للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[من يمثل «الموقف الإسلامي الصحيح» ؟]

للمرة الثانية خلال عقد واحد تسقط الأمة في هاوية اختلاف عميق على جميع

مستوياتها بسبب حدث من الأحداث، وللمرة الثانية في حيز زمني لا يزيد عن

عشر سنين تجد الأمة نفسها مفتقدة حيال أزمة واحدة لوحدة الكلمة والرأي؛ فضلا

عن وحدة الهدف والوسيلة.

كانت المرة الأولى عندما وقعت أزمة الخليج الثانية التي قسمت الأمة بشعوبها

وحكوماتها وعلمائها ودعاتها ومثقفيها إلى شطرين متضادين في الرؤية، ومتناقضين

في التقويم ومختلفين في الموقف، ولعل تفاصيل ذلك لا تزال في الذاكرة الجمعية

دون أن تنسخ أو تنسى. ومن أبرز الظواهر العالقة في الذهن حول المواقف من

تداعيات ذلك الحدث وقتها هو شيوع التساؤل لدى عامة الناس في أنحاء العالم

الإسلامي بعد تنافر الآراء: «من يمثل الموقف الإسلامي الصحيح» ؟ فقد كان

هؤلاء الناس يسمعون من أهل العلم والفتوى، فضلاً عن غيرهم آراء تتخالف إلى

حد التضارب أوجدت نوعاً من الشقاق على مستوى الجماعات والشعوب.

لن نعيد الكلام هنا بداهة عن تلك المعمعة الفكرية التي شوهت ما تبقى من

مظاهر الوحدة الشكلية للأمة وقتذاك، ولكن نتجاوزها إلى هذه القعقعة الجديدة التي

حقنت أمتنا في صميم شرايينها بمادة خلافية جديدة، ستظل تسري في العروق إلى

حين، نرجو أن يكون إلى أمد لا إلى أبد.

فها نحن أمام وقائع تتوالى منذ أحداث سبتمبر في أمريكا، يتكرر بشأنها

السؤال نفسه كلما تباينت الآراء: «من يمثل الموقف الإسلامي الصحيح» ؟ !

لقد برز عدد من المستجدات والتفاعلات تعددت بشأنها الرؤى، واختلفت

لأجل ذلك المواقف، وتناقضت الفتاوى. وأطل من بين الركام عدد غير محدود من

علامات الاستفهام والتعجب التي تحوَّل بعضها إلى علامات استهجان وترقب،

تتجمع كلها محاوِلة تكوين جملة مفيدة تجيب عن السؤال الكبير: «أين الحقيقة» ؟

إنه سؤال واحد يتكرر بصيغ متعددة: حيناً بلسان المقال، وأحياناً بلسان

الحال، ثم لا يلبث جمهور المسلمين أن يُخلد إلى التناوم أو التناسي هرباً من

ضغوط الإحباطات والصدمات من جرَّاء التعارض والتناقض بين ما يسمع وما يرى.

إننا ومنذ وقعت أحداث أمريكا وما تلاها من أحداث في أفغانستان وباكستان

نجد الجميع يتكلمون بتنديد أو تأييد، ولكن يبقى أن كلام الجميع غير ملزم للجميع،

فلْيتكلم من شاء بما شاء؛ فسوف يواجه بسؤال يُقذف عليه من كل جانب: «هل

أنت تمثل الإسلام» ؟ !

تأمل معنا هذه المواقف المعلنة باسم (الموقف الإسلامي الصحيح) في عدد

من القضايا والأحداث في الفترة الأخيرة، لتكون على ذكر بمدى الخطر المحيق

بالأمة بسبب اختلاف الكلمة بين علمائها ودعاتها، دعك من مفكريها ومثقفيها:

- فبدءاً من أحداث نيويورك وواشنطن التي تنوع بشأنها الخلاف إلى حد

التضاد، جاءت مسألة الاستجابة للمطالب الأمريكية المفروضة على حكومة

أفغانستان قبل الحرب بشأن تسليم المطلوبين لأمريكا بلا قيد أو شرط! وقبل أن

تثبت التهمة، لقد رأى فريق أنه كان على الحكومة الأفغانية وقتها أن تستجيب

للطلب الأمريكي ارتكاباً لأخف الضررين، ولإخراج الأمة كلها من محنة عامة.

بينما رأى آخرون أن تلك الاستجابة لو وقعت لكانت إهانة وخيانة للأمة الإسلامية

وتضحية بمبادئها التي تحرِّم وتجرم تسليم المسلمين للكفار في قضية يمكن إجراء

التقاضي بشأنها في إحدى بلدان العالم الإسلامي القريبة من ستين دولة.

- وعندما قبلت حكومة طالبان التحدي الأمريكي المعلن بالحرب الصليبية مع

انعدام التكافؤ بين القوتين؛ برزت آراء علماء تكلموا باسم الموقف الإسلامي

الصحيح تقول إن الإقدام على دخول تلك الحرب سيكون بمثابة تضحية بالشعب

الأفغاني وتفريط في مكاسب حكومته، وتعريض لجيشها ودولتها للتدمير وشعبها

للتشريد والتهجير، بينما رأى آخرون كثيرون من أهل العلم أن الحركة على

صواب فيما فعلت، وأن في الإسلام شيئاً يمثل ذروة سنامه اسمه الجهاد، وأن على

المسلمين جميعاً أن يكونوا مع المعتدَى عليه ضد المعتدي، وقالوا: إذا سلمنا

لأمريكا بما تريد في أفغانستان فعلينا أن نسلم لروسيا بما تريد في الشيشان، وللهند

بما تريد في كشمير، ولليهود بما يريدون في فلسطين.

- وعندما شرع التحالف الشمالي المعارض في عرض خدماته على أمريكا،

كان هناك رأي وهو الغالب بين الآراء أن ما أقدم عليه التحالف الشمالي هو خيانة

لله ورسوله والمؤمنين، مع أن كثيراً من أصحاب ذلك الرأي كانوا لا يرون شرعية

لما قامت به طالبان من قبول المواجهة، بينما ذهب آخرون وباسم الموقف

الإسلامي الصحيح أيضاً بتصحيح موقف تحالف الشمال باعتبار أن في ذلك إنقاذاً

لأفغانستان من مصير مظلم على يد حكومة طالبان، وباعتبار أن طالبان في رأيهم

هي التي بدأت فصائل الشمال بـ (الخروج) عليهم وشق عصاهم، مع كونهم

ولاة الأمر الشرعيين في البلاد؛ بدليل أن أكثر بلدان العالم الإسلامي كانت لا تزال

تعترف بحكومتهم!

- ثم ثارت الأحداث في باكستان تفريعاً على ما حدث في أفغانستان، فاختلفت

الآراء حول موقف الحكومة الباكستانية من المشاركة في ضرب الحكومة الأفغانية

تحت الغطاء الأمريكي. لقد رأى بعضهم باسم العلم والدين أن موقف الحكومة

الباكستانية كان حكيماً، أو هو على الأقل موقف يأخذ حكم الاضطرار؛ لأن البديل

كان تعريض باكستان لخطر الحرمان من سلاحها النووي على يد الأمريكيين أو

الإسرائيليين، ورأى آخرون أن الموقف الباكستاني الرسمي كان مداناً إلى حد

الخيانة؛ لأنه يأخذ حكم التولي الظاهر للكفار ضد المسلمين في عدوان صريح،

وعدوا لذلك هذا الفعل من أفعال الردة، وإن لم يحكموا بذلك على الأعيان.

- وتكررت أزمات أخرى في باكستان، بعد التصعيد الهندي للحرب ضدها،

بعد حادثة البرلمان الهندي التي اتهم فيها إسلاميون من كشمير، وأصبح مطلوباً من

باكستان أن تفعل ما سبق أن طُلب من أفغانستان: تسليم المطلوبين المتهمين بلا

بينة ولا دليل، إضافة إلى قائمة من المطالب الهندية المضافة للمطالب الأمريكية

بضرب الحركة الإسلامية في باكستان، واعتقال زعمائها وتجفيف منابعها وإغلاق

مكاتب المجاهدين الكشميريين وحل جماعاتهم، وهنا تكررت المواقف نفسها

لتتحدث باسم «الموقف الإسلامي الصحيح» : ماذا يملك «مشرف» أن يفعل

غير ذلك، إنه مضطر! فأجابهم الآخرون: وهل لا تجوز التضحية في كل مرة إلا

بالإسلام وأهله..؟ ! إنه ليس اضطراراً، ولكنه الفرار أمام زحف الكفار من دولة

تملك سلاح الردع النووي، فما فائدته إذن؟ !

يستطيع المراقب أن يرصد مثل تلك التناقضات الحادة في عدد كبير آخر من

القضايا التي تفاعلت في الآونة الأخيرة قبل أحداث أفغانستان وبعدها؛ فقد حدث

التضارب في الآراء بشأن واقعة تحطيم أصنام بوذا، وثار لغط عندما أعلنت فتاوى

بشأن جواز التبرع بالدم للأمريكيين المصابين في واشنطن ونيويورك، وجرى

اختلاف في مسألة تجويز قتال الأمريكي المسلم إخوانه المسلمين في أفغانستان أداءً

لـ «واجب» المواطنة! أو نحو ذلك.

أما قضية المسلمين الأولى في فلسطين، فكأنها كانت وليدة الأمس القريب؛

حيث تخالف الناس في قضايا عديدة بشأنها، بدءاً من اعتبار اليهود المدنيين أعداء،

ومروراً بجواز الاعتراف بدولتهم والتطبيع مع عصابتهم وعقد الصلح الدائم معهم،

وانتهاء بحكم الأعمال الجهادية التي تستلزم التضحية بالنفس ضدهم، والتي

أسماها بعضهم (انتحارية) ! وعدها آخرون (استشهادية) .

إن ما مثَّلنا به من وقائع قد يكون أكثرها سياسياً لكنه لا ينفي وجود العشرات

من مسائل النوازل في مجالات أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية وتعليمية، فضلاً

عن المعضلات الناشئة عن الشبهات الاعتقادية، وكل هذا يحتاج إلى صفوة تنظر

للأمة بمجموعها فيما يصلح شأنها.

وهنا لا بد أن نعترف أن من يدلون بآرائهم علانية في أكثر هذه القضايا قلة

قليلة من أهل العلم والفتوى، أما الكثرة الكثيرة إلا من رحم الله فهي تؤثر الصمت،

وتسكن إلى السكوت.

لمن تسمع الأمة إذن؟

إن الجميع من المنسوبين للعلم وطلب العلم في بلدان العالم الإسلامي يمكنهم

التحدث في تلك القضايا، ولكن أحداً لا يسلِّم لأحد، ولا جهة تسلم لجهة، ولا

جماعة تسلم لجماعة بأن له، أو لها، أو لهم الحق الأخير بالكلام في شيء من ذلك.

- فإذا تكلم الحكوميون وجدوا من يقول لهم: مَنْ تمثلون؟ هل تمثلون

الأنظمة والحكومات؟ ! لا حاجة لنا بكم؛ لأنكم لا تستطيعون قول كل ما تعلمون

ولا يمكنكم الجهر بما تقتنعون؛ ولهذا كانت آراؤكم في مثل تلك المسائل تفتقر إلى

ركن مهم في الفتوى وهو حرية من يفتي ... أنتم لا تمثلون في هذه المسائل الموقف

الإسلامي الصحيح!

- وإذا تكلم المستقلون أو شبه المستقلين، قيل لهم: من أوكلكم بالفتوى التي

لا يُسمح بها إلا لمن أذن له بذلك من أهل الدراية بما يدور في الخفاء، ولا يطلع

عليه إلا الرسميون القريبون من الساسة، والجديرون بشمول الرأي ودقة النظر،

إن فتاواكم لا تمثل الموقف الإسلامي الصحيح!

- وإذا تكلم الدعاة وطلاب العلم في حال سكوت هؤلاء وهؤلاء، قيل لبعضهم

من أعطاكم حق الفتوى وأنتم لم تتأهلوا لها ولم تصلوا لدرجتها، ولم تعطوا

منصباً يخوِّلكم بالكلام في الأمور العظام؟ ... أنتم أيضاً لا تمثلون الموقف

الإسلامي الصحيح!

- وإذا تكلم مفكرون ومنظِّرون من غير أهل العلم أو طلبة العلم، كان الرد

السابق عليهم أبلغ، والمأخذ عليهم أقرب؛ لأنهم ليسوا من المتخصصين الملمين

بأمور الشريعة، وكذا إذا تكلم مؤهلون متخصصون ولكنهم محسوبون على اتجاهات

أو جماعات؛ نُظر إلى اجتهاداتهم نظرات ريبة، خشية أن يكونوا ممثلين لآراء

حزبية معينة ذات خلفيات فكرية محددة.

لقد أظهرت الأحداث الأخيرة ظاهرة غياب (ولاية الأمر العلمية العامة)

وعندما نقول إن الأحداث أبرزتها، لا نقول إنها أفرزتها، فهي موجودة منذ أن

افترق السلطان والقرآن في أكثر بلدان المسلمين. وغياب الولاية العلمية لا يعني

بالطبع غياب أفرادها أنفسهم؛ فهم موجودون لم يخلُ منهم زمان، لقول الصادق

المصدوق صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي ألا يجمع أمتي على ضلالة

فأعطانيها» [١] . فالأمة لا تجتمع على ضلالة لوجود أهل العلم بالحق فيها.

ولكن.... إذا كان العلماء في هذه الأمة لا يجتمعون على ضلالة؛ فأين اجتماعهم

على الحق في عصرنا؟ بل أين نجد صوت (الجمهور) منهم على ذلك الحق في

أزمنة الأزمات والفتن التي نعيشها؟ !

السؤال المهم هنا: هل هذا الاجتماع المطلوب لولاية الأمر العلمية العالمية

للمسلمين هو مطلب شرعي، أم أمل قدري؟ ! بمعنى: هل هناك وسائل أخرى

غير الأماني والآمال يمكن أن توصل إلى هذا المطلب العادل العاجل الذي يطالب به

جميع المسلمين الصادقين؟ !

لا نجافي الحقيقة إن قلنا بأنه لم تبذل حتى الآن محاولة ترقى في شمولها

وعمومها وقوتها وقوامتها إلى مستوى هذه المسؤولية العامة المتطلبة للشمول والقوة

والقوامة. صحيح أن هناك محاولات بذلت ومحاولات لا تزال تبذل لإيجاد قيادة

شرعية علمية تمثل مرجعاً للمسلمين السُّنة في العالم وهي محاولات مشكورة مأجورة

بإذن الله لكننا نرى أن هناك ضمانات تتضمن بعض المحاذير يجب أن يستصحبها

أصحاب تلك المساعي؛ لأنها يمكن أن تتيح فرصاً أوفر لنجاح مساعيهم، ولعل

منها ما يلي:

١ - استشراف شمول الولاية العلمية أو المرجعية الموحدة لأكثر بلدان العالم

الإسلامي؛ بحيث تغطي بتمثيلها الحد الأوسع من الأوطان الإسلامية، بما يصلح

أن ينتج (إجماعاً) بالمعنى الشرعي، إذا ما احتاج الأمر إلى هذا الإجماع.

٢ - الانتباه إلى خطر النزوع إلى الحزبية أو الفئوية التي فتكت آفاتها بالكثير

من مشروعات التوحد في الحقل الإسلامي، حيث سيبرز هذا النزوع حتماً،

وسيحاول فرض نفسه على فرص الأداء الراشد لفريضة إعادة الولاية العلمية العامة.

٣ - التخفف من ضغوط الإقليمية والمحلية التي تختزل العالم الإسلامي

الرحب إلى نمط بقعة واحدة من بقاعه، دون نظر إلى التنوع الفكري الطبيعي أو

القسري في أرجائه وأنحائه.

٤ - اليقظة أمام الولوع بالاحتواءات «الرسمية» للعمل الإسلامي في بعض

البلدان؛ حيث إن مثل تلك الاحتواءات سوف تضفي بلونها الباهت وضوئها الخافت

ظلالاً رمادية من شأنها أن تطفئ بريق أي مسعىً جاد للخروج بالأمة من أزمتها

المزمنة والمتمثلة في تفرق الكلمة.

٥ - قد تحاول نزعات فردية نحت صيغ جماعية، تؤول في النهاية إلى

(تجمع فرداني) لن يستطيع أبداً أن يضطلع بمهام أمة مليارية، عانت الفردانية في

كثير من شؤونها.

٦ - اقتضاء العلم العمل شرط لا يصح التغاضي عنه؛ فمرجعية العلم تحتاج

إلى رجَّاعيين علماً وعملاً، وإلا فلا أمل في علم ولا عمل.

٧ - فصائل الحركة الإسلامية بعلمائها ودعاتها هي من أكبر الممثلين للواقع

الإسلامي، ولكنها ليست الممثل الوحيد؛ ففي الأمة شرائح عريضة غير منتمية إلى

تلك الحركات، وفيهم علماء فضلاء كثيرون، ومن الغبن أن يوضع هؤلاء خارج

الدائرة.

٨ - ويرتبط بالنقطة السابقة أمر هام، وهو ضرورة الالتزام المنضبط

والواقعي بالمنهجية الوسطية؛ وذلك بالتشبث بمنهج السلف دون التفاف عليه أو

التفات عنه انسياقاً وراء أوهام التقارب مع الفرق الضالة قديمة أو حديثة؛

فالمرجعية العلمية ميزان ولا يصلح الوزن إذا اختلت الموازين.

٩ - المرجعية لا تنفك عن المصداقية، وإذا فُقدت المصداقية لم تعد هناك

فائدة للمرجعية.

١٠ - سيأبى الشيطان لعنه الله كما هو دأبه، إلا أن يأخذ بحظ وافر من كل

جهد خالص لوجه الله تعالى، فليكن التحرر من حظوظ النفس جسر العاملين للتحرز

من حظوظ الشياطين، ولا يكون ذلك إلا بالتجرد وخلوص القلب في النصيحة لله

ولرسوله وللمؤمنين خاصتهم وعامتهم.

والله من وراء القصد،


(١) مسند الإمام أحمد، الحديث رقم (٢٥٩٦٦) ، (مسند القبائل) .