للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

لماذا لا يحتفل المسلمون عام ٢٠٠٠م

بإخفاق أشرس غارة صليبية على أفقر بقاع الإسلام؟ !

موسى شداد الطارقي [*]

منذ قرابة ثلث قرن أعدت المجامع الكنسية العالمية برئاسة الفاتيكان خطة

مدروسة لتنصير مسلمي القارة الإفريقية مع حلول عام ٢٠٠٠ م.

ولقد أعد لهذه الغارة الصليبية من الإمكانيات المادية والمعنوية ما لا عين رأت،

ولا أذن سمعت.

وعلى سبيل المثال لا الحصر خصصت لها ميزانية مالية قاربت ٢٠٠ مليار

دولار، أما المنصرون الأجانب والمحليون فلا تسل عن أعدادهم. كما أن الأجهزة

والوسائل السمعية والمرئية والأرضية والجوية فحدث عنها ولا حرج.

كان المخططون والمنفذون يُقْسِمون بأربابهم ولا يستثنون على أنهم سينصِّرون

القارة الفقيرة عامة ومسلميها خاصة مع حلول عام ٢٠٠٠ م، وجاء الموعد وبدأ

الغزاة يطوون أوراق وملفات غارتهم المترنحة.

وكانت الخسائر المادية مذهلة بحق؛ يعترف بذلك قادة الحركة ومخططو

الغارة جهاراً ووراء الكواليس. نعم لم يجن المنصِّرون من تلك المليارات الكثيرة

والأجهزة العديدة سوى خيبة الآمال وضياع الجهود وخسارة الأموال.

ونعتقد أنه لولا سياسة النفس الطويل التي يتبعها المنصِّرون في غارتهم على

العالم الإسلامي، وكثرة إمكانياتهم المادية، والتأييد والدعم الكبير الذي يجدونه لدى

الأنظمة الحاكمة هنا وهناك لما فكروا في العودة إلى هذه القارة التي ظنوها لقمة

سائغة فإذا هي غصة قاتلة.

حقائق ملموسة عن إخفاق الغارة:

المراقبون لهذه الغارة يعترفون بأن تكاليف تنصير مسلمي إفريقيا يكلف

المنصرين مئات الملايين إن لم يكن قرابة مليار، وعلى من يشك في هذه الحسابات

مراجعة الميزانيات التي خصصت لكافة الهيئات التنصيرية والعاملة تحت إدارتها

في صحراء مالي فقط أي في الأقاليم الشمالية من مالي (كيدال، تمبكتو، وغاوو)

من بداية الغارة عام ١٩٧٣م إلى عام ٢٠٠٠م، وعند معرفة المبالغ المصروفة

في تلك المدة والمقارنة بينها وبين عدد المرتدين من الطوارق (البيض والسود)

في الأقاليم الثلاثة المذكورة والتي تعرضت للغارة أكثر من غيرها في عموم دولة

مالي عند ذلك يدرك المرء أن تنصير فرد واحد يكلف مبالغ

ضخمة جداً.

أما أنا ابن المنطقة فأستطيع أن أؤكد للقارئ الكريم أن عدد المرتدين من

الطوارق البيض فقط لا يتجاوز الخمسة. ولكيلا يشك القارئ فإني أضطر إلى ذكر

أسمائهم هنا: زودا أغ دوهو، ومحمد أغ إبراهيم من قبيلة إدنان من تاركينت بين

غاوو وكيدال، وهما الآن يعملان برتبة قساوسة، ثم ظودا من قبيلة إمغاد منكا،

وموسى من قبيلة ذوي إسحاق منكا، والخامس هو حفيد نوتنوت من «كل» تنصر

في غوس، وهو مترجم الإنجيل إلى اللغة الطارقية.

أما الطوارق السود فقد تنصر منهم العشرات في إقليمي «غاوو، وتمبكتو» ،

ومن رؤسائهم «سبدج أغ اليغي» وكان أبوه كاهناً ولا يحسب على الإسلام. أما

إقليم «كيدال» فلم يتنصر منه أحد أبداً، وحاكم المنطقة التقليدي «انتالا أغ

الطاهر» كان على رأس حكام الطوارق الرافضين للحركة التنصيرية في بلاده،

وقد حاول المنصرون بناء كنيسة في بلده «كيدال» عدة مرات في الجمهورية

الأولى والثانية والحاضرة، فرفض رفضاً باتاً بناء كنيسة في بلده.

هذه حقائق واقعية ولا يستطيع أي منصر تفنيدها بحال من الأحوال.

أهم أسباب إخفاق الغارة الصليبية على إفريقيا:

أعتقد أن السبب الأول والأخير هو إرادة الله سبحانه وتعالى الذي حفظ دينه

وعباده من كيد عبّاد الصليب الأقوياء كما حفظهم منهم سابقاً في أزمنة وأمكنة

مختلفة.

بعد هذا أذكر بعض الأسباب البشرية التي كانت مؤثرة بحول الله وقدرته:

أولاً: عراقة الدين الإسلامي في كثير من بقاع القارة وعند العديد من شعوبها

المسلمة.

ثانياً: انتشار الصحوة الإسلامية لدى السود من مسلمي القارة منذ عقود من

الزمن، واستغناء الكثير منهم عن مغريات وجنة المنصرين، وبعبارة أقصر،

وجود نوع من المناعة والحصانة لديهم ماديًا ومنعوياً.

ثالثاً: من الثابت والمشاهد أن النصارى الأفارقة أنفسهم في تناقص مستمر

في ساحل العاج وبوركينا فاسو وغانا وغيرها من دول القارة؛ بسبب اعتناق

الكثير منهم للإسلام، وهجرهم لدين التثليث لمصادمته للعقل في عقيدة التثليث.

رابعاً: المسلمون البيض سكان الصحراء من الطوارق والعرب والفلان لم

تنجح الغارة الشرسة في تنصيرهم رغم الجهود الجبارة التي قامت بها الإرساليات

التنصيرية في أوساطهم مدة عشرات السنين؛ ويرجع السبب إلى عراقة الدين

عندهم، وإن كان قد شاخ الآن وتقوس ظهره ويحتاج إلى التجديد.

خامساً: قيام الحركات والثورات الإفريقية ضد النظم القديمة الحاكمة للقارة؛

مما جعل أكثر الهيئات التنصيرية تلملم أمتعتها هاربة من الموت وتاركة القارة

لأهلها يعيشون فيها بسلام من شرور التنصير في السنوات العشر الأخيرة من القرن

العشرين.

واليوم نسمع من الوسائل السمعية والمرئية والمقروءة الصليبية أن هناك خطة

جديدة تبدأ من عام ٢٠٠١م إلى عام ٢٠٢٥م أعدت لها المجامع الكنسية برئاسة

الفاتيكان كل الإمكانيات؛ ونقول لهم: [وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ]

(سبأ: ٥٤) .

يعيدون الكرّة بعدما لم يفلحوا في المرات السابقة، وعلينا نحن أن لا نتجاهل

خطر العدو، وأن نواجهه بما يستحق ليهزمه الله كما هزمه سابقاً: [إِن تَنصُرُوا

اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: ٧) .

من أين جاء الدعم المادي والمعنوي لمسلمي القارة؟

وقف عُبَّاد الصليب جميعاً وراء حملتهم الصليبية الماضية لتنصير مسلمي

أفريقيا مع عجز المسلمين عن دعم إخوانهم؛ فالحق أن نصرتهم لإخوانهم

المستهدفين محدودة ومقصورة على عدد من الأقطار العربية الإسلامية لا يتجاوز

أصابع اليد.

نعم! عدد قليل من الأقطار العربية الإسلامية التي قامت بواجبها الإسلامي

تجاه إخوانهم المنكوبين والمغزوين ممثلة في دعم الدعاة المنتشرين في طول القارة

وعرضها والمنح الدراسية التي تقدمها لأبناء القارة والمساعدات المادية والمعنوية

التي قدمتها لكافة الأنشطة الإسلامية ومن بينها كفالة مئات المدرسين الأفارقة

لتدريس اللغة العربية.

أخي المسلم: لا تصدق أقوال المنصرين!

قد يندهش قراء الصحافة التنصيرية عندما يقرؤون فيها أرقاماً مذهلة عن

أعداد الأفارقة والمسلمين المتنصرين في السنوات الأخيرة من عمر الحملة، وهي

أرقام وهمية لا أساس لها من الصحة والحقيقة التي يجهلها الكثير من المسلمين هو

أن لدى الحركة التنصيرية في كل مكان وسائل عديدة للتنصير: كالتعليم والتطبيب

والأعمال الاجتماعية وغيرها من الوسائل، ولقد استغل المنصِّرون تلك الوسائل في

السنوات الأخيرة أسوأ استغلال لإثبات ترهاتهم وأكاذيبهم التي أرادوا بها التغطية

على الهزيمة الفادحة لغارتهم الصليبية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد أن لوائح أسماء المرضى، والطلاب،

والأساتذة، ونزلاء بيوت الطلبة، ورواد الأندية الرياضية، ودور الضيافة،

وملاجئ المرضى والمنكوبين، ودور اليتامى وغيرها، كل هذه اللوائح ترسل

باستمرار إلى الفاتيكان والمجامع الكنسية في أوروبا وأمريكا على أن ما تحويها قد

أصبح في عداد أهل الصليب، ومن مكاسب الغارة الصليبية. والذي يشهد به

الواقع هنا أن الحقيقة من هذا الادعاء لا تساوي ٥%؛ إذ ليس كل من يدخل عيادة

أو مستشفى صليبياً يعلن ارتداده وتنصره، ولا كل من يدرس في مدرسة مسيحية

يصبح مسيحياً ولا كل من لعب الكرة في ملاعب النصارى يصبح نصرانياً. وعلى

هذا نقول لإخواننا البعيدين عن الميدان: لا تقلقوا ولا تصدقوا ما تقوله لكم جرائد

التنصير وإذاعاته؛ فهو أكذب من الشيطان.

ونحن هنا ندرك أن المسلم البعيد عن الميدان يجهل الواقع وقد يتألم أشد الألم

عندما يقرأ تلك اللوائح في الصحافة الصليبية على أنها أسماء إخوانه المسلمين الذين

ضمهم الصليب إلى حظيرته، ونقول لهؤلاء الإخوة في الإسلام: اطمئنوا؛ فالعدو

لم يجن من جهوده الجبارة سوى الخيبة والإخفاق.

لطمة قوية في جبين التنصير الدولي من كف أجوع أمة مسلمة على وجه

الأرض:

منذ عقدين ونيف من الزمن شهد سكان صحراء مالي (غاوو) ظهور أخبث

إرسالية تنصيرية في أفريقيا وتدعى الرؤية العالمية (فزيون مونجيال) ، وقد

ظهرت تلك الإرسالية بثوبها الصليبي الصحيح؛ فهي لا تعرف المداهنة ولا سياسة

احترام مشاعر الناس.. إنها صريحة. وسياستها مبنية على كلمتين لا ثالث لهما:

(تنصر، وخذ) تلك هي سياستها المكشوفة والتي عرفها بها الصغير والكبير

والعاقل والسفيه على حد سواء؛ فكانت من نتيجة تلك السياسة الخاطئة أن سخر

منها الناس وتندروا في مجالسهم بأخبارهم وسفاهتها وتصرفاتها الحمقاء المخالفة

لأدنى قواعد الحكمة والتعقل ... وهذا ما جعلها من أخسر الإرساليات المسيحية

العاملة في الصحراء رغم كونها من أنشطها وأغناها على الإطلاق.

وفي خلال تلك السنة المجدبة الصعبة على أهل الصحراء وبالتحديد في العشر

الأوائل من شهر محرم من عام ١٤١٩هـ صممت تلك الإرسالية على استغلال

معاناة المسلمين ودفعهم إلى التنصُّر، والرافض طبعاً سوف يحرم مما يقدمونه من

المساعدات والإغاثات.... وتنفيذاً لخطتها عزمت على إقامة حفلة ليلية لدعوة سكان

البلدة إلى اعتناق دينها وتعليق صلبانها بعيداً عن التعقل والحكمة، وبدون مراعاة

واحترام لمشاعر المسلمين ظناً منها أنها الفرصة التي لا تعوض.. وعندما شعر

عقلاء ووجهاء البلدة من السود والبيض بما عزمت عليه تلك الإرسالية أرسلوا إليها

تحذيراً شديد اللهجة بعدم القيام بدعوة سفهائهم وفقرائهم إلى اعتناق النصرانية في

هذا الظرف العصيب؛ غير أن القساوسة المتهورين تجاهلوا هذا التحذير، وأقاموا

ليلتهم ولم يتركوا عبارة استفزاز إلا قالوها أو فعلوها.

وفي صبيحة الثلاثاء ٢/١/١٤١٩هـ تحركت الجماهير المسلمة الغاضبة نحو

دار الحاكم الرسمي يتقدمهم العلماء ورؤساء البلدة؛ وعندما قابلوه طلبوا منه إيقاف

تلك الإرسالية عند حدها، ثم عادوا فوجهوا إليها تحذيراً آخر عن طريق الحاكم

غير أنها تجاهلته وضربت به عرض الحائط بدعوى أن لديها أمراً رسمياً يجيز لها

دعوة الناس إلى دينهم متى وأينما شاؤوا.

وفى الليلة التالية عادت لإحياء ليلة أخرى، وأعدت كل الوسائل اللازمة

لتنفيذ الحفل، وبدأ الحفل بأقوال استفزت مشاعر المسلمين، وعندئذ نفد صبر

الجماهير المسلمة، وهجموا على الحفل، وضربوا كل من وقع بين أيديهم من

عمالها، كما كسروا وأحرقوا كنيستها وممتلكاتها، والتجأ بعضهم إلى الحاكم

وبعضهم الآخر هربوا إلى الصحراء؛ لأنهم من المواطنين المرتدين؛ وبهذه الحادثة

سلمت مدينة «منكا» من خطر التنصير في تلك السنة الصعبة.

وهنا نقول لمدينة «منكا» الصحراوية المسلمة الجائعة: مثلك فلتكن المدن

والقرى المسلمة المستهدفة، ولا غرو أن يكون منك ما كان؛ فأنت مدينة أحفاد

يوسف بن تاشفين، وأذكيا محمد، وعاصمة إمارة الأمازغيين الأبطال (إو يلمدن)

سادة الصحراء منذ القرن السادس عشر الميلادي. لا غرو أن يكون منك ما كان؛

فكل من يعرفك يعرف أن على ثراك التقى العز والفقر، والسؤدد والجوع،

والشموخ والبساطة، والإباء والعوز، وعراقة الدين وأصالة التقاليد الراسخة

رسوخ الجبال الشامخات؛ فمن يعرفك يا مدينة فهر بن الأنصار لا يستبعد أن

تعطي درساً في الإباء والشجاعة لكل غاز معتد يريد أن يسلبك عزك ومجدك

الموروث.

أما (فزيون مونجيال) التي استخدمت كافة الوسائل الدنيئة للتغرير بأبناء

وسفهاء وفقراء المسلمين في هذه السنة الصعبة التي لا يصدق من يرى أهالي بلدة

«منكا» خاصة والصحراء عامة بأنهم سيصبحون إن أمسوا ... أو يمسون إن

أصبحوا ... من شدة المعاناة؛ فلتأخذ درساً جراء استفزازها وتحديها لمشاعر

المسلمين، ولتعلم أيضاً من اليوم فصاعداً أن ليس هناك مسلم صحيح العقيدة

والنسب يبيع دينه الإسلامي بعرض من أعراض الدنيا إلا هيان بن بيان.

خلاصة القول أن الإرسالية المسماة (الرؤية العالمية) نالت جزاء تهورها،

وكان الجزاء صفعة قاسية على جبينها من كف أفقر وأجوع أمة مسلمة في القارة

السوداء، وبذلك علمت بأن المسلم الصحيح الإيمان لا يمكن أن يبيع دينه بدنياه ...

وإن كان على الرمق الأخير من الجوع.


(*) داعية من مالي من قبيلة الطوارق، مقيم في الصحراء الكبرى.