للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

مناهجنا.. آخر الحصون

[أزمة التعليم الديني في باكستان]

فيض الرحمن العثماني [*]

[email protected]

قبل أن نتكلم عن التعليم الديني في باكستان يحسن بنا أن نعرف نبذة من

تاريخ التعليم الديني في شبه القارة الهندية بشكل عام. ولفهم هذا التاريخ فهماً

صحيحاً لا بد أن نضع نصب أعيننا ثلاثة أمور:

أ - أن الهند موطن لأقدم الحضارات الوثنية ولها تقاليدها الحضارية العتيدة

وعاداتها وأساليبها الاجتماعية الراسخة التي تميزها عن غيرها من الحضارات؛

مما يجعل تأثيرها الحضاري بالغ الأثر حيث يصهر الأمم الوافدة إليها، ولذا سميت

بآكلة الأمم.

ويلاحظ أن المسلمين استطاعوا تغيير العادات والأساليب الاجتماعية في

البلدان الأخرى التي فتحوها أو وصلوا إليها حتى إنهم تمكنوا من تغيير لغات بعض

الشعوب؛ إلا أن تأثيرهم في هذه المنطقة ذات الميزات الخاصة (الهند) كان

ضئيلاً، بل نستطيع القول: إن الحياة الإسلامية التي عاشها المسلمون في الهند

تأثرت بالمؤثرات المحلية، وما زالت تلك التأثيرات واضحة جلية في حياة مسلمي

القارة إلى الآن.

ب - لم يأت الإسلام إلى القارة الهندية من جزيرة العرب مباشرة، وإنما أتى

ماراً بديار العجم، مما جعله يصل مشوباً بالاتجاهات الفكرية التي كانت سائدة في

تلك الديار.

ج - لم يبذل السلاطين المسلمون في الهند جهوداً كافية في نشر القرآن والسنة

مما كانت تحتاج إليها تلك المنطقة ذات المؤثرات المذكورة آنفاً.

ولهذه الأسباب المذكورة بقيت الهند بعيدة عن منابع القرآن والسنة الصافية

حتى قيض الله لها الإمام الجليل أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الشهير بشاه ولي الله

الدهلوي (١١١٤هـ ١١٧٦هـ) وأولاده من بعده وأحفاده.

الهند بين منهجين:

وفي حياة الإمام الدهلوي وضع العلاَّمة نظام الدين الأنصاري

(م ١١٦١هـ) منهجاً للعلوم العربية والإسلامية وهو ما اشتهر بالدرس

النظامي نسبة إليه، واستمر تدريس هذا المنهج طوال حكم المسلمين المغول

في الهند، وكان التركيز فيه منصبّاً على علم الصرف والنحو والمنطق والفلسفة

والفقه وأصول الفقه وعلم الكلام دون إعطاء القرآن والسنة ما يستحقانه من

الاهتمام. وقد أعطى الإمام الدهلوي وأبناؤه من بعده أهمية خاصة لتدريس

القرآن والسنة في مقابل المنطق والفلسفة وعلم الكلام.

وعلى كل حال فالدرس النظامي مع أن فيه ما فيه من سلبيات وإيجابيات ظل

يمد الهند الإسلامية بالمفتين والقضاة وقادة الجيش والشرطة وغيرهم من رجال

الدولة إلى أن دهمها المحتل الإنجليزي، وتمكن من بسط سيطرته على البلاد،

وأعلن تغيير نظام التعليم عام ١٨٣٥م، وكان يهدف من ذلك إلى نشر الثقافة

الإنجليزية الغربية، أو بمعنى آخر تغريب المجتمع الهندي، وقد قدم واضع النظام

الجديد اللورد ميكالي تقريراً إلى الحكومة البريطانية حول هذا المنهج قال فيه:

«نريد من هذا التعليم تكوين جيل من الهنود لونه ودمه هندي، وفكره وذوقه وأخلاقه

إنجليزية» . ثم تقدم المحتل نحو تحقيق هدفه خطوة أخرى معلناً في عام ١٨٤٤م

أن الوظائف الحكومية حكر على المتخرجين من المدارس التي أقامها، وقد كتب

أحد المسؤولين الكبار في أواخر عهد الإنجليز معلقاً على هذه الخطوة في كتابه

المعروف بـ (شهاب ناما) «وباتباع هذه السياسة وإحلال الإنجليزية محل

الفارسية لغة رسمية أصبح آلاف العلماء والفضلاء من المسلمين غير متعلمين عند

الحكام الجدد» .

وعندما رأى علماء الهند هذه الحال أدركوا الخطر الذي يتمثل في هذه الخطوة

الماكرة على العلوم الدينية حيث خافوا من اندثارها والقضاء عليها، فبدؤوا بإنشاء

مدارس غير رسمية، ففي عام (١٢٨٣هـ ١٨٦٣م) افتتحت مدرسة على هذا

النمط وهي مدرسة دار العلوم بمدينة ديوبند أسسها الشيخ محمد قاسم نانوتوي،

وأسس الشيخ سعادة علي مدرسة أخرى تعرف بـ (مظاهر العلوم) بسهارنفور،

وتعد هاتان المدرستان هما الأهم من بين كثير من المدارس والحلقات التي بدأت

تنتشر بجوار المساجد في أرجاء الهند، واستمر تدريس المنهج النظامي في هذه

المدارس مع التركيز على القرآن والسنة وعلومهما، حيث يلزم الطالب بدراسة

الصحاح الستة حتى سنة التخرج ومن ثم يرسله أساتذته إلى المكان المناسب حتى

يخدم الدين.

وإذا قلنا إن الإسلام في شبه القارة الهندية ظل حياً بفضل الله ثم بفضل هذه

المدارس فلا نكون مجانبين للحقيقة، فلولا هذه المدارس لامَّحى الوجود الإسلامي

من هذه المنطقة، أو نشأت صورة مشوهة للدين لا تمت إلى الإسلام الحق بأدنى

صلة.

التعليم الديني في باكستان:

ظل الوضع على ذلك المنوال حتى تقسيم شبه القارة الهندية عام ١٩٤٧م إلى

دولتين هما الهند وباكستان، فاستبشر العلماء بأن الدولة المسلمة الناشئة ستقيم

مدارس إسلامية تدرس فيها المناهج العصرية والإسلامية جنباً إلى جنب، إلا أنهم

صدموا بالواقع التعليمي الذي لم يتغير وخاصة الفئة التي ناصرت إقامة الدولة؛

ولذلك قرروا إنشاء مدارس أهلية على نمط (دار العلوم) بديوبند و (مظاهر العلوم)

بسهارنفور في كل أرجاء البلاد، فأصبح لكل اتجاه أو فرقة رئيسية مدارسها

الخاصة بها (الديوبندية، والبريلوية، وأهل الحديث، والجماعة الإسلامية،

والشيعة) ، ثم نشأت بعد ذلك خمس لجان عليا للمدارس، لكل طائفة لجنة تشرف

على مدارسها؛ حيث تعقد امتحانات تحت إشراف كل لجنة من هذه اللجان الخمس،

ويمنح الدارس بعد امتحان التخرج شهادة تسمى (شهادة العالمية في العلوم العربية

والإسلامية) ، وتعترف بها الحكومة كماجستير في العلوم العربية والإسلامية وتقبل

في المجال الديني فقط، وتمكن حاملها أن يكمل تعليمه في مجاله فقط حتى درجة

الدكتوراه، وبحكم أنها لا تؤهل صاحبها للسير في مجالات الحياة الأخرى ظل

الوضع الوظيفي والاجتماعي كما كان في عهد الإنجليز مع بُعد شاسع بين (الملا)

و (المستر) ، وهذا الوضع بدوره يتسع يوماً بعد يوم.

الحاجة إلى تطوير المنهج النظامي:

لقد كانت تجرى بعض التعديلات على المنهج النظامي من حين لآخر دون

إدخال تعديلات أساسية كان المنهج النظامي يفتقر إليها، ومن المسلَّم به أنه لا يمكن

التغيير في القرآن ولا السنة إلا أن بعض الكتب المقررة لتعليم الفنون الأخرى قد

تضعف الحاجة إلى تدريسها الآن، كما أن متغيرات العصر تقتضي إدخال مقررات

دراسية حديثة تواكب متطلبات الحياة المعاصرة؛ فعلى سبيل المثال يمكن إضافة

مادة اللغة العربية الوظيفية والإنجليزية وتعليم مقدمات العلوم التجريبية، بل يمكن

أن تدرس جميع المناهج الأدبية المقررة في المدارس الحكومية من الابتدائية إلى

الجامعة (بعد التنقيح) ولنا في ذلك تجربة خاصة سأذكرها في حينها، ولقد بدأت

بعض المدارس بتطبيق بعض ما ذكر إلا أن المسألة ستأخذ وقتاً لتعميمها على

مستوى المدارس كلها، ولا أظن أن علماءنا سيغضُّون الطرف عن هذه الضرورة

لوقت طويل.

المحاولات المعاصرة للسيطرة على التعليم الديني:

بدأ الصراع بين العقيدة الإسلامية والفكر العلماني منذ بدء إقامة الدولة

الباكستانية عام ١٩٤٧م، وهو مستمر إلى الآن. ولكن لم تهاجم منابع تعليم العقيدة

الإسلامية (المدارس الدينية) بهذه الصورة المنظمة والشرسة قبل الأحداث الأخيرة؛

فقد بدأ هذا الهجوم المنظم بعد خطاب الجنرال برويز مشرف يوم ١٢/١/٢٠٠٢م،

وتعد هذه الحملة جزءاً من مخطط عالمي للقضاء على العقيدة الإسلامية النقية

والتصور الصحيح للإسلام أو ما يطلقون عليه: تجفيف منابع التطرف، والذي

خصصت له مبالغ طائلة، وكان يتوقع تنفيذ المخطط على مهل، غير أن أحداث

الحادي عشر من سبتمبر والهجوم على البرلمان الهندي عجل خروجه قبل أوانه

المنتظر.

ويمكن القول منذ سنوات مضت إن الجو لتنفيذ هذا المخطط يهيأ عبر وسائل

الإعلام المختلفة التي يسيطر علىها الاتجاه العلماني، وقد استطاعت هذه الوسائل

أن تضع في أذهان العامة عبر الدعاية المسمومة التشكيك في الهيئات والجمعيات

الإسلامية والمنتمين إليها؛ مما هيأ هذه الأذهان للترحيب بخطاب الجنرال مشرف

بشكل عام، وإن كان عدد لا يستهان به من الشعب استاء من خطوات الحكومة غير

أن ردة فعلهم لم تظهر في الإعلام لضعف الإعلام الإسلامي داخل البلاد.

الآثار المتوقعة لهذه الحملة:

ويظهر أن أكبر أهداف هذه الحملة وكما يبدو من خطاب الجنرال مشرف هو

السيطرة على المدارس الدينية وخاصة مدارس الديوبندية التي كانت منطلقاً لكثير

من الحركات الإسلامية في الماضي من حركة المناديل الحريرية، وحركة ختم

النبوة التي استهدفت تكفير القاديانية، وحركة نظام المصطفى، إلى حركة طالبان

أخيراً، ولكن يبدو أن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد؛ لأن وراء هذه المدارس

أفراداً وجماعات تتعاون معها، وكذلك المنظمات الجهادية التي أسسها بعض

المتخرجين من هذه المدارس والجماعات الدينية السياسية؛ فهم ينظرون إلى مدارس

التعليم الديني على أنها معامل تفريخ لهذه المنظمات؛ ومن ثم فإن القضاء على هذه

المنظمات وإضعافها يبدأ من السيطرة على هذه المدارس.

ففي رأيي أن المخطط الذي يستهدف المدارس الدينية يريد أصحابه منه تحقيق

هدفين رئيسين هما:

١ - إماتة الروح الجهادية أو إضعافها.

٢- فصل الدين عن السياسة تماماً وحصره في المساجد.

وفي تصوري أن الهدفين المذكورين لا يمكن تحقيقهما بيسر في باكستان

للأسباب المذكورة قبل هذا، ثم إن (الملا) في شبه القارة الهندية شيء قوي

الشكيمة لا ينثني، يقف صامداً رغم الرياح العاتية، فلا يسهل القضاء على (الملا)

وإخماد صوته في هذه المنطقة، ودول الكفر كانت ولا تزال تدرك ذلك:

ولفهم المخططات المستقبلية للحكومة، وتصور رد الفعل المناسب على هذه

الخطوات من قبل المتأثرين بها.. لا بد لنا أن نعرف العناصر التي ستتأثر بالقرار

الحكومي ومدى حجمها؛ ومن ثم رد فعلها المتوقع على هذه الخطوات.

فالعناصر التي يمكن أن تتأثر بالخطوات الحكومية يمكن ذكرها فيما يأتي:

١ - المنظمات الجهادية ضد المحتل الهندي في كشمير.

٢ - المنظمات السنية والشيعية المتهمة بإثارة النزاعات الطائفية والتقاتل فيما

بينها.

٣ - المنظمات الدينية الثورية الجهادية داخل الدولة الباكستانية والتي لا ترى

صحة العمل الديمقراطي أو جدواه لتطبيق الشريعة، وتؤمن بالعمل المسلح لتحقيق

ذلك، مثل منظمة تنفيذ الشريعة المحمدية في مالاكند برئاسة الشيخ صوفي محمد

وشعارها الشريعة أو الشهادة.

٤ - الجماعات الإسلامية السياسية والتي تعتمد على العمل السياسي

والديمقراطي لتطبيق الشريعة، ومن أهمها: جمعية علماء الإسلام ويرأسها الشيخ

فضل الرحمن، والجماعة الإسلامية وأميرها القاضي حسين أحمد، وجمعية علماء

باكستان (البريلوية) وأميرها شاه أحمد نوراني، وجمعية أهل الحديث وأميرها

البروفيسور ساجد مير.

٥ - جماعة التبليغ والدعوة.

٦ - أئمة المساجد وخطباء الجوامع.

٧ - المدارس الدينية.

الآثار المتوقعة لهذه الحملة على العناصر الإسلامية المذكورة:

وبعد هذه المقدمة يطيب لنا أن نذكر العناصر المتأثرة بالخطوة الحكومية

ومدى تأثرها وردة فعلها المتوقعة بشيء من التفصيل.

١- المنظمات الجهادية:

يقول المثل السائر: «السياسة لا تحمل في صدرها قلباً رحيماً» ، وتصدق

هذه المقولة على الرئيس الباكستاني الذي كان بالأمس يدافع عن هذه المنظمات

بقوله: «إن هناك فرقاً بين الإرهاب وحرب التحرير، وهؤلاء يحاربون دفاعاً عن

الحرية وليسوا بإرهابيين» وفجأة تغيرت الظروف فتغير خطاب مشرف وظهر في

يوم ١٢/١/٢٠٠٢م على شاشات التلفاز معلناً للعالم أن هذه المنظمات منظمات

إرهابية يجب أن تحظر ويلقى قادتها وأعضاؤها العقاب، وبالفعل أُودِع كثير من

قادة وأفراد هذه المنظمات خلف القضبان الحديدية، ولنا أن نترقب الخطوة القادمة

ضد هذه المنظمات، وأتصور أن هناك احتمالين حول مصير هذه المنظمات:

الأول: إذا رضيت الهند بالمفاوضات حول كشمير بسبب الضغوط الدولية

عليها وبإجراءات مشرف الأخيرة، ونتج عنها حل سياسي لقضية كشمير والذي في

غالب الظن يتمثل في تقسيمها فستفقد هذه المنظمات مسوِّغ وجودها، ويطوى

بساطها، وسيفرج عن قادتها وأعضائها مع مراقبة تحركاتهم من قبل الحكومة،

وهذا أقوى الاحتمالين.

الثاني: ألا تعقد مفاوضات بين الدولتين أو لا تفلح بعد عقدها في إيجاد حل

مرضٍ لقضية كشمير، فسيصعب على الحكومة عندها السيطرة على هذه المنظمات،

وستتجه هذه المنظمات إلى العمل السري لتشارك بقوة في حركة تحرير كشمير.

٢ - المنظمات السنية والشيعية المتقاتلة:

أعتقد أن الحكومة جادة في القضاء على هذه المنظمات وإبقاء الحظر على

نشاطها وعقد محاكمات خاصة لأعضائها، وقد أنشئت لهذا الغرض محاكم خاصة

تتكون من قاضيين وضابط من الجيش لا تقل رتبته عن عقيد.

٣ - المنظمات الإسلامية الثورية:

هذه المنظمات تريد تطبيق الشريعة عن طريق الثورة والعمل المسلح دون

اللجوء إلى العمل السياسي، وأعتقد أن الحكومة ستقضي عليها وستبقي عليها

الحظر، وستواجه مصير المنظمات السنية والشيعية.

٤ - الجماعات الإسلامية السياسية:

أظن أن حكومة مشرف لا تريد التورط في صراع مع هذه الجماعات في

الوقت الراهن على الأقل، ولا تريد فتح عدة جبهات في وقت واحد خاصة أنه لا

توجد أي ضغوط لفرض حظر عليها؛ واعتقال قادة بعض هذه الجماعات التي

ساندت حكومة طالبان أمر مؤقت في رأيي.

٥ - جماعة التبليغ:

نشاط هذه الجماعة لا يطالها أي قانون، ولا تشكل أي مصدر إزعاج

للسلطات، ولا يتوقع معارضة الجماعة للخطوات الحكومية المتخذة ضد العناصر

المذكورة قبل هذا.

٦ - أئمة المساجد وخطباء الجوامع:

يبدو أن الحكومة قررت الضغط على هؤلاء وسلب حقهم في حرية التعبير

عن الرأي وتريد منهم ألا يتحدثوا أمام الناس إلا بما تمليه عليهم، وتريد توحيد

خطبة يوم الجمعة، وسأذكر ردة فعلهم على الإجرءات الحكومية فيما بعد إن شاء

الله.

٧ - المدارس الدينية:

الإجرءات التي تنوي الحكومة اتخاذها في حق المدارس هي:

أ - تسجيل المدارس الدينية.

ب - إضافة المواد العصرية إلى مناهجها.

ج - ضمان عدم تدريب هذه المدارس لأفرادها على الإرهاب حسب تعبيرهم.

د - ألا تؤسَّس المساجد والمدارس إلا بموافقة مسبقة من الحكومة.

ويمكن ذكر الموقف من هذه الإجراءات على النحو الآتي:

١ - التسجيل:

أظن أن تسجيل المدارس شيء طيب، وأغلب المدارس مسجلة مسبقاً، وكل

مدرسة تود ذلك، ولكن الحكومة كانت تماطل في ذلك، وأعرف شخصياً كثيراً من

المدارس في إسلام آباد تسعى للتسجيل منذ سنين لكن الحكومة لم تسجلها؛ فإن

أرادت الحكومة أن تسجل هذه المدارس وفق القوانين العامة للمدارس والمؤسسات

التعليمية الأخرى فأظن أن القائمين عليها لن يمانعوا في ذلك. وأثناء كتابة هذه

السطور ورد خبر مفاده أن مجلس اتحاد المدارس الإسلامية أبدى تعاونه في مجال

تسجيل المدارس وفق قانون المؤسسات التعليمية للدولة المعمول به سابقاً دون

التعديل فيه.

وأظن أن الحكومة إذا أرادت تسجيل المدارس حسب قانون جديد أو لوائح

خاصة فإن القائمين على هذه المدارس سيقاومون هذه الخطوة ويحق لهم ذلك.

٢ - أما إضافة المواد العصرية في مناهج المدارس الدينية، فإن المدارس

الدينية أدخلت سابقاً التعليم العصري بصورة أو بأخرى في مناهجها وحسب ما

تسمح لها ظروفها ومواردها المالية؛ فجامعة دار العلوم بكراتشي من أكبر

المؤسسات التعليمية الدينية في باكستان تشترط في القبول والتسجيل أن يكون

الطالب مجتازاً اختبار الثانوية الحكومية على الأقل.

وفي معهدنا معهد العلوم الإسلامية بإسلام آباد تدرس المناهج العصرية المقررة

لدى الحكومة إلى جانب المواد الدينية من الصف السادس إلى درجة البكالوريس.

فإذا كانت الحكومة تهدف من هذا الإجراء ما ذكرناه؛ فإنه من الممكن أن تضع

قانوناً لذلك بعد أن تكسب ثقة اللجان التعليمية الخمسة للمدارس الدينية.

٣ - المدارس الدينية والإرهاب:

في الحقيقة دأب الإعلام الحكومي والعلماني منذ سنوات على شن حملة

مغرضة على المدارس الدينية، حيث يتهمها بدعم الإرهاب وتدريب الإرهابيين.

ورغم أن أكثر هذه المدارس يقع داخل الأحياء السكنية وهي مفتوحة للجميع،

فإن أي حكومة باكستانية لم تستطع إثبات صحة هذه المزاعم؛ وعلى العكس من

ذلك فإن كل مسؤول في الدولة زار هذه المدارس صرح بأنها لم تتورط في الإرهاب،

ورغم ذلك لم يتوقف الإعلام العلماني عن هذه الحملة المغرضة. فإن كانت

الحكومة صادقة في محاربة الإرهاب فلتحارب تلك الجماعات العرقية وتضيق عليها

الخناق والتي ثبت بما لا يدع مجالاًَ للشك أنها أقامت حكوماتها داخل الدولة،

وأنشأت أماكن لتعذيب من يعارض اتجاهاتها، فلا يمر يوم دون أن نسمع خبراً عن

جرائمها البشعة من خطف وقتل وسرقة للسيارات وسطو على البيوت وترويع

للآمنين في الطرقات.

٤ - الترخيص لبناء المساجد أو المدارس (N. O. C) :

إن كانت الحكومة تهدف من هذا الإجراء منع إقامة وبناء المدارس والمساجد في

أراض ليست مخصصة لبنائها فهذا أمر لا يعارضه أحد.

أما إن كانت تريد من ذلك أن لا تقام مدرسة أو مسجد إلا بإذنها المسبق فالذين

يعرفون الوضع الاجتماعي الباكستاني يدركون أن الهدف من وراء هذا الإجراء

يكون هو منع إقامة المدارس والمساجد؛ لأن أكثر من ٧٥% من الشعب الباكستاني

يعيشون في قراهم أو أراضيهم الزراعية التي لا تطالها قوانين البلديات، وكذلك

الأمر بالنسبة للأراضي المحيطة بالمدن والتي يمتلكها الأفراد؛ فإن الإنشاءات عليها

لا تحتاج إذناً مسبقاً من الحكومة؛ فكيف إذا أراد شخص إقامة مسجد أو مدرسة في

أرضه التي يمتلكها؟ فالذي يجب أن يكون عليه الحال بالنسبة للمدارس والمساجد

أن تيسر لها القوانين أو على الأقل تطبق عليها قوانين بناء المنشآت الأخرى، فإذا

أصرت الحكومة على تطبيق قانون أو لوائح خاصة لبناء المدارس والمساجد على

أراض لا يطبق فيها نفس القانون على المنشآت الأخرى، فإن العلماء سيقاومون

هذه الخطوة الحكومية أيضاً.

الموقف من هذه الخطوات:

إن أقدمت الحكومة الحالية أو أي حكومة أخرى قادمة على هذه الخطوات أو

بعضها فإن ردة الفعل المتوقعة في تقديري على النحو الآتي:

١ - قيام جبهة موحدة وقوية من اللجان الخمسة للمدارس الدينية، وقد تكونت

باسم (مجلس الدفاع عن باكستان) التي سترفض جميع الإجراءات الحكومية التي

تهدف إلى السيطرة على الدعوة الدينية.

٢ - ستتعاضد جميع العناصر الإسلامية التي ذكرت من أجل الدفاع عن

حرية التعبير واحترام المساجد والمدارس الدينية؛ لأنهم ورغم اختلافهم في كثير

من الأمور يتفقون في هذا الهدف المشترك.

٣ - إن عامة الشعب بمختلف مستوياته الاجتماعية والذي يدعم هذه المدارس

من أيام الاحتلال الإنجليزي ولا يزال يزداد تعداده يوماً بعد يوم رغم الدعاية

المضادة، سيقف مع المدارس إن شاء الله، بل نتوقع أن يتمخض عن هذه

الإجراءات الحكومية ضد المدارس تعاطفاً شعبياً معها.

٤ - الجبهة القائمة باسم مجلس الدفاع عن باكستان ستقاوم (وقد بدأت بالفعل)

الخطوات الحكومية بالوسائل السلمية؛ فإن فرضت الحكومة الإجراءات الجديدة

بالقوة فإن ردة الفعل ستكون وخيمة وقوية ولا يمكن تصورها الآن، وستشترك في

المقاومة جميع المنظمات الجهادية والمنظمات الإسلامية الثورية والجماعات

الإسلامية السياسية، والحركات السنية والشيعية وجميع الأئمة وخطباء المساجد

وبعض أفراد جماعة التبليغ، وكذلك بعض المنتمين إلى الجماعات السياسية

الأخرى الذين لديهم قدر من التوجه الديني، بالإضافة إلى الكثير من أفراد الشعب

غير المنتمين إلى الجماعات، ويحملون في قلوبهم الود والاحترام للمدارس الدينية

والمساجد.

٥ - وفي ضوء ما ذكر فإن الساسة العقلاء والحريصين على مصلحة

باكستان يرون أن على الحكومة الباكستانية أن لا تضغط على العناصر الإسلامية

التي لا أحد يشك في أنها مخلصة ومحبة للوطن أكثر من غيرها، وأكاد أجزم أن

الحكومة لو اتخذت سبيل التفاوض وأرادت حل القضايا بطرق هادئة فإن (الملاَّ)

الباكستاني لن يرفض أي حل مناسب للقضية، فقد نشر خبر بتاريخ ٢٠/١/٢٠٠٢م

في الجرائد، أن جلسة عقدها «مجلس اتحاد المدارس العربية بباكستان» في ملتان

أصدرت قراراً ينص على أن الحكومة إذا اتخذت أي قرار بالتشاور مع اللجان

الخمسة للمدارس الدينية فإننا سنقبل الحل الحكومي برضى تام.

ولكنني أشك في نية الحكومة، فإن كانت الحكومة جادة في توحيد التعليم

الديني والعصري فلماذا لا تدرس المواد الدينية في مناهج المدارس الحكومية

بالكثافة المستحقة لها؟ !

٦ - وهناك فرضية تبرز إذا تخيلنا أن الحكومة سيطرت لبعض الوقت على

التعليم الديني في باكستان بالقوة، والمتوقع حينئذ أن تكون هذه السيطرة على

المنشآت والمباني فقط؛ لأنها لا تستطيع أن تدير المدارس الدينية وإن نجحت في

مدرسة أو مدرستين فإن الشعب الباكستاني لن يقبل بالخطباء والأئمة المتخرجين

منها.

وسيدِّرس العلماء الطلاب في بيوتهم كما كان الأمر قبل إنشاء المدارس بهذه

الكثرة الموجودة الآن، فإنني وكثيراً من زملائي درسنا في بيوت المشائخ وكنا

نعيش على الأرزاق التي تأتينا من بيوتات الحي؛ فالبنايات الحديثة هي نتاج

سنوات قليلة ماضية؛ إذ إن المدرسة ليست هي البناية أو المنشأة فحسب، بل إن

المدرسة تتكون في الأساس من طالب وكتاب وأستاذ؛ فمدرسة دار العلوم ديوبند

بدأت بأستاذ وكتاب وطالب واحد فقط تحت شجرة الرمان.

هذا الاحتمال وارد ويمكن أن لا تعود المدارس على النطاق الواسع إذا

سيطرت الحكومة عليها؛ ولكن رجال العلم سيزدادون، فإني أرى المدارس الدينية

وأتباعها منذ ما يزيد على خمس وثلاثين عاماً وهي تزداد عدداً، إلا أن عدد العلماء

المخلصين المتبحرين في العلوم قليل، فلعل البنايات والخدمات الجديدة أحرقت

وأتت على مزرعة الإخلاص ومع نهايتها سيعود الربيع إلى هذه المزرعة إن شاء

الله.


(*) مدير ومؤسس معهد العلوم الإسلامية، بإسلام آباد.