيا الوسطى لصالح

الشركات البترولية الكبرى التي تتنافس على المخزون البترولي الهائل في بحر

قزوين كما تتنافس على مد خطوط الأنابيب لتوصيل هذا البترول لأوروبا وأمريكا

والعالم الغربي، وتشير التقديرات أن المخزون النفطي الهائل في بحر قزوين يبلغ

حوالي ٢٠٠ مليار برميل، ومعظم الشركات التي لها عقود للتنقيب في المنطقة هي

شركات أمريكية مثل سيفرون، أيكسون، وكوبيل. وليس خافياً أن أباطرة البترول

في أمريكا هم الذين يصنعون حكام أمريكا، وهم الذين يصنعون السياسة الأمريكية

وفق مصالحهم.

٥ - توسيع حدود حلف الأطلنطي شرقاً لمحاصرة الصين وكوريا الشمالية،

وتثبيت مواقع جديدة في منطقة آسيا الوسطي تحاصر روسيا في خاصرتها الجنوبية

ومن المعروف أن الثقل الكوني بدأ يتحرك مؤخراً في آسيا في نفس الوقت الذي

تعاظمت فيه كراهية الوجود الأمريكي في البلدان الآسيوية؛ ومن ثم محاولة استعادة

هذا الوجود في مناطق استراتيجية جديدة.

الخبراء والمراسلون يتحدثون عن القدرة الأمريكية والإرادة الأمريكية؛ لكننا

نعود فنؤكد أن أمريكا لن تعود كما كانت قبل يوم الثلاثاء الفارق الذي تلقت فيه

أمريكا صفعة قاسية ومهينة رغم التقدم الأمريكي، لكن الحرب تظل دائماً معلومة

البداية غير معروفة النتائج ولا النهاية. ونحن نعتقد أن أفغانستان ربما تكون

الأرض التي تشهد للمرة الثالثة هزيمة أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ المعاصر،

وربما تكون بدايات النهوض لعالم المستضعفين [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ

اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] (القصص: ٥) .