للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[قراءة في الموقف الباكستاني ضد طالبان]

السيد أبو داود [*]

أصيب الشارع العربي والإسلامي بالدهشة والغضب من موقف الرئيس

الباكستاني برويز مشرف بالتعاون الكامل مع الولايات المتحدة في حربها المتوقعة

ضد أفغانستان بعد التفجيرات المروعة التي وقعت في نيويورك وواشنطن في

١١/ ٩/٢٠٠١م، ونحن في هذه السطور سنحاول تحليل الأرضية التي اتخذ

الرئيس مشرف على أساسها هذا القرار؛ حيث إن وراء الموقف الباكستاني بُعداً

شخصياً للرئيس مشرف، وكذلك علاقات داخلية ساعدت عليه، وهناك أيضاً أمور

خارجية ضغطت في اتجاهه.

فبالنسبة للعامل الشخصي، فالتكوين العسكري الذي يغلب على الرجل جعله

يسقط من أول مكالمة تليفونية من البيت الأبيض، وغابت عنه العقلية السياسية

والاستراتيجية التي تقلب الأمور وتنظر في الدقائق والتفاصيل، كما أن القرار

ترجمة طبيعية لحالة رجل قام بانقلاب وعطل مؤسسات الدولة، فكان القرار قراره

ولا معقب له ولا ناقد، ولو كان الرجل يحتكم إلى دستور وقانون لأرجأ اتخاذ أي

موقف إلى حين الرجوع إلى مؤسسات اتخاذ القرار والرأي العام بمختلف قنواته.

تعقيدات الوضع الداخلي في باكستان:

الوضع الداخلي في باكستان تحكمه محددات أساسية جعلته وضعاً صعباً معقداً

ربما ضغط على الرئيس مشرف لاتخاذ قراره.

المحدد الأول: هو الانقسامات القومية الشديدة، فهناك أربع قوميات أساسية

موزعة على الأقاليم الباكستانية الأربعة وهي: إقليم البنجاب أكبر الأقاليم

الباكستانية، وتسكنه أغلبية بنجابية، والشيء نفسه بالنسبة لإقليم السند،

وبلوشتسان، وشيستان.

وقد استمد كل إقليم سماته من القومية التي تعيش على أرضه، ورغم مضي

أكثر من نصف قرن على تأسيس باكستان فإن البلاد لم تعرف انصهاراً كبيراً بين

قومياتها في إطار الدولة الجديدة، بل إن زعماء القوميات ينفخون في هذه

الانتماءات القومية لتحقيق المكاسب الانتخابية.

المحدد الثاني: هو مشكلة المهاجرين المسلمين القادمين من الهند التي أضافت

تحدياً جديداً للدولة، وقد نتجت عن الموجات المتتالية من المسلمين المهاجرين الذين

قدموا من الهند على أثر الاضطهادات الواسعة التي تعرضوا لها على أيدي

المتطرفين الهندوس، وما نجم عن ذلك من قتل أكثر من مليون مسلم في ذلك الوقت.

وقد استوطن هؤلاء المهاجرون الذين بلغ عددهم عدة ملايين إقليم السند

المتاخم للهند، وتمركزوا في مدينة كراتشي، وعاشوا مع سكان الإقليم في انصهار

ووفاق، إلا أن الطابع الإثني والقومي الذي توظفه النخبة السياسية الباكستانية كرافد

أساسي في بناء قواعدها الجماهيرية أخذ يتشكل بسرعة في صياغة علاقة متوترة

بين القوميتين، راح على أثرها آلاف الضحايا وسط إخفاق حكومي في احتواء هذه

المشكلة الخطيرة.

المحدد الثالث: هو البيئة الأمية الفقيرة التي تعيش فيها غالبية السكان،

فطبيعة المجتمع الباكستاني طبيعة إقطاعية وطبقية متجذرة، تكشف عن نفسها في

صورة فقر يضرب أطنابه في رقعة واسعة، وثراء فاحش في قلة قليلة، إذ إن ما

يقارب الثلاثين أسرة فقط تسيطر على غالبية الأراضي الزراعية في طول البلاد

وعرضها، والشيء نفسه بالنسبة للجانب الصناعي والتجاري بصورة تنحسر معها

أو تكاد الطبقة المتوسطة، ثم إن هناك حالة أمية تقترب من نسبة ٧٥% من السكان

بما يعنيه ذلك من دلالات سياسية واجتماعية خطيرة.

والمحدد الرابع: هو المشكلة الطائفية الناتجة عن هذا التباين العرقي يضاف

إليها رؤى دينية شديدة التباين، فربما كانت باكستان البلد الوحيد في العالم الإسلامي

الذي يموج بحشد كبير من القوى الدينية المتناحرة.

والمحدد الخامس: هو أن الذي يسيطر على هذه العملية جهاز أمن ليس على

درجة من القوة بل جهاز ضعيف غير قادر على التعامل مع التحديات الأمنية التي

تواجه هذا الواقع المعقد والمتداخل، فهو جهاز مسيّس بمعنى أن كل حكومة تضع

سياسات أمنية تتواءم مع مصالحها، ورجال الشرطة ينفذون ذلك سواء كانت هناك

مسوغات أمنية تقتضي ذلك أم لا، كما يفتقد هذا الجهاز التقنية الحديثة لملاحقة

المجرمين؛ ومن ثم يلجأ كثير من الهيئات والشركات المحلية والأجنبية إلى

الاستعانة بشركات الأمن الخاصة لتأمين مصالحها. وهناك تدفق كبير وتنقل

وامتلاك وتصنيع للأسلحة دون سيطرة تذكر من الدولة خاصة في المناطق الشمالية

الغربية المتاخمة لأفغانستان.

بيئة خارجية غير مناسبة:

إن الوضع الخارجي والإقليمي لباكستان لا يقل توتراً وتعقيداً عن الوضع

الداخلي حيث الأزمة الأفغانية والسباق النووي مع الهند ومشكلة كشمير، أما عن

الأزمة الأفغانية فقد استضافت باكستان أكثر من ٣ ملايين مهاجر أفغاني كما كانت

الراعي والموجه للقادة الأفغان أو ما كان يعرف في حقبة الاحتلال السوفييتي

بزعماء المجاهدين، لكن خروج السوفييت وتغير معادلات القوى الداخلية الأفغانية

أملى على باكستان أن تقيم علاقات تحالف وتعاون غير معلن مع القوى التي يمثلها

البشتون الذين (تمثلهم طالبان ومن قبل حكمتيار) فهم أكبر القوميات، وتعيش

أغلبية منهم في المناطق الشمالية الغربية الباكستانية المتاخمة لأفغانستان، ونتج عن

ذلك أن فتحت القوى الأفغانية الأخرى وخاصة الطاجيك (الذين كان يتزعمهم أحمد

شاه مسعود) خطوط اتصال مع الهند؛ مما أسهم في إيجاد جبهة جديدة معادية

لباكستان أسعدت الهند، وخاصة أن الهند تتهم طالبان بدعم الثوار في كشمير؛

وعليه فيمكن أن يكون اللاجئون الأفغان قنبلة داخل باكستان تسبب الكثير من

المشكلات والمتاعب إن لم يتم التعامل معها بحكمة بالغة.

أما السباق النووي فعلى الرغم من أنه نقطة القوة الوحيدة فإن باكستان

تعرضت بسببه للعقوبات الأمريكية والأحقاد الغربية الإسرائيلية الهندية، وفتح ملفاً

جديداً من المشكلات الإقليمية والدولية لباكستان.

أما المشكلة الكشميرية فقد أخفقت باكستان في حلها عبر هذه العقود،

وأصبحت هي مصدر الأزمات الرئيسية، وقد خاضت باكستان بسببها ثلاث حروب

مع الهند، وفقدت في أعقاب إحداها بنجلاديش التي كانت جزءاً من الأراضي

الباكستانية، وتساهم هذه المشكلة في إضعاف الجبهة الداخلية، فقد نجحت الهند في

بناء علاقات مع عناصر من القومية البشتونية التي روج الكثير من زعمائها

للانفصال عن باكستان باعتبارهم جزءاً من أفغانستان، وتنفيذ العديد من العمليات

التخريبية في باكستان، كما استثمرت الهند الخلافات الإثنية بين كل من حركة

المهاجرين والقومية السندية بكراتشي في تجنيد وتمويل عناصر تخريبية في إقليمي

السند والبنجاب المتاخمين للحدود الهندية.

تغليب السلبيات:

إن الرئيس الباكستاني مشرف غلّب كل السلبيات السابقة فخاف وارتعدت

فرائصه حينما طلبت منه الإدارة الأمريكية أموراً ثلاثة هي:

- السماح للقوات الأمريكية باستخدام المجال الجوي الباكستاني للوصول

لأفغانستان.

- وتوفير معلومات مخابراتية دقيقة عن المعسكرات داخل الأراضي الأفغانية

التابعة لتنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى.

- وتقديم مساعدات لوجستية لتسهيل حركة القوات الأمريكية.

وقالوا له: إما أن تفعل ذلك، وإما أن نستعين بالحلف الهندي الإسرائيلي

لضرب أفغانستان وابن لادن؛ ولن تكون منشآتك النووية بمنأى عن هجماتنا،

فأنت إما أن تكون معنا وتقدم لنا هذه التسهيلات، وإما أن تكون مع طالبان وابن

لادن، وأنت الجاني على نفسك.

نظر مشرف فقط إلى جوانب الضعف لديه، فهل كان معه جوانب للقوة؟

لقد كان مشرف يقف على أرضية الحق والعدل، فكان له أن يحتج بالهوية

المشتركة والمصالح والتشابك والتداخل بين الشعبين، ثم يستند إلى الشارع

الإسلامي الذي بدأ لأول مرة يأخذ موقفاً كاسحاً مؤيداً لطالبان وناقماً على مشرف.

فكل المؤسسات الإسلامية وعلى رأسها شيخ الأزهر، ومفتي مصر، ورابطة

علماء فلسطين، وجبهة العمل الإسلامي الأردنية، وكثير من علماء السنة بالإضافة

إلى غالبية الشارع الباكستاني، كل هؤلاء ضد الموقف الأمريكي ويطالبون بعدم

أخذ الأبرياء بذنب مرتكبي الحادث، وضد اتخاذ أية خطوة إلا بدليل دامغ، واتفقوا

على أن أية دولة مسلمة تتعرض لهجوم وجب على المسلمين جميعاً مناصرتها بكل

ما يملكون، وتحريم مساعدة عدوها وتقديم أية معونات له.

لو اختار الرئيس الباكستاني الموقف المغاير وقال لا. كان سيكسب كل

هؤلاء، بالإضافة إلى أن موقف الدول العربية وإن كان مغلفاً بالخوف من أمريكا فإنه

كاره لغطرستها إذ قررت الضرب بعد ساعة من الهجوم، وقبل أن تبدأ التحقيقات،

حتى في أوروبا هناك مواقف معارضة لأمريكا، وكذلك بدأت بوادر المعارضة ولو

من طرف خفي من بعض جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة رغم الضغوط

والتخويفات الأمريكية.

غليان الشارع الباكستاني:

أصعب موقف اتخذه الرئيس مشرف هو أنه وضع نفسه في مواجهة الشارع

الباكستاني، فكل الجماعات والفصائل الإسلامية الباكستانية على اختلاف مشاربها

وأفكارها اتخذت موقف الوقوف بشدة ضد من يستهدف أفغانستان التي يعتبرونها

جزءاً من الهوية والثقافة الدينية الإسلامية، ويقف معهم بعض الأحزاب والقوى

الوطنية الأخرى متوعدين مشرف بسلسلة من المظاهرات والاحتجاجات

والاضرابات في كل المدن والضواحي، مطالبينه بعدم خرق وانتهاك السيادة

الوطنية والدينية لباكستان، معتبرين أمريكا ستتفرغ بعد ذلك لضرب باكستان بعد

أن تقوض طالبان وتفرض حكومة أفغانية أخرى لن تربطها علاقة صداقة وود مع

باكستان لتتكفل بحفظ المصالح الأمريكية في المنطقة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الأحزاب الدينية الباكستانية يساندها مئات الآلاف

من طلاب المدارس الدينية غير النظامية رفاق طالبان، وهؤلاء يمكن أن يقودوا

حالة من العصيان المدني أو الانفجار الشعبي قد تطيح بمشرف أو تضغط على

الجيش للتدخل والإطاحة بمشرف كما أطاح هو بنواز شريف.

العجيب أن الحكومة والجيش في باكستان يراقبون تحركات الأحزاب

والجماعات الدينية، ويقف معهم خمسمائة صحفي غربي جاؤوا لمراقبة الإسلاميين

ووحش الإرهاب الإسلامي، وضد الشارع الباكستاني تقف النخبة السياسية العلمانية

ومعها من تم صياغتهم على المفهوم الغربي، من هؤلاء وقف أحد المسؤولين

الحكوميين يقول: «لا مناص من خسائر لباكستان ولكن الخلاف ينصب على

حجمها؛ فالإصابة بجرح أفضل من القتل، والجرح نعرف حجمه ثم نتعافى منه،

وهو أفضل من عاهة مستديمة» .

وهذه هي البراجماتية النفعية التي دائماً يستخدمها العلمانيون، ودائماً تكون

ضد مصلحة الأمة، والحمد لله الذي جعل مصالح أمة محمد لا تتحقق إلا بالالتزام

بالشرع ولا يفيدها الانتهازية والنفعية، بل تفسد قضاياها على طول الخط.

إن الرئيس مشرف يقول: إن باكستان أولاً، وإنها فوق طالبان وابن لادن.

ونحن قد نوافقه في ذلك لو كان فيه خير لباكستان، ولكنه للأسف فيه السم الزعاف،

لقد تقدمت مجموعة من الزعامات والقوى الدينية والسياسية في باكستان باقتراح

يطالب أطراف النزاع بأن توافق على تسليم ابن لادن لجهات محايدة مثل مجلس

التعاون الأوروبي، أو مؤتمر العالم الإسلامي لمحاكمته أمام محكمة دولية محايدة،

وعلى رأس المجموعة الدكتور طاهر القاوري قائد الحركة الشعبية وإحدى أهم

الأحزاب الدينية الصوفية، وأجمل ختك قائد الحزب القومي الشعبي (اليساري) ،

وكبير علي واسطي من الزعامات السياسية، والجنرال حميد جول الرئيس الأسبق

للمخابرات الباكستانية، وهذا خيار لن يجدي أيضاً؛ لأن أمريكا لن تسمح به

ومشرف لن يملك الشجاعة لقبوله.

لعبة استراتيجية:

إن جانباً كبيراً من الحركة الإسلامية الباكستانية تدرك المعادلة الاستراتيجية

الصحيحة التي لم يدركها الرئيس مشرف؛ وهي أن أمريكا تريد التخلص من

طالبان وزرع حكومة عميلة برئاسة ظاهر شاه تكون عدواً جديداً لباكستان ليكمل

الخناق عليها مع الهند، ولتكون الحكومة الأفغانية الجديدة شرطياً أمريكياً يحافظ

على مصالح أمريكا والغرب، ووقتها سيدرك مشرف أنه أخطأ في رسم المستقبل

السياسي والديني لبلاده، ولكن ذلك سيحدث بعد فوات الأوان، كما أن أمريكا ما

تزال تضع باكستان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب باعتبار مساعدتها السابقة

لطالبان والمجاهدين الأفغان من ناحية ثم دعمها لفصائل المجاهدين في كشمير،

ودعم باكستان للتحركات الأمريكية معناه خسارتها لحليفها الاستراتيجي ومساعدتها

في إيجاد عدو لنفسها.

إن كثيراً من الإسلاميين في باكستان يعتقدون أن باكستان يراد لها أن تقع في

حرب أهلية (مثل الوضع في لبنان والجزائر) حيث يشتعل فيها الصراع الطائفي

والعرقي بمساعدة جهات أجنبية، وأن ذلك سيكون بداية لتنفيذ مخطط إزالة باكستان

من خريطة المنطقة الجنوب آسيوية الذي يتوقع أن يتم في عام ٢٠١٠م حسب

الدراسات التي أعدتها جهات غربية، مع تزايد المخاوف من أن باكستان ستسقط في

أيدي الإسلاميين خلال السنوات الخمس القادمة مع امتلاكها للقدرة النووية؛ مما

يجعل هذا السلاح أمراً خطيراً ومتاحاً للغول الإرهابي الإسلامي الذي سوف ينتشر

ساعتها في مختلف البلاد الإسلامية حيث سينتقل إليها الحكومة الباكستانية وقتها هذا

السلاح النووي، وفي ذلك خطورة كبيرة على إسرائيل والغرب نفسه.

إزاء ذلك كله يفكر الغرب في ضربة قاصمة لباكستان بطريقة أو بأخرى قد لا

تقل ضراوة عن ضربة أفغانستان المحتملة ولكن بعد اتخاذ باكستان معبراً ومعيناً في

القضاء على طالبان، كما أن الهند لن تقف مشاهدة وربما استغلت أجواء التوتر

التي تعيشها باكستان ووجهت لها ضربة قوية بمساعدة حليفتها إسرائيل، وبمعونة

أمريكية أوروبية.

بقي أن نشير إلى أن هناك نقطة على جانب كبير من الأهمية، وهي مناطق

القبائل المتاخمة للحدود الأفغانية في شمال غرب باكستان التي تعد شبه حرة وغير

منزوعة السلاح بل يتم فيها صناعة السلاح وتداوله على أوسع نطاق، ويبلغ عدد

سكانها حوالي ٢٥ مليون نسمة، وتشترك مع القبائل البشتونية الأفغانية في اللغة

والدين والعادات والتقاليد والتاريخ، هذه القبائل منحازة كلية لأفغانستان وطالبان،

وتعيش حالة استعداد كامل للمواجهة الأمر الذي دعا الحكومة الباكستانية حشد قوتها

العسكرية في هذه المناطق.

وهو ما قد يفتح الباب على مصراعيه للعنف والتمرد، وهذه كلها أمور

باكستان في غنى عنها.


(*) كاتب وصحفي من مصر.